وقف أكسيون أمام بوابة الانتقال، ورداؤه يرفرف، كأنّه لا يريد أن يسمع مزيدًا من التعليقات السخيفة.
“لا تؤخروا الأمر، ولننطلق حالًا.”
كان أبي يرمقني بابتسامة عريضة، كأنّ الحياء لم يعرف له طريقًا.
“يا صغيرتي… قبلة… هممم.”
“كفّفف عن ذلك.”
وبينما كنت أزحزح شفتي أبي اللتين لا تكفان عن تقبيلي، رأيت أعمامي البالادين يعبرون البوابة واحدًا تلو الآخر. ثم سرنا نحن كذلك.
“أوهه…”
انبهر قلبي وأنا أعاين سحرًا ينشر أمامي عالمًا مختلفًا تمامًا.
قباب عالية.
جداريات آسرة.
أعمدة شاهقة مهيبة.
ووجوه الكهنة، جميعها مغطاة بالدهشة.
‘آه… إن السحر أعجب ما في الدنيا، حقًّا.’
لقد بلغنا قاعة بوابة العاصمة، المؤدية إلى معبد “باڤيل”.
“السيد إينوك.”
تقدّم شيخ ذو شعر أبيض وسط الكهنة.
“حقًا قد عدت.”
“مرّ وقت طويل، أيها الكاهن الأعظم.”
وبينما يعود أبي، كانت وجوه الكهنة الشبان خلف الشيخ الكبير مفعمة بالذهول، ليس بعودته وحدها، بل بي أيضًا، أنا ابنة إينوك روبنشتاين، المستقرّة في ذراعيه.
” مرحبا أيها القائد.”
قال الكاهن الأكبر هذا، محدّقًا بي، ثم أسرع يفسح الطريق. فمضى أبي متجاوزًا إيّاهم كأن لا شيء يلفت نظره. وتبعته وجوه الكهنة الحائرة كالتابعين لرئيسهم.
“عذرًا… أيها السيد إينوك، أتعزم العودة إلى دارك مباشرة؟”
“أما كان الأجدر أن نقيم احتفال العودة، ولو بصفة عارضة؟”
“لقد بلغنا خبر عودتك المحتملة، فتهيأنا…”
عند الباب، التفت أبي وقال:
“أليس من المقرَّر أن يكون الاحتفال لدى الأسرة الإمبراطورية على أي حال؟ سألقاكم هناك. أما اليوم، فقد طال السفر، وأخشى أن تتعب ابنتي.”
حينئذٍ، وجّه الكهنة أبصارهم إليّ مباشرة. كانت نظراتهم مشوبة بالفضول، وهو أمر مفهوم.
لقد اختفى إينوك روبنشتاين فجأة، وعاد بعد سبع سنوات، ومعه ابنته التي غابت معه تلك المدة. كان طبيعيًّا أن يحظى هذا المشهد بانتباه الجميع، لا المعبد وحده.
وبحسّ طفلة فطنة، جمعت كفّيّ وانحنيت بأدب، مردّدة ما علّمتني إيّاه:
“مرحبا…”
دهش الكهنة، وانتابهم تأثّر ظاهر.
“أواه… شكرًا لكِ!”
“أنرت المكان سمو الأميرة!”
—
ما إن غادرنا المعبد حتى وجدت نفسي في قلب العاصمة.
“واو…”
لقد عشت عمري كلّه في قرية صغيرة بين جبال الجنوب، فكانت مناظر “باڤيل” كصدمةٍ منعشة.
“كم هاهنا من الناس!”
مبانٍ حجرية شاهقة أنيقة تصطف جنبًا إلى جنب. حشود من البشر يرتدون أزياءً شتّى. جيادٌ أصيلة تجرّ عربات ملوّنة، تسير برشاقة وسط الطرق.
“صغيرتي، إلى اللقاء.”
“ليريس، كوني بخير.”
“هممم. وداعًا أيها الأعمام.”
كان وقت انصراف الموظفين بعد فراغهم من أعمالهم، فألوّح لفيليب وبِن وقد حَيّياني على حدة.
“لا تذهبي إلى أي موضع آخر، بل عودي إلى الدار مباشرة.”
“كم تظنّ أنّ بلوغنا قصر العاصمة سيستغرق؟ أسرعوا.”
رمق أكسيون أبي بنظرات ساخطة، فيما كان أبي يلوّح بيده بلا مبالاة. وأخيرًا، بقينا أنا وأبي وحدنا وسط العاصمة الصاخبة.
“أميرتي الصغيرة.”
“هممم.”
“أما زلتِ ترفضين ركوب العربة؟”
“هممم.”
“ستسيرين خمس عشرة دقيقة حتى نصل إلى البيت؟ قد تؤلمك رجلاك، أأحملك؟”
“أوف، أبي… لقد ظللتَ تحملني دومًا حتى نسيتُ كيف أمشي. الآن أريد أن أمشي بنفسي، أريد أن أرى العاصمة.”
“حسنًا، بالطبع. فقط قولي لي حالًا إن شعرتِ بألم.”
“حسنًا.”
أمسكت بيد أبي، وسرنا معًا بين طرقات المدينة وقت الأصيل.
‘الآن يبدأ الأمر حقًّا. عليّ أن أكون يقِظة.’
لقد أحدثتُ خطأً عظيمًا عطّل انطلاق الحكاية الأصلية، فصار واجبي أن ألتقط خيوطها.
‘عليّ أن أمضي بالأصل قُدُمًا مهما كلّف. فأول ما ينبغي فعله…’
“مرحبا أيها الفارس. المجد والنعمة لأمبراطورية بريمايرا…”
“قف.”
“شكرًا على جهدكم. …”
“كفى.”
…آه، كان عليّ أن أركب العربة منذ البداية. حاولت التفكير وأنا أسير، لكن المشهد تكرّر عشر مرات على الأقل. أينما مشينا، نبلاء وعامّة ينحنون لأبي.
كلّ ذلك بسبب عباءته الزرقاء، التي ترمز إلى طبقة “دوس”.
‘كنت أعلم، لكن الأمر فاق الحدّ. أي بلاد هذه، ينحنون فيها في الشوارع ويسلّمون على هذا النحو؟’
جنون محض.
لكن لولا أنّ هذا عالم رواية ينسف مفاهيم الحقوق الإنسانية—
‘ما كان البطل ليقود ثورة، ولا كنتُ اتخذتُ ذلك موضوعًا لرسالتي.’
ضغطت أصابعي الصغيرة على صدغيّ وأنا أفكّر.
‘إذن، أوّل ما عليّ فعله…!’
أن أعثر على بطل آخر: “تشيستر”، وأجعله يلتقي بأبي.
ذلك أنّ أبي وحده لا يستطيع تغيير هذا الإمبراطورية الفاسدة من جذورها. كانت حاجة ماسّة إلى عون تشِشَير.
تشيستر روبنشتاين… من هو؟
1. من طبقة دوس.
2. قائد فرسان السيوف السحرية في طبقة “دوس”.
3. سيّاف يحري، سيّد السيف، ووريث آل روبنشتاين.
4. في الإعداد الروائي، هو من أقوى اثنين في العالم، جنبًا إلى جنب مع إينوك روبنشتاين.
5. صاحب “لكمة بطيئة ساحقة”.
6. في الأصل، كان ابنًا غير شرعيّ لنبيل ما، تعرّض للإيذاء، ثم رآه إينوك روبنشتاين بالصدفة، فتبنّاه.
‘المشكلة: كيف أجعل الأمر يبدو كأنّه صُدفة؟’
إذ إنّ اللقاء الأول بين أبي وتشيستر مجهول، ولم يرد في الرواية. والآن مع وجودي، قد لا يهتم أبي بالفتى أصلًا. إذن، فإقامتهما على صلة مسؤولية ملقاة على عاتقي.
‘وكأنّي أبحث عن إبرة في صحراء.’
استبدّ بي اليأس وأنا أحدّق في المدينة المكتظّة.
وفجأة—
“أبي؟”
ساد السكون، وكانت عينا أبي مشدودتين إلى ناحية ما.
زقاق مظلم في الجهة المقابلة.
“ما الأمر؟ ما الذي هناك؟”
ابتسم أبي، بعد أن نظر إليّ لحظة، وتابع السير.
“لا شيء. لنذهب.”
“انتظر.”
بفطنة طفلة، أمسكت بيده لأوقفه.
“ماذا حدث هناك؟”
“لا، إنّما بدا كأنّ هناك شجارًا. على أي حال، لا داعي للقلق، فالحرس يجوبون الطرق. هيا بنا يا أميرة.”
“ومن يتشاجر هناك؟ ألا ينبغي أن نوقفهم؟”
“قد يكون، لكن لا يجوز أن تتعرض أميرتنا للخطر عبثًا.”
“….”
خنقتني الحيرة. إينوك روبنشتاين الذي أعرفه لا يمرّ على مثل هذا مرّ الكرام.
‘أنا السبب، أجل أنا المشكلة. أفٍّ.’
أدركت أن وجودي قد عقّد حسّ العدالة عنده.
“لا، فلننظر الأمر. أبي قوي جدًّا، لن يصيبنا أذى.”
“أكذا؟”
تنهّد أبي، ثم قبض على يدي، وتوجّه بي نحو الزقاق.
وما إن دخلنا حتى—
“هاه!”
انقطع نفسي عند المشهد غير المتوقع.
كنت أظن، على عادة هذه الرواية، أنّ الأقوياء يبطشون بالضعفاء.
لكن، ويا للعجب، كانوا أطفالًا! تلامذة في عمر المتوسّطة يوسعون ضربًا طفلًا في عمر الابتدائية.
“أنتم! ماذا تصنعون؟!”
التفت الخمسة في آنٍ واحد.
صرخت بغضب:
“أيتها الشرذمة!”
ساد الصمت لحظة. نظر أبي إليّ بعينين واسعتين، وقد كان همّ أن يتدخل.
‘آه… زلّ لساني.’
فليس من المألوف لطفلة في السابعة أن تقول مثل ذلك.
“ف… فارس؟ المجد والنعمة لامبراطورية بريمايرا…”
“قف.”
رأى الصبيّ عباءة أبي الزرقاء، فخرّ على الأرض مذعورًا.
“ماذا تفعلون؟”
“آه! معذرة إن أحدثنا جلبة، لكنّ هذا العامي لم يلقِ علينا التحية—”
“أفتضربون إنسانًا لأنه لم يسلّم؟ وهو طفل؟!”
تجرّأ أحدهم وردّ عليّ باستغراب:
“هاه… كاهنة؟ لكنني من طبقة أوكتاڤا، ألا تعلمين؟”
م. الأوكتاڤا: المرتبة الرابعة من بين ستّ مراتب عليا
“واويلاه.”
أفحمني الموقف.
“ألا تخجلون؟ أصحاب قوّة، تضربون الناس هكذا؟”
“….”
“….”
سكت الجميع، يتبادلون النظرات.
‘وهل يجوز ضربه؟ بالطبع، يجوز.’
ابتسمت بمرارة.
في هذا العالم المريض، هذا أمر معتاد. فإن صحّ أنّ الطفل لم يسلّم، فالمخطئ – بحسب منطقهم – هو العامي. أما ضرب الجماعة له، فمعفوّ عنه. لأنهم من ذوي النفوذ.
تقدّم أبي بدلًا عني وقال:
“كفى. انصرفوا.”
“ن… نعم!”
“المجد والنعمة لامبراطورية بريمايرا—”
“قلت: انصرفوا!”
“نعم!”
حتى أبي لا حيلة له.
كأنما تمسك عابرًا وتسأله: “لِمَ تتنفّس؟”
هو جرم، نعم، لكنه هنا كالتنفس.
‘ثورة حقيقية، أبي… عاجلة.’
مرارة شديدة سكنت نفسي وأنا أعاين سواد هذا العالم.
“حقًّا… ما أعظم العاصمة مكانًا للعيش…”
تمتمت ساخرة، فركع أبي أمامي، ولامس خدّي بيده، وبدت على محيّاه كآبة.
“يا أميرتي… هل تعلمين…”
“آه، انتظر!”
تذكرت الطفل المضروب.
أسرعت نحوه.
“أأنت بخير؟ أووه! دماء—”
نهض الصبيّ دون شكوى، ومسح بفمه المضروب، ثم رمقني بوجه خالٍ من التعابير.
عينان حمراوان فاتنتان.
لكنّهما فارغتان، كأنّ الحياة انطفأت فيهما.
‘يا للدهشة… أيّ عينين كهاتين تخرج من طفل في مثل سنّه؟’
تنهدت، وأخرجت من ثيابي الكهنوتية منديلي المطرّز بالأرنب، الذي ابتاعه لي أبي، لأمسح الدم.
“اسمح لي… فلنبدأ بمسح الدم هنا— آه!”
طَرق!
ضرب يدي بقوّة. قبضت على يدي، وحدّقت فيه مذهولة. لم يبدُ على وجهه شيء، لكنّ روحه كانت كقطّ الشوارع.
“آ… عذرًا. سامحني على اللمس المفاجئ. سأتركه هنا.”
وضعت المنديل برفق على فخذه. لم يتحرّك، وظلّ يحدّق بي.
وفيما أحدّق به، باغتني خاطر:
‘هاه؟’
لم ألحظ إلا الآن شكله العام.
‘أشعر بالحرج أن أفكّر هكذا وأنا أرى طفلًا مضروبًا، لكن…’
إنه… وسيم؟
وجهٌ لا يُنسى بمجرد أن تقع عليه العين. بصمة لا يمكن محوها. وحتى—
‘شَعر أسود، وعينان حمراوان.’
تعثّرت، غطّيت فمي بيدي، وسقطت جالسة على الأرض.
“ليريس!”
سمعت صوت أبي مذعورًا. التفتُ، فإذا بوجهه الوسيم بانتظار. هنالك تذكرت القاعدة الصارمة التي وعدت نفسي ألا أنساها:
‘لا وجود لشخص وسيم يكون دورًا ثانويًّا.’
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"