6
أبقيتُ فمي مفتوحاً وأنا أتفرّس ببطءٍ في الفرسان خارجاً، غير أنّي كنت الوحيدة التي أصابها الذهول.
‘أأنا حقاً الوحيدة التي تفاجأت؟ لِمَ تراهم جميعاً ساكنين بلا أدنى أضطراب؟’
“قلتُ لكم أن تحموها بدرعٍ، فلماذا أنتم واقفون هكذا لا تصنعون شيئاً؟”
وكأنّه راجعٌ من نزهةٍ يسيرة وقد بسط كتفيه، أطلق أبي قولاً مرعباً موجهاً لأكسيون.
“لو أنّ إينوك روبنشتاين قد أشهر سيفه، لانتهى القتال في ثوانٍ معدودة. يا لضياع المانا سُدى.”
“أيها الوقح حقاً.”
قطّب أبي جبينه وأمسك بياقة أكسيون وهو على صهوة جواده.
“هَـه.”
سرعان ما زفر أبي زفرةً حادّة، وأعاد السيف إلى غمد أكسيون، ثمّ ولج العربة.
“أ… أ… أبي….”
“أميرتي، لا تنظري إلى أمرٍ كهذا.”
كنتُ أكاد أبصر جثث الذئاب الوحوش من خلال نافذة العربة وهي تتحرّك، غير أنّ أبي أسدل جفنيّ بيده وأرخى الستائر.
بلعت ريقي ببطءٍ وقبضت على يد أبي ثم أنزلتها عن عيني.
‘م… ما الذي رأيت؟ أتراني حسبته أعظم ممّا توقعت؟ جيمس براون ذاك الذي أخفى قوّته….’
كان وجه أبي خالياً من أي اعتبار، كأنّ صيد ثلاثين وحشاً دفعةً واحدة لا يزيد عنده عن مطاردة ذبابة طائرة.
‘أفهم الآن… لهذا أنت البطل الرئيس.’
إنّ قوّة أقوى رجلٍ في الدنيا لم أرها إلّا في النصوص، لكنّ الفارق كان مهولاً حين أبصرتها بعيني. آنذاك أدركتُ حقيقة ما يعنيه أن يكون أبي من سلالةٍ عريقةٍ لا تُنجب إلّا الأقوياء ذوي السلطة.
إنّه السيّد المبارز الوحيد في الإمبراطورية.
الذئبٌ فضّي في ميدان الحرب، جنديّ المئة انتصار— وقد وُصف جوهره البطولي خمسة آلاف مرّة بأنّه ‘وجودٌ خارج المقياس!’
“أيتها الأميرة، يا ابنتي، ما بالكِ؟ أأخفافكِ ما جرى؟”
“ل… لا. إنّما تفاجأت قليلاً…”
“لا بأس، أنا والدكِ، أتعلمين. هلمي.”
بلعت ريقي ثانيةً بين ذراعي أبي، وهو يعانقني كالجوهرة الثمينة ويمسح ظهري برفق.
‘أليس هذا ارتقاءً حادّاً في المنزلة؟’
تسارع خفقان قلبي حين كشفت قوّة أبي الخفيّة أخيراً. إذ صرتُ فجأة ابنة أقوى رجلٍ في العالم.
—
رفعة منزلةٍ بين عشيّة وضحاها!
“واو… ما أجملة!”
لأوّل مرّة في حياتي، شعرت بملمس أبهى ثياب ارتديتها.
هنا قاعة بوّابة النقل في معبد إلباشا الجنوبي.
وما إن وصلنا، تبدّلت ثيابي إلى رداءٍ أبيض للكهنة الصغار بعباءة.
‘فلستُ أستطيع دخول العاصمة بثيابٍ عاميّة.’
إنّها رؤية مريعة للعالم، إذ في الحقيقة يُعامل العامّة معاملة العبيد.
ولأنّ في العاصمة نبلاء كثيرين، ناولني الكهنة في المعبد ثوباً كهنوتياً قبل الرحيل.
“يا صغيرة، يا صغيرة.”
“نعم!”
ناداني العم فيليب ذو الشعر البرتقالي، وهو بالادين.
“كم عمركِ؟”
“أيّ سؤالٍ هذا؟ مضت سبع سنين على رحيل السيّد إينوك، فهي الآن ذات سبع سنين.”
“لا، إنّما أسأل لأنّها ضئيلة جداً على السابعة.”
فشرع العم فيليب والعم بن يتجادلان.
وبينما كنتُ بانتظار أبي في قاعة البوابة، تعرّفت عليهما غير قليل.
“إنّه محق، أنا في السابعة.”
“ألعلّ السيّد إينوك كان يُجَوِّعكِ؟”
“لا.”
هززت رأسي نفياً.
“أتعرضتِ للتوبيخ قطّ؟ أتخشين والدكِ؟”
“وكيف شعوركِ إن غضب؟ أأوجعكِ يوماً؟”
كانا مغرمين بالسؤال عن أمري، لكنّ أكثرها يدور حول خوفي من أبي، أو إن كنتُ نلت عقاباً.
“متى وبّخني أبي؟”
أجهدت ذاكرتي فلم أجد إلّا:
“حين خبّأت البروكلي تحت البيض، وحين ضُبطت وأنا أفرّش أسناني بعد أن أكلت الشوكولا سرّاً…”
“واو، ما زالت طفلة. أهذا ممكن؟ كما ظننّا، إنّه مخيف.”
“طبعاً. فكيف يسمح إينوك روبنشتاين، ولو لابنته، بتجاوزٍ؟”
“…إنّه يقول لي فقط لا تفعلي ذلك.”
اتّسعت عينا فيليب وبن من قولي.
“أهذا كلّ شيء؟”
“أفلا يضربكِ؟”
“نعم، إنّي لا أخاف والدي. لم يضربني أو يوبّخني قطّ.”
نظر إليّ كلاهما بعدم تصديق.
“لكن يا عمّاي، أأبي مخيف إلى هذا الحد؟”
حين سألتُ، ارتعشا وكأنّ صورة أبي قبل سبع سنين عادت إليهما.
“أتدرين، السيّد إينوك…”
همس فيليب في أذني بعد أن ابتلع ريقه.
“…يمزّق الدبّ بيديه العاريتين.”
“ماذا؟؟”
“أرأيتِ دبّاً قطّ؟”
هززت رأسي بالنفي.
فبدا بن حائراً.
“حقّاً؟ عجيب. إنّ زينون موضعٌ مثاليّ للعيش مختبئين… لكنّه خطر.إذ في جباله حيوانات متوحّشة… مشهور بذلك منذ زمن.”
“هه؟ كلا. قريتنا ليست خطرة قطّ. إنّها مكان بديع للعيش—”
وإذ بي أتذكّر قول العم جو.
“هاها! ما أسعدنا بجيمس وابنته! لا تعلمين كم تحسّن الحال مذ جئتما! في الشتاء أرهقتني الدببة، لكن بعد قدوم جيمس ما عدتُ أرى لها أثراً…”
‘لا… ألعلّ أبي مزّقها قبل أن تظهر؟’
ابتلعت ريقي بشكٍّ وجيه.
“على أيّ حال، إنّي خائف من أبيكِ. يمزّق الدبّ بيديه ويصرع الوحوش.”
“صدقت. حتى من مسافة خمسة آلاف خطوة، تدركه الوحوش فتهتاج. ليس ذئباً فضّيّاً في ساحة الحرب عبثاً.”
وبينما أصغي إلى فيليب وبن، انشغلت أتصوّر أبي يقاتل في الميدان.
قرأتُ ذلك في النصوص عشرات المرّات، لكن الواقع أفظع—.
“كم كان قاسياً، قاسياً. قائدٌ عصيّ المعاشرة.”
“لكن ألم يكن قريباً من القائد؟”
تبادلا نظراتٍ متردّدة.
وعلى بُعدٍ قليل، كان أكسيون يرقب بوّابة النقل.
“لقد حاول السيّد إينوك قتل القائد آنفاً، أليس كذلك؟”
“بلى. لو أسأتُ لقتلني يقيناً.”
واستمرا يتهامسان.
“غير أنّ الصداقة تبقى، أليس هذا إفراطاً؟”
“هيه، أوَترى صداقةً في موقف كهذا؟ إنّه يهدّده بابنته.”
“إنّما صُدم فعلاً.”
ثم نظر بن إليّ وابتلع ريقه.
“مع أنّها ابنته، أيعقل أنّ إينوك روبنشتاين ذاك فقد صبره لهذا الحد؟”
“حقّاً، لم نكن نظنّ أنّنا سنعثر عليه ونأخذه معنا هكذا. فلذا!”
أمسك فيليب بيدي.
“شكراً لكِ كثيراً. لو عدنا بخفّي حنين لهلكنا.”
“صدقت. إمّا قضينا هناك بيد إينوك، أو عدنا بلا نتيجة فهلكنا بيد جلالة الإمبراطور.”
“أحم، نعم.”
فشعرتُ بكتفي ينتفخان لسببٍ ما.
“لو كنتِ شهدتِ السيّد إينوك قديماً، لفهمتِ مقصدنا.”
“أحم. ذاك الزمان الذي لم تجرؤ فيه امرأة أن تأمر إينوك روبنشتاين—”
وما كاد العمّان يبدآن حكايةً أخرى، حتّى لاح أنّ باب القاعة يُفتح. بدا أنّ أبي قد حضر.
فنهض بن وفيليب على عجل.
وما إن هممتُ أن أجري إلى أبي—.
‘يا للعجب.’
لقد ذُهلت.
أبي؟ لا، بل إينوك روبنشتاين، ألتقي أخيراً ‘بطل الرواية’.
“واو، آه.”
جسده القوي مغلّفٌ بدرعٍ فضّي مقدّس، يتدلّى على كتفه عباءٌ زرقاء شعارُ الفرسان. وكان ذلك متناسقاً مع شعره الفضّي وعينيه الزرقاوين—.
‘ا… انظروا إلى هيئته؟’
إنّه صورة البالادين بذاته!
وقد بدا من عينيه الحادّتين وشفتيه المطبقتين زخمٌ مهول، حتى خُيّل إليّ أنّي أسمع لحنَ معركةٍ ممزوجاً بخشوع البالادين يعزف في أذني.
‘وحتى لم أقرأ الكتاب، لأدركتُ أنّه البطل.’
لعلّي لم أُخدع سبع سنين، بل لم أنتبه فحسب.
“ليريس.”
“أم.”
كان الموقف حرجاً حين دنا أبي منّي، فابتلعت ريقي وتراجعت خطوة.
لم يستطع أبي أن يصرف نظره عنّي، ثمّ وضع يديه تحت إبطيّ ورفعني عالياً وقال:
“…ملاك؟”
“أم؟”
“لا يُصدّق. هذا جنون. كنتِ ملاكاً… تبيّن أنّ أميرتنا كانت ملاكاً حقّاً.”
“آه.”
نظرت إلى ردائي الكهنوتي فأدركت على الفور.
أنّ هراء أبي سيبدأ.
“أ… أبي، مهلاً.”
‘رجاءً، لا!’
وقبل أن أوقفه، حملني على ذراعه، وأخذ يثير الجلبة، ثم نظر خلفي وقال:
“أيّتها الملاك الصغير، أين جناحاكِ؟ هاه؟ أين أخفيتِهما؟”
آه…
“يا إلهي. ليريس، أميرتي. يا كنزي. إنّكِ ملاكي.”
تمتم أبي بكلماتٍ كالبكاء، ثم خفّض رأسه وأبرز شفتيه.
“ابنتي جميلةٌ إلى هذا الحد، وأباكِ يكسوكِ خرَقاً كلّ يوم—. سامحيني. لقد أخطأت.”
“كلا، ليست خرَقاً…”
ودعك وجهي بجبهته بقوّة.
وحينئذٍ، كانت الأعين كلّها شاخصة إلينا.
‘آه، هلكت.’
لقد بدا وجوههم مبهوتة لا تكاد تصدّق، وأفواههم مفتوحة وعيونهم تضطرب.
‘تلك الصورة المخيفة الصامتة الباردة لذئب الميدان الفضي—’
ها أنا أسيرة قبلة أبي وهو يمتصّ وجنتي، عاجزة عن المقاومة.
“ت… توقّف—”
حتى أكسيون، الذي قلّ أن تكلّم، كان في البعيد فاغراً فاه.
هزّ رأسه وهو يشيح بوجهه كأنّه لم يرَ شيئاً، وتمتم:
“هذا يفوق الحدّ…”
خُط بيدي موروها
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 6"
بتجنن الرواية 😍❤️