‘كيف يكون ذلك ممكناً؟ الرسالة التي أرسلتها هذا اليوم بالذات، كيف صارت الآن في يد لويد؟’
ارتجفت شفتا ديبورا. لقد ظنّت أنّ الرجل وديعٌ لا حول له ولا قوة، فإذا به سبعٌ رابض، لا يتغاضى إلا برغبةٍ منه، ويترك صغار الدوابّ تعبث في ساحه بمهلةٍ من كرمه، ثمّ إذا شاء أطبق عليها. لم يبقَ لها مهرب.
عضّت ديبورا شفتها.
‘حسناً، أتراني سأُقتل؟ غاية الأمر أنّي سأُطرد وينتهي كل شيء!’
فسارعت تجثو على ركبتيها.
“سامحني يا سيّدي البارون! لقد فعلت ذلك رجاءَ أن تصير الآنسةُ نبيلةً كاملةَ الخصال! أعذرني، أرجوك!”
وقالت ساشا منحنيةً تلصق جبينها بالأرض:
“وأنا أيضاً لم أرد إلا أن تنشأ السيّدة صغيرةً شريفةً رفيعةً!”
اللسان الذي ما طاوعهما أن يعتذرا به أمام آيلا، انساب الآن رطباً سهلاً بين يدي لويد. فاستقذرهما، وقال في جفاء:
“حقاً أنتما نادمتان؟”
قالتا في عجل:
“بلى! بلى، يا سيّدي!”
فابتسم ابتسامةً باردة وقال:
“فإذاً فكما ترجوان.”
تهللت وجوههما لحظة، غير أنّه أردف قاطعاً:
“إلى السجن بتهمة تعذيب الأطفال.”
“…ماذا؟”
جحظت أعينهما ولم يطرف لهما جفن. إنّ قوانين أرتا في أمر تعذيب الأطفال شديدة، إذ يُسوّى حكمها بحكم القتل. أي إنّ السجن المؤبّد ينتظرهما.
صاحت ديبورا:
“تمهّل! لِمَ؟!”
فقال ببرودٍ أشدّ من حدّ السيف:
“الاعتراف بالألسنة هين. إن كنتما حقاً آسفتما على ما فعلتما بالطفلة، فاذهبا كفّارته إلى غياهب السجن.”
لم يكن ينفع معه استعطاف. فذكرت ديبورا الفتاة التي كانت تراها كابنةٍ لها، ورجت قائلة:
“دعني أحدّث الآنسة، أستسمحها بنفسي! فلعلها تشفق…”
كانت تعوّل على رقة آيلا وحلمها، أنّها إن رأت دموعهما أذابت الموقف. لكنّ نواياهما الفاسدة كانت أظهر من أن تُخفى.
نظر إليهما لويد نظرة استخفاف وقال:
“أتُراكما تظنّان أنّي أسمح لجلادٍ وضحيّةٍ أن يجتمعا؟”
شهقت ديبورا.
‘جلاد؟ أنا؟ كيف أكون أنا الجلادة، وأنا نبيلة، وإن سقط مجدي، وهي ابنة بارون صغير؟ كيف؟!’
لكن لويد أمر الفرسان بحسم:
“خُذاهما.”
“حاضر.”
فأمسك الجنود بأذرعهما وسحبوها قسراً. أخذتا تصرخان في جنون:
“يا سيّدي البارون! دعنا نراها مرة واحدة فقط!”
“يا مولاي! كم خدمتُك سنين طوالاً! رحمةً بي!”
فقال لويد:
“أخشى أن تستيقظ آيلا على صراخهما. أخرسا أفواههما.”
فكمم الجنود أفواههما، وساد السكون. انتهت قصتهما، وسيعيشان ما بقي من أعمارهن في قيد الذكرى والندم.
غير أنّ قلب لويد لم يطمئن بعد.
‘إذا كانت أمي قد بثّت رجالها حتى في داخل داري… فكم منهم ما زال يَدين لها بالولاء؟’
لقد كان يظنّ أنّه انتقى خدمه ورجاله بعناية، ولكن بريسيلا – أمه – كانت تغزو حصونه شيئاً فشيئاً، وتستميل النفوس إليه.
تنفّس طويلاً وقال لرئيس الخدم لورنس:
“سأضطرّ أن أعود.”
“إلى أين، سيدي؟”
أطرق لويد وقال:
“إلى العاصمة. لأقابل والدتي وجهاً لوجه.”
لم يكن يهوى العودة ثانية، وقد استقرّ لتوّه في قصر مينت. لكنه رأى أنّ لا محيد.
غير أنّ هاجساً نغّصه:
‘كيف أترك آيلا هنا وحدها؟ ومن لي أن أضمن أنّ الدار آمنة؟’
التعليقات لهذا الفصل " 29"