الفصل التاسع
وأخيرًا، وصلنا إلى بيت العائلة في العاصمة.
ما إن وقع بصري على منزل أبي الأصلي حتى أفلتت منّي آهة إعجاب دون قصد.
“واااه… إنّه حقًّا… حقًّا ضخم!”
وراء البوابة العظيمة بدا أوّل ما يُرى، حديقة خضراء تمتدّ على مساحة تبدو كأنّها عشرة آلاف متر.
تمثال من الرخام يحمل جَرّة ماء، يتوسّط نافورةً تتلألأ تحت الشمس.
وأشجار الزينة المصطفّة على جانبي الممرّ المزدان بأقواسٍ من زهور الربيع، تُظهر عناية بالغة وجمالًا منسّقًا.
ثمّ خلف كلّ ذلك، ينتصب القصر الأبيض المهيب على هيئة الحرف (ㄷ).
‘أهذا معقول؟ قصر بهذه الضخامة في العاصمة الضيّقة المساحة؟’
كنت أظنّ أنّه سيكون عظيمًا، ولكن…
ما رأيته بأمّ عيني من فخامة قصر آل روبنشتاين تجاوز كلّ ما قد تتصوّره مخيّلتي المتواضعة.
ظننت أنّ أبي الذي قضى سبع سنوات في الريف سيُبدي دهشةً من هذا المشهد، لكن وجهه بقي هادئًا كعادته.
مدّ يده وشدّ الحبل المعلّق على البوابة ليُعلن قدومه.
“ها؟ أ، أبي! انتظر قليلًا!”
“مم؟ لِمَ؟”
“أحتاج أن أُهيّئ نفسي أوّلًا!”
“هاهاها! لا داعي للقلق يا أميرتي.”
أترى… ألا يشعر بالتوتّر؟ إنّهم أهله بعد سبع سنوات كاملة من الفراق!
أعرف أنّ بين جدران هذا المكان أشخاصًا ورد ذكرهم في القصّة الأصلية، وإن لم يظهروا كثيرًا.
ذلك الخادم الطيّب الذي كان يُحسن إلى البطل – أعني والدي – وهو الّذي ربّاه كابنٍ له، والجنود المرحون الذين كانوا يتدرّبون معه كلّ يوم،
ثمّ…
‘جدي.’
والد إينوك روبنشتاين، الجدّ نورديك روبنشتاين.
ذاك الرجل الذي كان حضوره في الرواية قليلًا، لكنه كلّما ظهر أضفى هيبةً تزلزل الصفحات.
نبيلٌ حتى العظم، وذو قوّةٍ من رتبة دوس مثل أبي،
حتى في الكلمات المسطورة كان الوقار يفيض منه كأنّه يُشعّ من الورق ذاته.
كنت خائفةً ومتحمّسة في آنٍ واحدٍ للّقاء به، لأنّه في القصّة كان رجلاً طيّبًا مع تشيستر، ذلك الطيب الذي يتظاهر بالبرود بينما يحرص في الخفاء على من يحبّهم.
‘أتمنّى أن يعاملني بلطفٍ أيضًا… لكن ذلك صعب، أليس كذلك؟’
ارتجف قلبي قليلًا.
بعد ثلاث دقائقٍ تقريبًا، أقبل الخادم العجوز مهرولًا ومعه قرابة عشر وصيفاتٍ بثياب الخدم، وفتحوا البوابة على عجل.
“أوه، أوه،السيّد الصغير… إنّها… معجزة! لقد عدتَ حقًّا!”
“آه، ريم! مرّ زمن طويل، ريم*.”
موروها. تخيل تكون رحال مسبع مربع ومعنى اسمك انثى الغزال
نعم، إنّه الخادم ريم العجوز!
ذلك الرجل الطيّب الملامح كادت عيناه تدمعان وهو يحدّق طويلًا في أبي.
لكن ما إن وقعت عيناه عليّ حتى انتفض فجأةً وصاح:
“أوه! يا للعجب! إذًا هذه هي…! لا يُصدّق!”
ازدردت ريقي وأنا أرفع طرف ردائي قليلًا وأُؤدي تحيّةً مؤدّبة.
“أ، أهلًا. اسمي ليريس.”
“آه! أه، تشرفنا، الآنسة ليريس. أنا ريميون سانتوس، ناديني ريم فقط، من فضلك.”
أخذت يداه ترتجفان ارتجاف من به رجفةُ يده، ثمّ التفت إلى الوصيفات خلفه.
إحداهنّ وضعت يدها على فمها، وأخرى أمسكت رأسها، ووجوههنّ جميعًا تنضح بالذهول.
“يا إلهي… إنّها كالملاك.”
“تشبه السيّد الصغير تمامًا!”
“إنّها… شديدة اللطافة… هـ!”
أحسست ببعض الارتياح وأنا أراقب ردود أفعالهم.
كنت أخشى أن يُقابَل قدومي بالريبة، لكنّهم بدَوا ودودين أكثر مما توقعت.
“إلى متى ستبقيننا في الخارج؟”
“آه! أين ذهب عقلي! أعذراني، يا سيّدي الصغير، ويا آنسة ليريس. خمسون عامًا عشتُها، وما مرّ بي لحظةٌ كهذه!”
“لا تُبالغ، ريم.”
ضحك أبي قليلًا وأمسك بيدي متبعًا الخادم الذي تقدّمنا نحو الداخل.
استغرق عبور الحديقة خمس دقائق كاملة.
وريم لم يتوقّف عن الثرثرة لحظةً واحدة.
“بلغنا أن فرسان الهيكل تلقّوا أمرًا ملكيًّا للذهاب لإحضاركم يا سيّدي، لكن، بصراحة، لم يكن أحدٌ منّا – ولا حتّى السيّد الكبير – يتوقّع عودتكم حقًّا.”
“إذًا سيتلقّى أبي صدمة حين يراني.”
“بل سيفرح أشدّ الفرح! أما أنا… فلم أكن أظنّ أنّي سأراك قبل موتي.”
غصّ صوته وكأنّ الدموع تخنقه.
“آه، صحيح، السيدة أوريديا هنا أيضًا.”
“أختي؟!”
قالها أبي بدهشة، فغشيني الذهول بدوري.
إن كانت أخته، فهي عمّتي إذن.
“نعم، جاءت لأنّها رجت أن تعودوا يومًا، وهي تقيم هنا مع أبنائها منذ أسبوعين.”
كنت أعلم أنّ لأبي أختًا كبرى، لكنه لم يُذكر اسمها قطّ في الرواية.
‘يا إلهي… هذا حقًّا واقع!’
كلّ أولئك الذين كانوا مجرّد أسماء في سطورٍ بعيدة صاروا الآن بشرًا من لحمٍ ودم أمامي.
وما إن سمعت اسم عمّتي حتى أحسست أنّ الواقع يُطبِق عليّ بكلّ ثقله.
“سأأمر بأن يُعدّ العشاء الليلة أعظمَ ما أُقيم في هذا القصر، إنّ الحماسة تغمرني!”
قال ريم وهو يقبض يده بحماسة، ثمّ قادنا إلى داخل القصر العظيم.
‘يا إلهي…’
هذه المرة كتمت شهقتي في صدري كي لا أبدو ساذجة.
‘إنّه… قصر ملكيّ بكلّ معنى الكلمة.’
لا كلمة تصف ما رأيته سواه.
خلافًا لبرودة الواجهة البيضاء، كان الداخل يغمره دفء الخشب المصقول.
أرضيات مفروشة بسجادٍ فاخر، وسلّمان عريضان يتقابلان في هيئةٍ مقوّسة شامخة.
حين رفعت رأسي حتى كاد عنقي يؤلمني، رأيت الطوابق العليا مزدانة بلوحاتٍ نادرةٍ وأُطرٍ مرصّعةٍ بالجواهر، وتُطلّ من بينها شمعدانات ذهبية متلألئة.
‘أهي… من ذهبٍ حقيقي؟ لا بدّ أنّها كذلك.’
شعرت أنّ هذا المكان لا يليق بي، فضاق صدري قليلًا.
قبضت على يد أبي بقوّة، فنظر إليّ مبتسمًا.
“ما الأمر، يا أميرتي؟”
“لا… لا شيء.”
ليس أبي فحسب يخفي قوّةً عظيمة، بل ثروةً أيضًا.
“سأذهب لأُبلغ السيّد الكبير بقدومكم…”
“لا، لا حاجة. أعرف الطريق. في غرفته المعتادة، أليس كذلك؟”
“بلى.”
“حسنًا، عد إلى عملك إذن.”
صعد أبي السلالم إلى اليمين بخطى واثقة، وأنا ألهث وراءه.
‘إنّي أرتجف! النجدة!’
عضضت شفتي اليابستين مرارًا.
وحين بلغنا الغرفة الأولى في الطابق الثاني، فتح أبي الباب فجأة.
“آه، أبي! انتظر لحظة!”
لم أجد فرصةً لأتجمّع أو أتهيّأ.
انفتح الباب على مصراعيه.
رجلٌ مسنّ يجلس أمام مكتبٍ من الماهوغاني، وبجواره امرأةٌ تقف تحدّثه.
التفت الاثنان نحونا معًا.
“يا للعجب… إينوك!”
شهقت المرأة ووضعت يدها على فمها.
شَعرٌ فضيّ مرفوعٌ بعناية، وعينان زرقاوان تشبهان عيني أبي تمامًا.
لا شكّ أنّها عمّتي.
“لقد عدت، يا أبي.”
قالها أبي ببرودٍ كأنّه خرج بالأمس وعاد اليوم فحسب.
ردّ الجدّ عليه بوجهٍ جامد.
‘يا إلهي، ما أعتاه!’
كان يشبه أبي إلى حدٍّ كبير، غير أنّ جسده الضخم وحضوره الطاغي جعلاه أكثر رهبة.
تسريحة شعره المرتّبة، وجلسته المستقيمة، وهيبته التي تفيض حتى وهو صامت… كلها كانت تصرخ بالنُّبل والسلطة.
‘إنّه مخيف.’
على خلاف عمّتي التي دمعت عيناها وهي تحدّق بي، كان الجدّ ساكن الملامح إلى حدٍّ مرعب.
نهض ببطءٍ واقترب منّا. وكلّما اقترب، تبيّن لي أنّ فكه يرتجف غضبًا، وأنّ نظراته تكاد تقتل.
ولم يلتفت إليّ إطلاقًا.
“أتُراك…”
صوته كان كالرعد المكتوم.
غضبُه مفهوم، فمهما كان الشوق، لا بدّ أنّ الغضب أيضًا يعتمل في صدره.
فأبي ترك القصر بلا وداع، وغاب سبع سنواتٍ من دون أن يُرسل رسالة واحدة.
“لقد شِبتَ كثيرًا، يا أبي… يؤلمني رؤيتك هكذا.”
“أيها الوقح!”
“أبي، أمامك طفلة!”
رفع الجدّ يده كأنّه سيصفعه، لكن عمّتي صاحت بصوتٍ حاد، فتجمّد في مكانه.
عندها فقط، انخفض بصره إليّ للمرة الأولى.
كنت أرتجف وأنا أقبض على سروال أبي، وحين التقت نظراتنا انكمشت غريزيًّا وخفّضت رأسي فورًا.
لقد كان… كالنمر.
إن تحوّل نمرٌ إلى بشر، فسيكون كهذا الرجل بالضبط.
“وهذه… ابنتك؟”
“وهذه؟ أتقصد حفيدتك يا أبي؟”
“سبع سنواتٍ وأنت تربيها وحدك دون أن تُرسل خبرًا واحدًا؟”
كان صوته باردًا كالحديد.
عندها أيقنت أنّه، كما خشيت، يحمّلني ذنب ذلك الغياب.
‘نعم… إنّه يظنّ أنّي السبب في فراقه عن ابنه كلّ تلك السنوات.’
الجاه، والسلطة، والحياة النبيلة… كلّها تركها أبي حين أخذني ورحل، فقط ليحفظني من أن أُنشّأ كصاحبة قوّةٍ مثلهم.
كلّ شيءٍ فعله كان من أجلي أنا.
‘لو كنتُ مكانه، لبغضتُ طفلةً مثلي أيضًا… توقّعت هذا، أليس كذلك؟’
سبع سنواتٍ من شبابه قضاها بعيدًا عن أسرته بسببي، فكيف أرجو من جَدّي أن يراني بعين الرضا؟
‘ليريس، يا حمقاء… لا تحزني، كان هذا متوقّعًا. لا أحد يرغب في حفيدةٍ جلبت الفُرقة، وإن كنتِ لا تودّين أن يُبغضك أحد…’
فتحت شفتي المرتجفتين وتمتمت بصوتٍ خافتٍ يكاد لا يُسمع:
“أنا… أعتذر… حقًّا آسفة…”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"