الفصل الثامن والعشرون
“هُمف.” نفخت أَسْلان من أنفها
‘…لقد عَلِمت بالأمر كلّه إذن.’
أجل، فليس لأن آيلا صغيرة السن سيغيب عنها أحوال ما يدور حولها.
وافقتُ أَسْلان في قولها، فقلت:
“إنّ كلام أَسْلان صائب يا آيلا. أيّ فعلٍ يستوجب الضرب أصلًا؟! إنما كان الخطأ من أولئك الناس.”
وهزّت أَسْلان رأسها بعزم موافقة.
أما إيد فقد أبعد آيلا عنه برفق وقال:
“ما كان الضربُ جزاءً لخطأ منك، بل لأن أولئك قد فسد طبعُهم.”
غير أنّ آيلا لم تُلقِ عن نفسها بقايا التردّد، فتمتمت بصوت خافت:
“لكنها كانت تعاملني كأمٍّ حانية…”
سألتها:
“وماذا قالت تلك المرأة حين ضربتك؟”
خفضت آيلا رأسها خجلًا، ثم لم تلبث أن أجابت بصوت متهدّجٍ صغير:
“قالت إنني لما حضرتُ درسًا عند غيرها صار مشيي مبتذلًا، وأمرتني أن أتحلّى بالرصانة. زعمت أنّها لم تضربني إلا لأنها تحبني وتريد صلاحي…”
‘يا للجنون! هذا نفس خطاب المعتدين على الأطفال في كل مكان.’
فقلت بحزم:
“كلا، لم تكن تُحبّك.”
“ولكن…”
جثوت أمامها مرّة أخرى، فعانقتني بعينيها الزرقاوين المتلألئتين وقد تلمّعتا بالدموع. فمسحتُ خدّها قائلًا:
“آيلا، لا يملك أحد في هذه الدنيا حقّ ضرب الأطفال. أرجو أن تعي ذلك، وأن تحبّي نفسك أكثر قليلًا. أحبّيها كما يحبّك أبوك الذي يغمر قلبه بك.”
أخذت أمسح الدموع المتساقطة من طرفي عينيها، فما كان ذلك إلا كمن يرفع السدّ عن جدول، فانفجر بكاؤها دفعة واحدة.
بقيت آيلا تبكي طويلًا حتى غلبها النوم بين ذراعي إيد. ثم التفت إليّ وقال:
“لقد صدقتِ، فالمدرِّسة الخصوصيّة والخادمة هما الفاعلتان. وسأتولّى الأمر كما ينبغي عند عودتي.”
تذكّرتُ حينئذٍ أن الاسمين اللذين ذكرتْهما آيلا آنفًا ــ ديبورا وساشا ــ هما بالفعل اسمَا المدرّسة والخادمة.
شكرني إيد مرارًا قبل أن يمضي. نظرتُ إلى العربة وهي تبتعد، وأفكّرت:
‘أيجرؤ إنسان أن يضرب طفلة ثم يزعم أن ذلك من أجلها؟!’
خطر بذهني بعض الأطفال الذين شهدتُ ما يلقونه من قسوة وأنا أعمل في روضة الأطفال، فأحسستُ بيدي التي تضمّ أَسْلان قد اشتدّت دون وعي.
‘أترى هل وُجدت في الدنيا بقعة لم يُعذَّب فيها الأطفال؟’
شعرتُ بغصّة في صدري.
—
ديبورا بعدما بعثت برسالة، عادت إلى القصر في هدوء. كانت تظن أنها دخلت من الباب الصغير دون أن يشعر أحد، فإذا بكبير الخدم لورانس واقفٌ عنده ينتظر.
“كبير الخدم؟”
قال بصوت منخفض:
“ما هذا الخروج المفاجئ يا آنسة ديبورا؟”
ابتسمت كأن لا شيء حدث، وأجابت بسلاسة:
“آه، كان عليّ أن أرسل برسالة إلى البيت، ليس أكثر. لكن، هل عادت الآنسة آيلا؟”
“ولِمَ تبحثين عنها؟ أعلم أن اليوم ليس فيه دروس.”
ضيّق لورانس عينيه بنظرة حادّة. ومع أنّ الموقف يبعث الرهبة، واصلت ديبورا الكذب ببراعة:
“لقد طلبت مني الآنسة درسًا إضافيًّا. آهٍ ما أكثر حماسها، حتى صار عيبًا!”
ارتسمت ابتسامة متكلّفة على وجهها، غير أن حاجبَي لورنس ارتعشا للحظة. ثم أشار إليها أن تتبعه.
“تفضّلي.”
ومشت وراءه وهي تضطرب في سرّها، فقد كان وجهه الذي عُرف عنه دائم البشر قد غدا متجهّمًا.
‘أترى هل وشَتْ بي آيلا؟ لا، ذاك بعيد، فالفتاة لا تجرؤ على إفشاء أنها ضُرِبَت.’
ظنّت أن الرجل في مزاجٍ عكر فحسب، ومضت وراءه. حتى إذا وقف وقال: “ها قد وصلنا.”
تجمّدت ديبورا إذ وجدت نفسها أمام:
“هذا….مكتب السيّد إيد، أليس كذلك؟!”
حاولت التراجع مذعورة، لكن لورانس دفعها بصرامة:
“تفضّلي بالدخول، السيّد ينتظرك.”
“م ـ مهلاً! والآنسة آيلا؟”
وألقى بها في الداخل رغم احتجاجها.
“آخ!” سقطت أرضًا سقوطًا شنيعًا. وقبل أن تنتبه لجراحها، دوّى في أذنها صوت بارد كالثلج:
“قد جئتِ.”
“س ـ سيّدي البارون…”
نظرت حولها فزعة، فإذا لم تُدعَ وحدها.
“ساشا!”
” آنسة دي… ديبورا…”
فقد جيء بخادمة آيلا أيضًا، وإلى جانب الباب اصطفّ الفرسان حاجزين الطريق.
وأُوصد الباب بإحكام.
قال لويد بصرامة:
“أتدريان لِمَ استدعيتكما؟”
كان في غضبه ما يُقشعرّ له البدن، وإن لم يكن كثير الكلام أصلًا. لكن ديبورا أدركت أنه ألين طبعًا مما يبدو.
تظاهرت بالبراءة قائلة:
“لا أدري، غير أني أظنّ الأمر متعلّقًا بالآنسة آيلا إذ دعوتنا معًا.”
ازدادت ملامح لويد قسوة، وقال بصوت متكسّر من الغيظ:
“لقد وُجِدَت آثار السوط على جسد ابنتي.”
“!”
ارتعدت ديبورا، لكنها تماسكت مستحضرة سندها في الخفاء، فأجابت بجسارة:
“نعم. إنما كان ذلك بعضَ تأديب لتأخّرها في التعلّم.”
“تأديب؟”
“نعم.”
ابتسم لويد باستهزاء:
“أترين ضرب ظهر الطفلة وذراعيها وفخذيها بالسوط تعليمًا؟ ثم تختارين مواضع يعجز أبوها عن تفحّصها!”
لولا مينيرفا لما عَلِم بذلك أبدًا. ولظلّت آيلا تُضرب طوال عمرها وهي تظن أنّه بمشيئة أبيها.
وحين أدركت ديبورا أن لويد يعلم أكثر مما توقّعت، اضطرب بصرها. فزمجر لويد:
“كُفّي عن الحِيَل الرخيصة!”
فتجمّد نظرها مكانه.
“أتسألين كيف انكشف الأمر؟ أخبرك: إنّ معلّمة الآداب الجديدة هي التي رأت الأمر بعينها وأعلمتني.”
“!”
ارتجفت ديبورا. “معلّمة الآداب؟ أليست تلك من نُبلاء فران القُرويين؟ كيف لها أن…”
لم يخطر لها قط أن ينكشف السرّ على يد غريبة من الخارج. فبُهِتت لوهلة.
فالتفت لويد نحو ساشا:
“وأنتِ! كنتِ خادمتها، فلمَ لم تُخبِريني؟”
أرتمت ساشا أرضًا مرتعشة:
“ع ـ عذرًا يا مولاي، خشيت أن تقلق…”
“هراء.”
حدّق فيهما لويد باحتقار. كان يظنّهما أوفياء لرعاية ابنته في غيابه، فإذا به يتلقّى خيانةً صاعقة.
“أترونها يتيمة جُلبت من الميتم، فظننتموها رخيصة؟”
“كلا، كلا.”
“ثم تجرؤان على إيذائها؟”
صرخت ديبورا:
“إنها تهمة باطلة! لم يكن ذلك إلا تعليمًا، أقسم لك!”
فقال لويد ببرود:
“آه، ولا شكّ أن كل ذلك كان بأمر أمي، أليس كذلك؟”
“هـاه؟!”
تجمّدت.
“ك ـ كيف…”
كيف علم بما أُمرَت به من قِبَل بريسِيلا؟!
واصل لويد بلهجة جازمة:
“لكن، حتى لو كانت أمي، أفتظنينها أمرت بضرب الطفلة؟ غايتها لم تتجاوز أن تلتحق آيلا بالأكاديمية في صدارة التلامذة. أمّا الضرب… فذاك محض هوى منك.”
ارتعد قلب ديبورا. ثم أخرج لويد رسالة من جيبه، وفتحها يتلوها بصوتٍ مزلزل:
[إلى السيّدة بريسِيلا مينت.
لقد ذهبت الآنسة آيلا ثانية إلى تلك الريفية لتتعلّم عندها. وإن كنتُ قد أدّبتُها من قبل، أخشى أن تعود بعادات قبيحة. فسأضع تدبيرًا عاجلًا في أقرب وقت.]
—
من الريفية يا النبيلة الساقطة؟
التعليقات لهذا الفصل " 28"