“…أميرتي؟ ليريس؟ ولمَ تعتذرين يا صغيرتي؟”
رنّ صوت أبي المرتبك في أذنيّ، فيما لم أجرؤ على رفع رأسي خشية أن أرى نظرات الجدّ المخيفة، فاكتفيت بأن أمسكت بطرف سروال أبي بكل ما أوتيت من قوّة.
قال أبي بلهجةٍ مهادِنة: “أبي، أرجو أن تُلين ملامحك، فالطفلة ترتعب منك.”
فأجابه الجدّ ببرودٍ قاطع: “اصمت.”
ثم ما لبث أن ألقى بظلّه فوقي وأنا مطرقة الرأس. رفعت ناظري بحذر، فإذا بوجهه المقرّب إلى وجهي حتى كدت أشعر بأنفاسه. كان وجهًا خاليًا من التعابير، وقد مدّ نحوي يده ببطء.
‘ه، هل سيضربني؟’
كانت حركته بطيئة بما يكفي لأتجنّبها، غير أني أغمضت عيني بقوّة واستسلمت.
‘…ها؟’
غير أنّ دفئًا لطيفًا لامس خدّي، ففتحت عينيّ على اتّساعهما.
‘ماذا… ما هذا؟’
وخزٌ خفيف. رمشت متعجّبة، والجدّ أمامي يقرص خدي برفق دون أن يؤلمني. كان ساكنًا تمامًا، إلّا أنّ يده ترتجف، ارتجافًا طفيفًا يكاد لا يُرى.
“آه…”
تأمّلتُ عينيه الزرقاوين، التوأمتيْن لعيني أبي، وفهمت. تلك النظرة، وذلك الارتجاف… أعرفهما!
لقد كان الشعور ذاته الذي غمرني حين رأيت هرّة جيراننا تنجب صغارها الثلاثة، فارتجف جسدي كله من شدّة الطرافة!
“ههه.”
تناهى إلى سمعي ضحكٌ خافتٌ من أبي فوق رأسي.
‘أ، جدي يجدني لطيفة؟!’
أفقتُ من توتّري، وسرعان ما تمالكت نفسي وعدّلت جلستي.
“ج، جدّي!”
كنت قد بلغت من العمر ما يسمح لي بنطق الكلمة بوضوح، لكني تعمّدت أن أنطقها بلسانٍ طفلٍ مُدلّل.
“أنا ليريس! سبعُ سنين!”
قلت ذلك بخجلٍ متلألئ في عينيّ.
ابتلع الجدّ ريقه بصوتٍ مسموع، ورأيت تفاحة حنجرته ترتفع وتنخفض بوضوح.
ثم اقتربتُ بخطواتٍ صغيرة واحتضنتُه بخفّة.
“جدّي… سررتُ بلقائك.”
ظلّ صامتًا متجمّد الملامح لحظةً، ثم طوّقني بذراعيه ونهض واقفًا بي. كان ضخم القامة كأبي، ونظر إليّ عن قربٍ وقال بصوتٍ متهدّج:
“…نعم. أنا جدُّك.”
حبستُ ضحكتي وأنا ألتفّ بذراعيّ حول عنقه. كانت له الرائحة نفسها التي يعبق بها أبي.
—
بعد سبع سنين من الفُرقة، اجتمع الثلاثة من جديد، وبقوا طويلًا يتبادلون الحديث عن كلّ ما فاتهم.
لكنّ الأحاديث لم تَكفِ، فتُرك أبي وجدي ليخلوَا ببعضهما، فيما خرجتُ أنا مع عمّتي.
كنّا في طريقنا إلى غرفة العمّة.
“هوووه.”
كنت أُمسك بيدها وأسعى بخطاي القصيرة للحاق بها، حتى توقّفت فجأة، فتوقّفت بدوري.
“أوه، أوه، عذرًا.”
“ها؟”
“لقد أسرعتُ في السير قليلًا، الحماسة أخذتني.”
“لا بأس!”
نظرتُ إلى عمتي المبتسمة بلطفٍ وقد بهرني جمالها.
‘واو… ما أروعها. ليست بطلة القصة، لكنها تحمل هالة الأبطال نفسها.’
كانت عمّتي أوريديا، التي تزوّجت من دوق أنترَاس، سيّدة نبيلة فائقة الأناقة، يفيض وجهها رِقّةً وجلالًا.
تأمّلتني برهة، ثم وضعت يدها على فمها متأثرة وقالت بصوتٍ مرتجف:
“يا ليريس، أيُعقل أن تكون هناك طفلة ملائكية مثلك؟”
“كلا، عمتي أجمل وأنقى من المَلَك.”
“ماذاا؟”
ضحكت وهي ترى وجنتيّ تلامسان كفّها الممسكة بيدي. لكنّ ملامحها سرعان ما اكتسبت مسحة حزنٍ وهي تتمتم:
“أتدرين؟ لقد أقلقني أمرك أكثر حتى من إينوك. كيف لفتاة صغيرةٍ وهشةٍ ولطيفةٍ مثلك…”
سكتت لحظة ثم أردفت بصوتٍ متهدّج:
“…أن تكون قد عاشت حياةً عسيرة كهذه؟ لا أستطيع تصديق ذلك. من الآن فصاعدًا ستعيشين في رغدٍ ونعيم، ترتدين أجمل الثياب، وتأكلين أطيب الطعام. هذا حقّك، فأنت من آل روبينشتاين.”
‘لكن… العيش في الكوخ الجبلي مع أبي لم يكن سيئًا إلى هذا الحدّ.’
لولا أنّ أبي ذكر مصادفةً أنّي كنت أغسل الثياب، لما ظنّت أني كنتُ أقتات على الجذور في قفرٍ ناءٍ.
“آه، ما أشدّ شرودي. هيا بنا يا ليريس، سأعرّفك على ابنَيَّ.”
“ابنَيكِ؟”
“نعم، توأمان. مفعمان بالمشاغبة لكنّهما طيّبان. لطالما رغبا في أختٍ صغيرة، سيُعجبان بك حتمًا.”
تجمّدت في مكاني حين سمعت كلمة توأمان.
‘صحيح… إنهما إذن ولَدا الدوق أنترَاس.’
توأما بيت أنترَاس، أبناء أخت إينوك روبينشتاين — أحدهما سيصبح بالادين، والآخر سيغدو مبارزًا بسيفٍ مسحور.
‘لكن…’
نظرتُ إلى وجه عمّتي المشرق بالفرح، وابتلعت ريقي.
‘…كلاهما سيموت في هذه الرواية القاسية التي لا تعرف للرحمة سبيلًا.’
كانا من القلائل الذين تمكنوا من اختراق قلب تشيستر، الابن المتبنّى لأبي، واللذين عاملهما كإخوةٍ حقيقيين.
وحين قُتلا، كاد تشيستر يفقد عقله من شدّة الحزن.
قالت العمّة بقلقٍ خافت:
“همم، أخشى على ثيو، جسده ضعيف بعض الشيء.”
“آه… هكذا إذن.”
تردّدت أصداء اسمٍ في ذهني كجرسٍ نحاسيٍّ مكتوم.
ثيو… ثيو أنترَاس — ذاك الذي يموت أولًا.
—
قالت العمّة وهي تفتح باب الغرفة على مصراعيه:
“يا صغار انظروا من جاء لزيارتكم!”
فرفع الصبيّان اللذان كانا متكئَين بمللٍ على الطاولة رأسيهما دفعة واحدة.
‘يا إلهي، كأنهما نُسِخا لصقًا من صورةٍ واحدة!’
كنتُ قد سمعتُ كثيرًا أنه يستحيل التمييز بين ملامحهما بالعين المجرّدة، غير أنّ ما رأيته الآن تجاوز التوقّع — كانا نسخةً طبق الأصل.
“واااه! لقد جاءت حقًا؟”
“ما هذا؟ صغيرة جدًّا!”
قفز الاثنان عن الكرسي مسرعين واقتربا منّي، وعيناهما واسعتان كحَبّتين من الياقوت، يميل أحدهما برأسه يسارًا، والآخر يمينًا.
‘حتى تصرّفاتهما متطابقة…’
شَعَرهما ذهبيٌّ كالعسل، وعيناهما زرقاوان تشبهان عينيّ.
كان التوأمان يرتديان ثيابًا فاخرة تفيض أناقةً، ونَفَس الأرستقراطيّة بادٍ عليهما، وإن بدت في ملامحهما لمحةُ شقاوةٍ واضحة.
“أليس الشَّبَه بينهما مدهشًا؟ أعترف أني أحيانًا لا أفرّق بينهما إذا تعمّدا التبديل!”
قالت عمّتي وهي تهزّ رأسها باسمة، ثم قدّمتني إليهما:
“ليون، ثيو، لقد عاد خالك قبل قليل، وهذه الصغيرة الظريفة هي ابنة أخي، ابنة خالِكم. اسمها ليريس.”
“وااه، ليريس؟ تشرفتُ بلقائك! أنا ثيو أنترَاس، وعمري اثنا عشر عامًا!”
قالها الفتى ذو القرط الأزرق في أذنه اليسرى، مميلًا وجهه إليّ بفضولٍ طفوليٍّ مشرق.
‘أنت إذن ثيو…’
كان ثيو، من سيصبح بالادين لاحقًا، يبدو طيبًا تمامًا كما وُصف في الرواية الأصلية.
ذاك الذي كان يغضب لأجل تشيستر كلّما تعرّض أحدهم لأصله الغامض، والذي كان يلحظ كآبته قبل أيّ إنسانٍ آخر ويواسيه بصبرٍ حنون.
‘لو كنتُ مكان تشيستر، لاتخذتُه أخًا أكبر بلا تردّد.’
لكن ثيو، ذاك الفتى الرقيق، سيموت في ربيع العام التالي لتعيينه بالادين، بداءٍ خِلقيٍّ نادر.
وبحساب السنوات، لم يبقَ أمامه سوى أربعٍ بالكاد.
“تشرفتُ بك أيضًا، ثيو أوبّا! أنا ليريس، في السابعة من عمري!”
مددتُ يدي الصغيرة لأقبض على أصابعه بحميميّة، وقد غمرني شعورٌ من الأسى.
“آه… همم.”
ضحك ثيو خجلًا، وألقى نظرةً على عمّتي التي كانت تتابعنا بعينٍ فخورة.
وحين ابتسمت له مُشجِّعة، مدّ يده بخفّة وربّت على رأسي بلمسةٍ مرتجفة.
“واااه، كم أنتِ جميلة…”
“إيهيهي.”
“هاهاها… ليون، ألا تُلقي التحيّة أنت أيضًا على ليريس؟”
قالت عمّتي وهي تنظر نحونا بمودّة.
كان ليون، صاحب القرط الأحمر في أذنه اليمنى، يختبئ نصف جسده وراءها، يتفرّس فيّ بعينين لامعتين فضولًا.
“…إنها في السابعة مثلي، لكنها صغيرة جدًا. حمقاء. أنا كنتُ أطول منها عندما كنت في السابعة!”
“ماذا؟! أتجرؤ على نعت ابنة خالك بالحمقاء؟”
احمرّ وجه ليون وأمسك بطرف فستان أمّه يجرّه كأنه يحاول صرف الانتباه.
قالت عمتي مبتسمة ثم أوضحت لي:
“ليريس، صحيح أنهما متشابهان شكلًا، لكن طبعَيهما مختلفان تمامًا. ثيو طيبٌ ومهذّب، أمّا ليون… فشقيٌّ بعض الشيء، يُتعبني بمرحِه الدائم.”
“ما بي أنا؟! آآخ!”
أنزلتْ على رأسه ضربةً خفيفة بطرف إصبعها، ثم تنفّست بعمق وهي تمسح جبينها المنهك.
“ليون، كُفَّ عن الشقاوة، وتحدّث بلطف. كم مرّة قلتُ لك إن البنات لا يُعجبن بالولد الفظّ؟ لم تمضِ سوى أيّامٍ على فعلتك تلك حين أمسكت عنكبوتًا ضخمًا لتفزع الآنسة فاليرين، أليس كذلك؟ هل تريد أن تُوبَّخ ثانية؟”
“لكنّ الآنسة إيريكا فاليرين قالت إنها تُحبّ العناكب!”
“يا هذا، قالت ذلك لتتقرّب منك، لأنك ذكرتَ أنك تحبّ الحشرات! أفي رأيك توجد فتاةٌ تُحبّ عنكبوتًا مشعِرًا كذاك؟!”
‘تربية الصبيان… جهاد لا يُطاق.’
ابتسمتُ بخجلٍ وأنا أراقب عمّتي تضعف قواها من كثرة الزفرات.
كان ليون — من سيغدو مبارزا بالسيف السحري لاحقًا — من ذلك النوع الذي يثرثر باندفاعٍ ويُطلق كلماته بلا تفكير، ولهذا كان دائم الشجار مع تشيستر، وإن لم يكن في قلبه إلا المودّة الخالصة.
حتى وهو يُوبَّخ الآن، لم يكفّ عن التطلّع نحوي بين حينٍ وآخر، وعيناه تلتقيان بعينيّ أكثر مما ينبغي.
‘آهٍ… نصف شخصيات هذه الرواية يموتون، وها أنا أعيش بينهم حقًا…’
رمقتُ ليون الصغير ذا الأعوام الاثني عشر، بابتسامته المشاكسة البريئة، فطفَت في خاطري صفحةٌ من الرواية الأصلية.
[“كانت الدماء تتدفّق بلا انقطاع من الجرح، فيما كان تشيستر يحتضن ليون الذي يلهث بين ذراعيه.
‘ل، ليون! أخي… لا، لا تمت هكذا، أرجوك، تماسَك!’
‘كح… ها، أيها الأحمق. أتبكي؟ لا تبكِ، يا رجل، العار عليك.’
‘هيه… اصمد قليلًا فقط، أرجوك، أخي…’
‘ها، هذا الغبي لا يناديني بالأخ إلا حين أموت… أنت… أنت أنقذتني… لا تمت أنت أيضًا، كح…’
‘أخي… أخي!!’
‘…عُدْ حيًّا، رجاءً.’
ومع آخر رجاءٍ خرج، خبا الضوء في عيني ليون أنترَاس.]
‘آه… أكاد أبكي ثانية.’
كانت تلك الواقعة في المجلّد الثاني — معركة الإبادة الكبرى ضد الوحوش السحرية —
حين وقف ليون بين تشيستر والهجوم المميت، متلقّيًا الضربة عنه.
ما زلت أذكر كم بكيت حين قرأت ذلك الفصل، أفرغت مناديلَ كاملة وأنا أتنفّس بين الدموع.
‘رواية لا تعرف الرحمة… لم تُبقِ على أحدٍ من الشخصيات الثانوية!’
قبل أن أُدرك، كنت قد اقتربتُ منه وأمسكتُ بطرف سرواله.
‘يا له من فتى وسيم ومسكين في آن.’
” ليون أوبّا، سررتُ كثيرًا بلقائك! لنبقَ قريبين من بعضنا… ونصطد العناكب سويًّا!”
“…….”
“هيهي، أنا أحبّ العناكب الضخمة.”
قلت ذلك وأنا أقبض على ثوبه بخجلٍ طفوليّ.
كنتُ أريد التقرّب منه، لكنّ ليون ظلّ يحدّق بي صامتًا بعينين متّسعتين، كأنه لا يصدّق ما يسمع.
“أو،… أوبّا؟”
وفجأة —
تبدّلت ملامحه، وانعقدت حاجباه بخطورة، ثم مدّ يده نحوي بغتة، وأمسك خدّي الممتلئ بكل قوّته…
“…؟”
…وقرصني!
“آآآااه!”
كانت القرصة مؤلمة إلى حدّ أن الدموع فارت من عيني!
“يا للعجب! ليون!”
“ماذا فعلت أيها الشقي؟ كيف تجرؤ على قرصها بتلك القسوة؟!”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"