1
“ما أحملُه في صدري يقينٌ بأنَّ الحاكم يضمر لي السخط”.
هكذا رسخت قناعتي.
فما عاينتُ في رُبُع قرن إلا طالعًا أنكدَ لم يعرِف مثله أحدٌ من بني جيلي.
كان فاتحةُ أمري تبشِّر باليُمن.
فلقد شاء القدر أن أكون سليلة الدوق أفيلميون، البنتَ الوحيدةَ الثمينةَ لإحدى العشائر التي شادت صرح الإمبراطورية.
لكنَّ الأقدارَ، يا للأسف، عبست بوجهي؛ فخطف الموتُ الوالدين في حادث أليمٍ وأنا غضّة العود.
‘يا آيريس، قد أصبحتِ خاويةَ الظهر، وسأتكفَّلُ بوصايتكِ، فلتغمُركِ الامتنانُ لذلك.’
‘ولْيَستقرَّ بكِ المقامُ، من اليوم، في تلك الحُجيرةِ الضيقةِ النائية. أَوَليسَ ابنُ عمكِ ديمتري أولى بالفسحة الأرحبَ لما يحويه من متاعٍ وفير؟’
ثم جاء قريبٌ بعيدُ الدار فاستحوذ على القصرِ وعاثَ فيهِ وعائلتُه، واجترأوا عليَّ بالجور.
لا بأس، ذاكَ مما يُحتمل. بيدَ أنَّ أن تسريَ لعنةُ الفاجرِ فتُدثِرَ العائلةَ بأسرها وتُبيدَها، أَوَليسَ هذا من صنوفِ البغي المُفرِط؟
‘لستُ أنا، أنا، ربَّ أُسرة أفيلميون! ما قَدِمتُ إلى هنا إلا لأتولى رعايةَ ابنةِ أخي الأقربِ!’
ففرَّ عمِّي بعد أن حصدَ ما تبقَّى من صرَرٍ في القصرِ واحتجبه الزمانُ، واضطررتُ إلى النزوحِ عن حاضرةِ المُلْكِ وقد هُبطتْ رتبتي إلى منزلةِ العامة.
عَقِبَ ذلك، بعتُ ما تيسَّر من حُليِّي واحتفظتُ بالمالِ مُدخرًا، أترقَّبُ بزوغَ فُرصةٍ للاتجار. عند ذاك الحينِ بالذات، بدأ اليقينُ يتملَّكُني بأنَّ الحاكم يضمر لي الكراهيةَ حقًا.
‘ذاكَ المَعدِن. سأعقِدُ عليهِ الشِّراء.’
‘هذا الموضع؟ هل ستُبرِمين العقدَ جِدًّا؟
يا لها من سعادةٍ لي، فقد أرهقني تدبيرُ أمره.’
وبعدما عكفتُ على تقصِّي الأسفار واستجلاءِ البيانات، اهتديتُ إلى منجمٍ مهجورٍ يُشاعُ أنَّ قوَّةَ ‘المانا’ تسري في عروقه.
‘يا لوَجْدي، يا للأسف. كنتُ على أُهبةِ بيعهِ لكِ أيتها السيدة… لكنَّ ذا هيبةٍ ومنزلةٍ قدَّم العرضَ ذاتَه بالأمس. أستسمحُكِ عذرًا في هذا.’
فسبقني إليه غيري بيومٍ واحدٍ قبل إبرامِ عقدِ السَّلف.
ثُمَّ تناهى إلى سمعي أنَّ ذاك المَعدِن قد جادت أرضُه بأحجارٍ كريمةٍ سحريةٍ ضخمةٍ صافيةٍ تجاوزت المقاييس.
ولم يقتصر البلاءُ على ذاك فحسب.
‘أيَّ غبنٍ هذا الذي يرتكبُه هؤلاء الغِلمانُ الأصحَّاءُ في حقِّ أعمارهم؟’
‘أتتَّخذيننا أبناءً؟ لنبذلَ إذًا أرواحَنا فداءً لآيريس!’
‘دَعوا الأرواح جانبًا. جلُّ ما أُريده منكم هو جلبُ الثَّروة.’
عَمَدتُ إلى إطعامِ وإيواءِ فِرقَةٍ من الهائمين، بدتْ عليهم أماراتُ البأسِ اللازم لردعِ الوحوش الجسيمة، وصنعتُ منهم نقابةً للمُقتنصين.
‘يؤسفُنا حقًا. فنحنُ أيضًا نتوقُ إلى الظفرِ في مَعتركِ الحياة. وسنردُّ إليكِ الجميلَ في الدارِ الأخرى.’
أغواهم نبيلٌ بثمنٍ باهظٍ من الذهب، ووعَدهم بتقليدِهم لقبَ فارس، فاستاقهم إليهِ عن بكرة أبيهم.
وهؤلاءِ القومُ قد ظفروا باقتناصِ التنينِ -الذي تقاعس عن صيده فرسانُ الإمبراطورية- فاجتَنَوا ثروةً طائلةً وذِكرًا مدويًا.
لم يزل البلاءُ عند ذلك المُنتهى.
فما إن تبرقُ في خاطري خطةٌ بارعةٌ لاصطيادِ وحشٍ نادرٍ خطيرٍ وهو حيّ، حتى يبادرَني آخرُ وينفذَها ذاتها؛ وحينما كنتُ أكتشفُ دُرَّةً في الوحلِ تنبئُ بعلاقةٍ وطيدة، كان غيري يسبقني إليها ويستلبُها. لكنني لم أَخْضَع.
حشدتُ كلَّ ما تبقَّى لي من حطامِ الدّنيا لِأبتَاعَ لوحةً فنية.
‘إنَّ لكِ لبصيرةً نافذة. هل سيتَّسمُ أهلُ الإمبراطوريةِ بذاتِ نظركِ؟’
‘سأجعلُهم على هذا المنوال.’
بيدَ أنَّ الفنانةَ، وقبل أن يُبرَمَ الاتفاقُ بثوانٍ، نكثتْ عهدَها معي نكثًا فرديًا، واكتفتْ بإيجازِ القول: ‘الأمرُ قد خرجَ من سلطاني’.
واليوم، تزهو تلك اللوحةُ بأرفعِ الأثمانِ في أرجاءِ القارة.
“سُعال! سُعال!” يا لنسياني.
لقد أصابني أيضًا داءٌ مُهلكٌ بسببِ لَعنةِ الفاجرِ التي استوطنتْ في عائلتي. ورغم أنَّه ليسَ عِلةً مُستعصيةَ الشفاءِ بالكلية، إلا أنني عجزتُ عن تلمُّسِ الدواءِ بسببِ اشتعالِ نيرانِ حربٍ عارمةٍ في القارة.
“تَبًّا لي.” توقَّفتُ برهةً أتأمَّلُ حالي الرَّاهن.
أنا في مأوىً مُتداعي الأركانِ لا يكادُ يفي بحاجةِ المأوى، في هذا الصَّقيعِ القارس، أضطجعُ دونَ غطاء، ألُفِظُ الدماء، وأترقَّبُ حلولَ الأجل. أَهذه هي ختامُ مسيرةِ آيريس أفيلميون؟
صَريرٌ مُدَوّي- في تِلكَ اللحظة، رنَّ في سَمعي صَوتُ انفتاحِ بابٍ خشبيٍّ بَالٍ مُتآكِل، فكشفتُ عن ناظريَّ اللتين كانتا على وشكِ الانطباق.
كانَ قَدْ انتصَبَ شخصٌ في فضاءِ مَخدعي. فعقدتُ حاجبيَّ ناظرةً إلى وجهٍ لَمْ يكُنْ غريبًا عنّي.
“لِمَ أنتِ هاهنا…”
كانت هي المرأةَ التي ما كنتُ أطمحُ إلى لقائها. الشخصيةُ المتورِّطةُ في نكدي وبؤسي، ومالكةُ النصيبِ الأوفَرِ في مسيرتي التي باءت بالخسارة.
“أخيرًا، قد تلاقت بنا السُّبُلُ مرّةً أخرى.”
دنتْ من حافةِ السريرِ سيدةٌ نجيبةٌ ذاتُ هيئةٍ مترفة، بشعرٍ كالفِضَّةِ الخالصةِ وعينينِ تلمعانِ كلَونِ العُباب.
كانت آيةً في الحُسن. إنها حِكمةُ الإمبراطورية، والبصيرةُ التي تستجلي كلَّ مستور، والقِدِّيسةُ، ويُشاعُ أنها اليومَ لَمّاعةُ الذكاءِ في مضمارِ الأعمال.
تَدلّتْ على جيدها وذراعيها وهامتها حُليٌّ فائقةُ الثَّمنِ صُنعتْ من أحجارِ الجِنِّ أو الأحجارِ الكريمةِ السحرية، بيدَ أنَّ سِيمَاءَها الوَضيئةَ كانت أشدَّ منها بَهاءً.
“أنا غريس سيرڤيس، ابنةُ الدُّوق سيرڤيس.”
“غريس سيرڤيس… سُعال!”
اتَّسعتْ عيناها عندما عاينتني وقد كدتُ أستغرقُ في الاختناق.
“لقد بلغني أنَّ عِلَّتكِ قد استشرَتْ. ما توقَّعتُ أن تكونَ حالُكِ على هذا المآل. يا للأسى.”
“كيف… كيف اِجترأتِ المَجيء إلى هنا؟”
تناولتُ القَدَحَ المُشوَّهَ الذي وضعته بجوار السرير وتجرَّعتُ منه جرعةَ ماءٍ، فتمكَّنتُ بصعوبةٍ بالغةٍ من الإجابة.
غيرَ أنَّ السيدةَ لم ترُدَّ على تساؤلي.
“من المؤكَّد، بعد اتقادِ ضرامِ حربٍ كُبرى مع مملكة يُولكان، أنَّ العسيرَ قد أحدقَ بالمواطنين البُسطاءِ أمثالكِ في تدبيرِ أقلِّ الضروراتِ من قُوتٍ وكِساءٍ ومَأوى.” وتنهَّدتْ وهي تُجيلُ النظرَ في الأجواءِ المُتناثرةِ حولَها.
“ستُجَرُّ يُولكان إلى دفعِ الثَّمنِ إزاءَ إشعالِها الفتنةَ ضدَّ إمبراطوريتنا.
يذهبُ وَرِيثُ العرشِ الأول كارسييل إلى ضرورةِ إرساءِ مُعاهدةِ صُلح، غيرَ أنَّ الأمرَ سيؤولُ، كعادته، إلى ما تقضي به مشيئتي.”
نطقتْ بذلك في حزمٍ وهي ترمقني بنظرةٍ مباشرة.
فحسرتُ ناظريَّ وحدَّقتُ بها هُنيهةً ثم صرَّحتُ:
“إن لم تُفصِحي عمَّا ابتغيتِه، فلتغادري مكاني في الحين.”
“إنَّكِ تُضْمِرين لي الكُرْه.”
“لا جَدال في ذلك.”
رَمَقتني غريس بتعبيرٍ وادعٍ كمن أحاطَ بكلِّ جَلِيَّةٍ وخَفِيَّة.
“أَهُو بسببُ أنني أزحتُ لعنةَ الفاجرِ صوبَ عائلةِ أفيلميون؟”
فضممتُ حاجبيَّ أكثرَ وأنا أُمعِنُ النظرَ فيها، وهي تسألُ ببراءةٍ مصطَنَعةٍ وقد أمالت رأسها.
غريس سيرڤيس.
اسمٌ قد حُفِرَ في الذاكرةِ لا يُمحى أبداً. كان سوءُ طالعي مُتلاحمًا بها على الدوام.
منذُ ذاكَ اليومِ الذي أمالتْ فيه لعنةَ الفاجرِ، التي كانت قاصدةً حَرَمَ القصرِ الإمبراطوريّ، إلى أسرتي بحجةِ الإخلاصِ المزعوم.
في اللحظةِ التي وشَمَتْ فيها رمزَ عائلةِ أفيلميون على الثمرةِ القرمزيةِ، مُصرِّحةً أنَّه قضاءٌ لا مردَّ لهُ صونًا لحمى العائلةِ الإمبراطورية؛ إذْ إنَّ عشيرةَ الدُّوق هي وحدها القادرةُ على استيعابِ اللعنةِ بقوةٍ تضاهي بأسَ العائلةِ المالكة. لقد استبدلتْ لعنةُ الفاجرِ إقطاعيةَ عائلتي بيبابٍ وبثتْ في عروقي جُذورَ العِلَّة.
ومنذُ ذاك الأوان، تبوَّأتْ غريس سيرڤيس مقامَ القِدِّيسة. لقد اعتلتْ سدَّةَ البطولةِ على أنقاضِ اضمحلالي. إذَنْ، كيف كانَ مَسقطُي أنا؟ لم أعد أملِكُ إقطاعيةً ولا رعايا، فغدوتُ عاجزةً عن تسديدِ الجبايات. فجُرِّدْتُ من لقبي، وأصبحتُ مَدينةً إلا من بقيةٍ من الحُليِّ كنتُ قد ادخرتُها.
وبالطبع، أخذَ النبلاءُ يتهكَّمونَ بي جميعًا.
“لكنَّ هذا التضحيةَ كانت فداءً لِعِزِّ العائلةِ الإمبراطورية.”
هزَّت غريس رأسها كأنَّها تبرأُ من الإثم. وتلألأتْ عيناها الفاتنتانِ بوهج.
“أوَ لن يستبدَّ العُسرُ بكلِّ رعايا الإمبراطوريةِ إنْ نزلتِ اللعنةُ بساحةِ العائلةِ المالكة؟”
“…”
“إنَّ توجيهَ الملامةِ إليَّ هو تفكيرٌ قائمٌ على الأثرةِ ومُجافٍ للوفاء.”
عضضتُ على شفتيَّ بأقصى بأس.
وعلى الرغم من أنَّ الاعترافَ بذلك كانَ أثقلَ ما على نفسي، إلا أنَّ قولَها كانَ سديدًا.
فحتى الغُلامُ في عامهِ الثالثِ يدركُ أنَّ تضرُّرَ عشيرةِ الدُّوقِ خيرٌ من انهيارِ العائلةِ الإمبراطورية، التي هي عِمادُ الإمبراطورية. فأيُّ حُجَّةٍ كانَ بوسعي أن أسوقها ردًّا على كلامِها الذي يُمثِّلُ حقيقةً جلية؟
لأجلِ ذلك، لم يكن سَخَطي مُسَوَّغًا. لم أملِكْ أيَّ ذريعةٍ لتوجيهِ اللومِ إلى غريس.
كلُّ ما في المسألةِ أنَّ عشيرتي هي الطرفُ الذي اقتضتْ الأقدارُ أن تُنقلَ إليهِ تِلكَ اللعنة.
فابتسمت غريس وهي تراني وقد عُقدَ لساني عن النُطق.
“سِيمَاؤُكِ تنمُّ عن سَخطٍ عظيم.
أتفهَّمُ ذاك. فلقد اجتهدتِ في حياتكِ جِدَّ الاجتهادِ حقًا.”
“…”
“وأُدرِكُ كذلك أنَّ رؤيتي لا تُريحُ خاطركِ. ولن أكونَ أنا في راحةٍ أيضًا لو عاينتُ شخصًا حقَّق كلَّ ما تطلَّعتُ إليه خطوةً سابِقةً لِخُطاي.”
عند مُنتهى قولها، شعرتُ أنَّ فؤادي قد هَوَى.
“كيفَ يتأتَّى لكِ أن… كيفَ لكِ أن تدركي مسارَ حياتي؟”
فردَّت غريس ببسمةٍ أخرى عِوضًا عن إجابتي.
لم تكُنِ لعنةُ الفاجرِ هي وحدها ما جرَّتْهُ عليَّ من سوء. فالشخصُ الذي أنجزَ كلَّ المساعي التي جهدتُ في تحقيقها ثم خابتْ، بخطوةٍ واحدةٍ قَبْلي.
والشخصُ الذي ابتاعَ المَعدِنَ المهجورَ قَبْلي، وتعرَّفَ على ثُلَّةِ الهائمين ومنَحَهم لقبَ فارسٍ الذي لم أستطع أن أنصِبَهم عليه، والشخصُ الذي أتمَّ كلَّ الأفكارِ التي كنتُ أفخرُ بها بخطوةٍ واحدةٍ قَبْلي.
كانوا هؤلاءِ جميعًا غريس. ومع ظَفَرِ أعمالها الواحدة تلو الأخرى، ازدهرتْ شُهرةُ غريس وزادت.
‘اكتشافُ مَعدِنٍ مهجورٍ لا يضمُّ شيئًا، إنها حقًا لحكمةُ الإمبراطورية!’
‘منحُ لقبِ فارسٍ لنقابةٍ من العوامِ! في بدءِ الأمرِ ظننتُها قد جُنَّت. لكنَّها كانت لَبَصيرةً تسبقُ زمانها!’
‘يُشاعُ أنها خضعتْ التنين كانوس! إنها أشبهُ بمعجزة!’
لم يكن لي من حيلةٍ سوى احتساءِ الغُصَّةِ وأنا أصيخُ السمعَ للمديحِ المُكالِ لها. في بادئ الأمر، لم أستطِع أن أُسلِّمَ بالأمر. فقد خامرني شعورٌ بأنَّ أحدهم قد اِختلسَ حياتي.
ولكن، بعد تأمُّلٍ رصين، لم يبقَ أمامي مفرٌّ من القبولِ بالواقع.
كنتُ أنا وحدي من يحوي أسرارَ خططي التجارية بأكملها، ولم أدوِّنها حتى في مفكرتي. لا يمكنُ لأحدٍ أن يقتحمَ عقلي ويسرقَ خبايا فِكري.
لا ريبَ أنَّ غريس نفسها قد اِستشفَّتْ الإمكاناتِ المكنونةَ في المَعدِنِ، ونقابةِ القَنَص، واللوحةِ الباهرة، وكثيرٍ من الأمورِ الأخرى كما فعلتُ أنا، أو بخطوةٍ واحدةٍ سبقتني. ولكن، هل كانت غريس على عِلمٍ بأنني كنتُ أرمي إلى القيامِ بتلكَ الأعمالِ أيضًا؟
“إني على دِرايةٍ بذاك دونَ أن تُفصِحي. لأنَّني البصيرةُ التي تستكشفُ كلَّ شيء.”
أجابتْ غريس باقتضاب. عيناها الزرقاوان الكريمتان الفاتنتان.
النظرةُ التي تَمُدُّ البصرَ إلى مَدىً سحيقٍ وتُبصرُ ما لم يقعْ عليهِ بصرُ سواها.
وبالفعل، كانَ لِمحيا القِدِّيسةِ سِحرٌ كافٍ ليأسرَ العائلةَ الإمبراطوريةَ ورعايا المُلْك.
ورغم ذلك، كانَ القلقُ يتسرَّبُ إلى نفسي منها منذُ أمدٍ. يصعُبُ تحديدُ كُنهِه، لكنَّ سَمْتَها ومنطِقَها وقولها كان مُغايِرًا على نحوٍ عجيبٍ للصورةِ التي رسمتُها للقِدِّيسة.
وعقبَ أن أطلتُ التحديقَ في غريس بعضَ الوقت، فَتَقتُ شفتيَّ. كانَ ثمةَ أمرٌ وجبَ عليَّ استيضاحُهُ.
“… الثمرةُ التي نقلتْ اللعنةَ إليَّ.”
“ماذا؟”
فَغَرَتْ عينا غريس كأنَّها تتساءلُ لِمَ أثرتُ هذا الأمرَ على حينِ غِرة.
“حينما ارتقيتِ القصرَ الإمبراطوريَّ من إقطاعية سيرڤيس، أحضرتِ معكِ ذخيرتين: ثمرةٌ قُرمزيةٌ مخصصةٌ لـ ‘النقل’ وأخرى زرقاءُ لـ ‘التطهير’. كُنتُ دُوقةً سابقةً، وهذا القدرُ من المعرفةِ لديَّ.”
“هذا صحيح. في ذاكَ الوقت، كنتُ قد حزتُ بالفعلِ على لقبِ القِدِّيسة…”
“دائمًا ما راودني التساؤل. لِمَ واجهتِ الفاجرَ بالثمرةِ القُرمزية؟ لِمَ ارتأيتِ النقلَ وصنعتِ ضحيةً جديدة، فيما كانت ثمرةُ التطهيرِ بينَ يديكِ؟”
سعت غريس لتفاديَ بصري، لكنْ كُلَّما انحرفتْ، زدتُ في حدَّةِ نبرتي.
“إن لم تُردي الحوارَ معي، فلْتُجيبي. كانَ بوسعكِ أن تقضيَ على لعنةِ الفاجرِ بكلِّ سهولة، فلِمَ حوَّلتِها إلى عشيرتي؟”
“… لأنَّني كنتُ على يقينٍ بأنَّ كارسييل سيكونُ بحاجةٍ إلى ثمرةِ التطهيرِ الزرقاء.”
فتخلَّتْ عن تفادي بصري ورمقتني مُباشرةً.
“وَريثُ العرشِ الأول؟ لِمَ افتقرَ إلى التطهير؟”
“في ذاك الحين، كانَ يُضمرُ عِلَّةً، لكني اِطَّلعتُ على أنَّه مسمومٌ بزُعافِ شوكةِ القرن. كانَ مُحتاجًا إلى حجرِ التطهيرِ لعلَّةٍ عجزَ أطباءُ القصرِ الإمبراطوريّ عن بَرئِها.”
“زُعافُ شوكةِ القرن؟ إذَنْ، الداءُ الذي نَال من سُمُوِّ الوريثِ الأولِ كانَ…” فرفعتُ حاجبيَّ دهشةً.
كانت تلك الروايةُ سائرةً بينَ النّاس: أنَّ وَريثَ العرشِ الأول كارسييل كانَ يُخفي مرضًا لا يُفصحُ عنه، وأنَّ غريس اِكتشفتْ أمرَهُ على غيرِ ميعادٍ وتولَّتْ عِلاجه، وبِذلكَ حازتْ على ثقةِ العائلةِ الإمبراطورية.
فهزَّتْ كتفيها كمن يستفسرُ إن كانَ ردُّها قد أوفى بالغرض.
“أَيَكفيكِ هذا الآن؟ حتى إنِ اِعتراكِ الشعورُ بالغَبْن، فليسَ منهُ مَحيد.” استخلصتْ قَولها وهي ترمقني بِتجبُّرٍ كأنَّها قد أبدتْ لي ما يكفي من المَنّ.
“لقد اِتخذتُ أرجحَ قرارٍ خدمةً للإمبراطورية. أنقذتُ العائلةَ الإمبراطوريةَ والوريثَ بِبصيرتي التي تستجلي كُلَّ أمر. لم يكن في الوُسعِ اِجتنابُ تضحيتكِ…”
“… بُهتان.” أطلقتُ الكلمةَ في بَردٍ قارسٍ بعدَ أن حصدتُ ما يكفيني.
“… ماذا اِدَّعيتِ؟”
رَفَعت غريس نظرَها إليَّ بمحياَ من لا يُصدِّقُ ما وَقعَ في أذنيه.
“ماذا الذي تفوَّهتِ بهِ…”
“هذا بُهتان. كلُّ ما تنطُقينَ بهِ لَهْوٌ من الزُّور.”
انتصبتُ بجسمي الذي كانَ مُتَّكِئًا جزئيًّا على الجدارِ ورمقتُ عينيها.
وكلَّما تَمادى تلاقي أبصارنا، اِزدادَ يقيني رسوخًا.
“أنتِ لستِ بقِدِّيسة. ولستِ مُصطفاةً من الحاكم أيضًا.”
“ما هذا… ما هي الحُجَّةُ التي تسوقينها لإطلاقِ مثلِ هذا الزَّعم؟”
سألتْ غريس كمن استغلقَ عليهِ الفهم، فارتسمتْ بَسمةٌ خفيفةٌ على ثغري.
“أنتِ مُجرَّدُ مُدَّعيةٍ ماكرةٍ تَعْبثُ بالعائلةِ الإمبراطورية.”
شعرتُ أنَّ رأسي قد صفا من الكَدَرِ بعد أن اِنحلَّ الارتيابُ الذي طالَ أمده.
“أولًا، مُعالجةُ وَريثِ العرشِ الأول. زُعافُ شوكةِ القرنِ عَسِرُ التَّشخيص، بيدَ أنَّه متى حُدِّدَتِ العِلَّةُ، وُجِدَتْ طُرقٌ لِبَرئِها. إنها لَوصفةٌ رائجةٌ في القارةِ الشرقيةِ وذاتُ أثرٍ بالِغ. قد يجهلُها أطباءُ القصرِ الإمبراطوريِّ الذين تخرَّجوا من المدارسِ الملكيةِ في القارةِ الغربية، لكنْ لا يستقيمُ للبصيرةِ التي تستكشفُ كلَّ شيءٍ أن تغيبَ عنها تلكَ الحقيقة.”
“… ماذا تفوَّهتِ؟”
في لَمْحِ البصرِ، اِرتجفتْ عيناها الزرقاوان.
فتملَّكني شيءٌ من الاِرتياحِ وواصَلتُ حديثي.
“ثانيًا، هذه القارةُ التي تضطرمُ فيها نيرانُ الوَغى. ورفضُكِ مساعيَ الصُّلحِ مع يُولكان. إنَّ الإمعانَ في هذهِ الحربِ المُهلكةِ حتى إخضاعِ يُولكان ليسَ مجرَّدَ قسوة، بل هو اختيارٌ أخرق. فحتى لو حالفكِ الظَّفَرُ، ستكونُ خسائرُ الإمبراطوريةِ فادحة، ولن تُخمدَ يُولكان المُخضَعةُ قسرًا جذوةَ الثأرِ أبدًا.”
“كيفَ لكِ أن تَجزِمي بذاك…”
“ثالثًا، ناظراكِ.”
حاولتْ غريس أن تسترسلَ في الردِّ، بيدَ أنني قَطعتُ عليها القول.
“ناظراكِ اللذان يُوحيانِ بأنَّ كلَّ خيارٍ كانَ إِخلاصًا للإمبراطورية، مُشعَّانِ بفرط.”
“…”
“كأنَّكِ لا تُطيقينَ كتمانَ زهوِكِ بأنَّكِ تحتفظينَ بِردودٍ عتيدةٍ لكلِّ حنقٍ أُضْمِرُه.”
اِنقضَتْ سنونَ طوالٌ على سلبي من اللقبِ وتنقُّلي بينَ الدروب. لقد اِجتزتُ سيلًا من النظراتِ لا يُحصى.
نظراتُ الرِّفق، نظراتُ الثقة، نظراتُ الوُدِّ المُجرَّدِ من الشروط، نظراتُ المُخادعينَ الذين يسحرونَ القومَ بالحديثِ المعسول، ونظراتُ أولئك الذين يرصدونَ في صمتٍ شقاءَ سِواهم. لم يكن التمييزُ بينها عسيراً عليّ.
لم يختفِ عنّي كونُ غريس تتلذَّذُ بأوجاعي.
فكانت نظرتُها التي سارعتْ لتفحَّصَني لحظةَ وُلوجها الكوخَ، وزاويةُ ثَغرِها التي اِنتفضتْ بمجرَّد أن اِستشعرتْ مَسكنتي، كافيتينِ للدلالةِ على ذلك.
“أنتِ لستِ بِحكيمة. ولستِ بقِدِّيسةٍ أيضًا. ولستِ مُلِمَّةً بالمشهدِ السياسيّ، بل لديكِ مجرَّدُ مَعارفَ ضيقةٍ تخصُّكِ دونَ غيركِ.”
“…”
“حتى لو كنتِ تستقرئينَ الغيبَ بقوةٍ غامضة، فإنَّ رؤيتكِ تظلُّ محدودةً للغاية، ولقبُ حكمةِ الإمبراطورية… سُعال!”
قُبيلَ إتمَامِ حديثي، اِنتابتني سُعالَةٌ عنيفةٌ كأنَّها نوبةٌ فجائية. يبدو أنني أرهقتُ جوارحي فوقَ طاقتها.
لم تتبدَّل غريس لِتُقدِّمَ لي الماء، ولم تمسحْ على ظهري مستفسرةً عن عافيتي.
بقيتْ جامدةً كالتِّمثال، تحدِّقُ بي بعينينِ ساكنتينِ وقد زالَ عنهما كلُّ أثرٍ للتصنُّع.
“آه.”
أخيرًا، فَتَحتْ شَفَتيها المرتعشتينِ ونطقتْ:
“كنتُ أَعتقدُ أنَّ الوصفَ كانَ فيهِ مُبالغةٌ في النصِّ المُنَزَّل، لكنَّ سُرعةَ عملِ ذِهْنِكِ، حقًا، ليستْ مَحَلَّ هَزْءٍ، يا أنتِ.”
التعليقات لهذا الفصل " 1"