الفصل السابع والعشرون
لمّا بلغنا قاعةَ الاستقبال، جاءت لويسا بصحاف الشاي.
ثم لمّا انصرف القوم جميعاً، سألني إيد بصوت فيه ارتعاش:
“ذاك… عن أيّ أمرٍ تودّين الحديث؟”
فكّرتُ مليّاً في كيفيّة بدء الكلام.
كنت أخشى أن يُساء بي الظنّ فأُتَّهم أنّي أنا من أساء إلى آيلا، كما كنتُ أتحرّز أن أُعلِم الوالدَين بما قد يُثقل قلبيهما من خبر تعذيب طفلتهما.
فبدأتُ من أمرٍ صغير:
“آيلا، ممّن تتلقّى دروسها عادةً في البيت؟”
انتظرتُ جواب إيد بقلق، فلو أنه أثنى على المعلّم، لانصرفت الشبهة إليّ.
فأجابني بوجهٍ مدهوش:
“إنها مُدرِّسة بارعة قلّ أن تجدها في هذه الأرياف. بل إنّها تعتني بآيلا في غيابي.”
قلتُ: “أتعني أنّها مقيمة في الدار؟”
فأومأ: “نعم. لما كانت آيلا مولعةً بالتعلّم، اضطررنا لذلك.”
هنالك أيقنتُ: إنّ إيد لا يخطر بباله البتّة أنّ المعلّمة تؤذي الطفلة، بل ولا يعلم أنّها تُعذَّب أصلاً.
وكان لا بدّ لي أن أُعلمه.
وقبل أن أنطق، بادرني إيد بسؤالٍ مضطرب:
“أفشلت آيلا في مواكبة دروس سيّدتكم؟”
قلتُ في نفسي متعجّبة: ‘ما هذا السؤال؟ ولماذا الآن؟’
فأسرع يضيف:
“ظننت أنّك تسألين لأنها قصّرت في الفهم، فأردتِ أن تعلمي أيّ تعليمٍ نالت.”
هنالك فارت الدماء في عروقي، وقلتُ غير متحكّمة في حدّة لساني:
“أما تُبالي بابنتك؟”
فتجمّد وجهه ثم انقبض.
“ما الذي تعنينه؟”
قلتُ: “أعني ما أقول: أأنت حقاً ترعى آيلا؟”
لم أتكلّف ضبط ملامحي كما كنت أفعل أمام الصغار، بل تركتُ الغضب يعلو محيّاي.
فقال وقد احتدّت عيناه:
“أنا، مثلكِ، أربي طفلاً وحدي، ومع ذلك أبذل من العناية ما يكفي.”
قهقهتُ بمرارة: “عناية؟”
فعلاه الامتعاض.
قلتُ ببرود: “فكيف لم تلحظ آثار الجروح على جسدها؟”
ارتجّ إيد دهشةً، وحدّق كمن يشك في سمعه، ثم تلعثم:
“ماذا قلتِ؟”
أعدتُ القول ساخرة: “تقول إنك ترعى ابنتك، ومع ذلك لم تلحظ ما بجسدها من آثار ضرب؟ أم لعلك علمتَ وتغافلت؟”
فزاد ذهوله وقال مرتاعاً: “أيّ جروح تعنين، سيّدتي؟”
‘أحقاً يجهل؟!’ قلتُ في نفسي.
ومع ذلك راح يستحثّني: “أخبريني أرجوكِ، ما هذه الجروح؟”
كنتُ واجدةً عليه، لكن منظرَه الكئيب رقّق قلبي.
‘لو سمعتُ أنّ أحداً مسّ أَسلان بأذى، ثم جاءني الخبر من غيري، لكان حالي كحاله الآن.’
زفرتُ عميقاً ثم أفصحت:
“رأيتُ آثار سوط على ظهرها وذراعيها وفخذيها.”
“……!”
“لقد سكبت أَسلان الحساء على ثوبها، ولمّا غيّرتُه رأيتُ تلك العلامات. وحاولت آيلا إخفاءها، فلمّا انكشف أمرها بكت.”
قال مرتجفاً: “مستحيل…”
فتثبّتُّ: “لستَ أنت من فعل بها ذلك، أليس كذلك يا سيد إيد؟”
“أقسم أني لم أفعل!”
وانتفض واقفاً.
كان ذلك كافياً ليُثبت براءته.
رأيتُ بؤبؤ عينيه يرتجف بشدّة، ثم خرّ جالساً منهوكاً يهمهم:
“لِمَ؟ كيف؟ في بيتنا من يصنع ذلك…؟”
‘هو في حيرةٍ لا يعرف من أين يأتيه الداء، أما أنا فالرؤية عندي أوضح، فالغريب أقدر على الملاحظة.’
قلتُ: “إني أرتاب في المعلّمة المقيم، أو في الخادمة.”
قال: “المعلّمة والخادمة؟!”
أجبتُ: “نعم. المعلّمة ربما ضربها باسم التأديب، والخادمة لا بد أنها رأت الآثار فلم تُخبرك.”
فأجاب محتجّاً: “إنهم ممّن اخترتهم بعناية، لا يمكن أن يكونوا كذلك.”
قلت: “أعلم مشاعرك، لكن لا بُدّ من الارتياب مرّة على الأقل.”
وكنتُ أرى أني نجوتُ من التهمة، فاطمأننتُ قليلاً، ثم أضفتُ:
“ومع ذلك، يا سيد إيد، لعلّ الخلل فيك أنت أيضاً.”
“أنا؟!” قال مذهولاً.
فأومأتُ: “لو كانت آيلا تثق بك، لأخبرتك بما جرى. لكنك لم تمنحها الأمان.”
تنهد وهو يطأطئ رأسه، ثم جعل يمسح وجهه مراراً، وأخيراً انحنى قائلاً:
“شكراً لكِ، يا سيّدتي. لولاكِ لعشتُ جاهلاً بذلك أبداً.”
قلتُ: “بل الشكر لأسلان، فلولا أن سكبت الحساء ما عرفتُ شيئاً.”
وما إن فرغتُ من القول، حتى دوّى جَلَبةٌ بالخارج، وإذا بأسلان تقتحم الباب هاتفة:
“أمي!”
قلتُ مندهشة: “أسلان؟”
كنتُ تركتها لتُلاعب آيلا، فما الذي جاء بها الآن؟
لكنني رأيتُ آيلا واقفة وراءها.
قالت أسلان: “آيلا استيقظت. ثم إن العمّ إيد قدجاء، فقالت إنها ستنصرف.”
التفتُّ إلى آيلا، فالتقت عيناي بعينيها، ثم أعرضت بسرعة.
‘لا ريب أنّها لا تزال متأثّرة بما بدر مني.’
دنوتُ منها وجثوتُ على ركبتي كي نكون على مستوى النظر، وقلتُ:
“آيلا، سامحيني أني شدّدتُ عليكِ من قبل.”
فصاحت مندهشة: “سيّدتي؟!”
قلتُ وأنا أمسك بيدها برفق: “أفزعتُكِ كثيراً، أليس كذلك؟”
قالت وهي تهزّ رأسها: “لا… أنا بخير.”
ورأيتُها تبادلني النظر، فعلمتُ أنّها قبلت اعتذاري.
هنالك تقدّم إيد إليها قائلاً: “آيلا.”
“أبي…”
فتنحّيتُ جانباً، فاحتضنها بقوّة.
قال بصوتٍ متهدّج: “لِمَ لم تخبريني؟”
فلم تجبه، فكرّر بحرقة: “قلتُ لكِ مراراً إن أساء إليك أحد فأعلميني، فلِمَ سكتِّ؟”
فأجابت وهي تغالب الدموع: “لأن ديبورا وساشا هما من استأجرتَهما من أجلي، فظننتُ أن ذلك برضاك…”
وانهملت دموعها على كتفيه، وشدّ عليها بذراعيه، ولا شكّ أن وجهه كان يقطر ألماً.
فقلتُ لها: “آيلا، إن لاقيتِ ظلماً، فلا بدّ أن تُخبري الكبار.”
لكنها همست متردّدة: “لكن لقد كنتُ أستحق الضرب….”
وكنتُ هممتُ بالاعتراض إذ تدخلت أسلان قائلة:
“من تجرّأ على آيلا؟”
فنهرتها: “أسلان.”
لكنّها لم تُصغِ، بل التفتت إلى آيلا وقالت بوجهٍ غاضب:
“هذا لا يجوز أبداً. من يؤذي صغاراً مثلنا فهو من الأشرار، ويجب أن يُعاقَب!”
—
لعلمكم آسلان مسترجله لدرجة إن المترجم حسبها ذكر😭
التعليقات لهذا الفصل " 27"