كان من المؤسف أنّ العينين الخاويتين بدتا كالميّتتين، غير أنّ الغلام كان يملك جمالًا لا يوصف إلا بأنّه مميّز.
‘أنا متيقّنة! إنّ الملامح تزداد جاذبية شيئًا فشيئًا كلما ارتقينا نحو دور البطولة!’
وهكذا أدركتُ على نحوٍ طبيعيّ قوانين هذا العالم.
وأنا أيضًا لطيفة أكثر من أن أُعدّ مجرّد شخصية هامشية. ألم تمدحني عمّتي سوزان مدحًا حتى جفّ ريقها في فمها؟
‘فاتضح أنّني لستُ مجرّد هامش أيضًا. ما بالُ هذا الدور أصلًا؟ إنّني—’
وفجأةً شعرت بألمٍ في رأسي من جرّاء التفكير بوجودي. فحاولت ألّا أفكر عمدًا.
‘آه. عليّ أوّلًا أن أُبعد همومي جانبًا.’
نعم، فمشاعري كانت تقول إنّ هذا الصبي هو “تشيستر”.
شَعرٌ أسود وعيونٌ حمراء.
أوّل ما يلفت أنّ ملامحه تُشبه الوصف الوارد لهيئة تشيستر. ولو بحثتُ عن غلامٍ ذي شعرٍ أسود وعيونٍ حمراء، لوجدتُ غيره من الصبية، بطبيعة الحال.
لكن—إنّها الحالة بعينها التي فيها “إينوك روبنشتاين”، “بطل الرواية”، يعثر على “صبيّ وسيم” ذي “شَعرٍ أسود” و”عيونٍ حمراء”.
وليس هذا من قبيل المصادفة.
بل لا بدّ أنّه تابع مجرى القصة الأصليّ بنسبة مئة في المئة.
“مـ، ما اسمك؟”
“…”
لم يُجب الغلام عن سؤالي المفاجئ.
حسنًا. ما دام متحفّزًا، فليس من اليسير أن يفتح فمه.
“أيها الصغير، هل يؤلمك كثيرًا؟ أتستطيع أن تنهض؟”
وحين مدّ أبي يده، رمق الغلام اليد لحظةً ثم نهض وحده. وبعدها عرَج متجاوزًا إيّانا.
“انتظر لحظة، أيها الفتى.”
طَق—!
يد أبي، التي حاولت أن تمسك بيده، ضاعت في الهواء.
نظر الغلام إليّ وإلى أبي مرّةً أخرى بالتناوب، ثم مضى رويدًا بعينين خاليتين.
“أيها الصغير، قف!”
“ليريس.”
قال أبي مبتسمًا بمرارة، وهو لا يزال ينظر إلى ظهر الغلام المتلاشي:
“أتعلمين يا أميرتي. هنالك كثيرون ممّن لا يُحبّون النبلاء.”
“آه، نَعَم.”
“إنّه غير مرتاح، فلنُساعِده إلى هذا الحدّ وحسب.”
غير أنّ أبي، برغم قوله ذلك، ظلّ يرمق الغلام بنظره حتى خرج من الزقاق. فأطلقتُ ضحكةً في داخلي وأنا أرى أبي ينجذب نحوه لسببٍ ما.
‘هذا من صُلب الرواية، يقينًا. إنّ العمل الأصلي يسير بخُطى ثابتة.’
فلعلّ هذه كانت أول لقاءٍ بين إينوك روبنشتاين وتشيستر، وقد تمّ بمحض الصدفة.
“هيا بنا يا أميرتي.”
“نَعَم.”
أمسك أبي بيدي وشرعنا نمشي ثانيةً في صمت. وكان رأسه مثقلًا بالأفكار، وهذا بدا جليًا.
فرغم أنّ سبعة أعوام مضت على عودته، إلّا أنّ حقيقة هذا البلد الفاسد لم تكن بعدُ مريحةً له. وأضف إلى ذلك قلقه من أنّ ابنته لا بدّ أن تألف يومًا العيش هنا.
وكان قلبه ينجذب بغرابةٍ إلى ذاك الغلام الذي التقيناه منذ قليل.
وأحسب أنّه كان… يفكر في أمرٍ كهذا.
“أبي.”
شدَدتُ على يد أبي التي أمسكتُها بحذر.
“نَعَم، أميرتي، ماذا هناك؟”
“تعلم، ألَا يمكنني أن أصادق من أشاء؟”
“ما معنى كلامك؟”
“أنا ابنة نُبلاء. أليس كذلك… إذًا لا أستطيع أن أكون صديقةً لعوامّ الناس، صحيح؟”
سكت أبي لحظةً أمام سؤالي.
إينوك روبنشتاين. الثائر النزيه الذي يشكّك في هذا التدرّج الإمبراطوريّ المجنون. ربما كان سؤالًا قد غلى في دمه الثوريّ، ذاك الدم الذي غلَى فيه حتى قبل أن يفقد ابنته.
“هذا ليس صحيحًا، ليريس.”
وكما توقّعت، اتّقدت عيناه بحزم.
“لا يهمّ من يكن. نبيلاً كان أو عامّيًا، ذا قوّة أو بلا قوّة. ما دمتِ تُحبّينه، يمكنك أن تصادقي أيّ أحد.”
“حقًّا؟”
“بالطبع.”
ابتسم أبي وقرص وجنتي قليلًا.
“أبي، أبي. تعلم ذاك الصغير قبل قليل. هل تظن أنّه سيكون بخير؟ أيجوز أن نتركه هكذا؟”
“همم؟”
“لقد كان مجروحًا كثيرًا، فهل سينال علاجًا يليق به؟ لا، بل الأهم… إن كان لا يُلقي التحيّة لأنه يكره النبلاء، أفلا يضربونه مجددًا؟”
“…أعلم.”
“أين ذهب…؟”
“أيزعجك أمره هكذا، مع أنّها أول مرّة تلقينه؟”
“نَعَم!” نظرتُ إلى أبي قائلة: “لا أدري لماذا، لكنّه عالق في بالي. أشعر… أنّني أريد أن أكون صديقةً له.”
أبدى أبي شيئًا من الدهشة.
نعم. فلا بدّ أنّه استشعر تجاه ذلك الغلام شعورًا غريبًا، ثم ها هي ابنته تبوح بالكلام ذاته.
“ألَا يستطيع أبي أن يبحث عنه مرّة أخرى ويُعينه؟ أريد أن أعلم إن كان قد عولج، وأودّ أن أتحدّث معه أيضًا…”
“ها، هاها.”
حدّق أبي بي خالي الذهن ثم انفجر ضاحكًا.
“أنا…”
ثم رفعني بين ذراعيه وهمس، وهو يدعك جبينه بخدّي:
“…لقد أنجبتُ ملاكًا.”
“أفتبحث عنه وتُساعده؟”
“نَعَم، فلنفعل ذلك. أجل بالطبع. وهل عَهِدْتِ أباكِ يُخالف طلب أميرته؟”
“هاهاها. أبي هو الأفضل. شكرًا لك.”
أخفيتُ ملامح مرارتي وأنا أندسّ في صدر أبي.
‘بحسب ما ورد في الأصل، فإنّ تشيستر لا بدّ أنّه يقيم الآن في قصر مركيز أونيكس.’
وبحسب البند السادس من إعداد شخصية تشيستر روبنشتاين—
كان أصلًا يُعامَل كابنٍ غير شرعيّ لعائلةٍ نبيلة، وبمحض الصدفة، لفت نظر إينوك روبنشتاين فتبنّاه كابنٍ بالتبنّي.
أجل، هو ابنٌ غير شرعيّ لأسرةٍ نبيلة، لا بدّ أنّ طفولته كانت بائسة جدًّا.
وطبعًا، لم يُفصّل الكتاب في بؤس طفولته.
فـ <ثورة الدوس> تبدأ بمشهدٍ يظهر فيه تشيستر ابن الثالثة عشرة، وقد صار بالفعل ابنًا مُتبنّى لإينوك، وهو يتدرّب على المبارزة.
ثم يُبيَّن لاحقًا أنّه الابن غير الشرعيّ لمركيز أونيكس.
‘أعلم أين أنت الآن، لأنّني… أعلم.’
إنّ قصة تعذيب تشيستر، التي جُعلت لتدفعه إلى الثورة على النبلاء، كانت حزينةً أكثر من أن تُحتمل.
وليس كالطفولة البريئة؛ فأيّ امرئٍ يُبصر نظراته الخاوية آنذاك، لا بدّ أن يشعر بما شعرتُ.
‘انتظر يا تشيستر. سأجدك بأسرع ما أستطيع.’
—
لم يكن يحمل اسمًا للعائلة، وإنّما فقط الاسم: تشيستر.
بعد أن عاش مع أمّه، التي كانت خادمةً، إحدى عشرة سنة، أُلقِي به أمام قصر مركيز أونيكس قبل نصف عام.
أبوه، مركيز أونيكس، الذي لم يكن يعلم بوجوده أصلًا، كان رجلًا عظيمًا.
نَبيلًا من طبقة “كواترو”.
أي أدنى مرتبةً من “دوس”.
“جوناثان، أجننتَ أخيرًا؟ ماذا تفعل بتركه خارجًا؟”
حدّق تشيستر بخواءٍ في أبيه، مركيز أونيكس، وأخيه غير الشقيق جوناثان، وهما يتجادلان.
وكان جوناثان يزدري كثيرًا أخاه غير الشرعيّ تشيستر.
فقد جرّه اليوم خفيةً كالكلب، وتركه وسط العاصمة، ثم عاد وحيدًا.
“لا أُطيق رؤية ذاك الحشرة في هذا البيت!”
“اصمت! إذًا أخبرني ماذا نصنع! ماذا تفعل إن جاء تفتيشٌ مفاجئ من جيش الإمبراطورية على أصحاب القوى!”
أخذ مركيز أونيكس يلهث بحدّة.
“إن علموا أنّه صاحب قوّة، فسيسألون عن والديه. وسرعان ما يُكشف الدم الذي يسري فيه، وحينها لن أكون قد أنجبتُ ابنًا غير شرعيّ فحسب، بل سأغدو أيضًا رجلًا طرحه كالنفايات خارجًا.”
“لكنّك لن تُعلن للعالم أمر هذا الابن غير الشرعيّ أصلًا! ذاك الحشرة ممزوجٌ بدمٍ دنيء!”
“ولذلك أحبسُه وأربيه سرًّا، بلا أن يعلم أحد!”
“إن كنت ستفعل ذلك، فاقتله خفيةً. إنّي أكره أن أكون في المكان ذاته معه!”
“…”
لزم المركيز الصمت إزاء كلام جوناثان.
وما عنته تلك الصمتة لم يكن إلا التردّد.
فمع أنّ الأمر يُدنسه ويجرح سمعته، لم يستطع أن يقتله؛ لأنّ دمه هو يسري فيه.
ذلك التردّد الناشئ عن ضميرٍ حيّ وشيءٍ من تأنيب النفس.
“لا تعُد تفعل فعلتك تلك مرّةً أخرى. ولا تتدخل في سواها.”
ثم ألقى مركيز أونيكس نظرةً باردة على تشيستر الراكع، وغادر القاعة.
“أيتها الحشرة القذرة.”
وكانت قبضتا جوناثان ممدودتين فوق رأس تشيستر كأنّه كان بانتظار اللحظة.
فبغريزته، رمش تشيستر بعينيه مرّة.
ثم تباطأ العالم. ببطءٍ شديد، كأنّ أحدهم صبغ المشهد بسحرٍ ما.
وربّما يلزمه عشر دقائقٍ حتى تصل القبضة إلى وجنته.
أهو يُبطئ الزمن أم يخدع بصره؟
لم يدرِ تشيستر تمامًا ما هذه القدرة الغريبة. بل كان حدسه يوحي له أنّها قوّته، بوصفه أحد أصحاب القوى.
“مـ، ما اسمك؟”
تذكّر فجأةً تلك الصغيرة التي التقته في الزقاق، مرتديةً زيّ الكهنة.
ولو كانت كاهنةً صغيرة، فهي بالطبع شخصٌ عالِ المقام ذي قوّة. ولم يكن يعرف أمثال هؤلاء. إذ كانت حياةُ عشرات العاجزين والدون تحت أقدامهم—
‘سئمتُ من ذلك.’
فكّر تشيرست.
النبلاء متعجرفون وقساة. مثل أبيه وأخيه.
‘آه.’
وعاد رأسه أخيرًا إلى مواجهة القبضة. العالم بطيء، والضربات بطيئة، غير أنّ الألم باقٍ. والسبب في أنّه لم يتجنّب، برغم استطاعته، أنّه لم يُرِد أن يُثير غضب أخيه.
ذلك هو الصواب.
فأهل الطبقة الدنيا لا ينبغي أن يجرؤوا على رفع أنظارهم إلى أهل الطبقة العليا، ولا أن يُكدّروا صفوهم.
‘فلتنتهِ سريعًا وتتركني!’
وأغمض تشيستر عينيه.
فعاد العالم إلى زمنه الطبيعيّ.
وألِف بسرعةٍ لكماتٍ وركلاتٍ تُنهال عليه الآن.
‘لو أنّ الموت أسهل. أهو مُخيف كالضرب؟’
انكمش تشيستر متحمّلًا الركلات في الهواء، مساعدًا نفسه بنفسه.
مع أنّه يعرف سبيل الموت، لم يستطع أن يصنعه. لكنّه، جائعًا كما هو، لم يهرب وعاد دومًا إلى قصر المركيز.
فكان يمقت ذاته أشدّ المقت.
إذ لم يكن يملك شجاعة الانتحار، فتمنّى لو أنّ كلّ شيء يزول من تلقاء نفسه.
“كح! كح!”
وبقي تشيستر وحده، يرمق السقف ببطء وهو يرمش. وفجأةً، دسّ يده في جيب بنطاله.
فاستخرج منديلًا سلّمته إيّاه تلك النبيلة الصغيرة.
“أعتذر… أعتذر على لمسي المفاجئ لك. سأتركه هنا.”
لم يفهم تشيستر لماذا حمله معه.
نظر إلى المنديل المرسوم عليه أرنب، ثم قبض عليه بقوّة في يده، وتمتم بصوتٍ يابس:
“أُريد أن أموت…”
—
يا عيني
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"