الفصل السادس والعشرون
كان ذلك بلا ريب أثرَ السوط.
‘أيعقل أن يكون ما جرى آنفًا من ذلك أيضًا؟’
حين سقط الإناء على ساق آيلا، بدت متوجّعة على نحو غير مألوف.
واثقةً من شكوكي، أجلسْتُها على الكرسي، ونزعت عنها جواربها.
“سيّدتي!”
نادَتني آيلا وكأنّها تستنكر صنيعي، لكن صوتها لم يبلغ سمعي.
وما إن كشفتُ عن ساقها حتى انكشفت لي خطوط حُمر، آثار متلاشية لجلدٍ ضُرِب.
هنالك، انقلب بصري، وغشى عقلي غضبٌ شديد.
“من فعل هذا؟”
انفلت السؤال من بين أسناني، خشناً متهدّجًا.
ما كنتُ في حاجة إلى مرآة لأدرك كم غلظت ملامحي؛
فوجهي هذا، وإن صَمَت، يخيف، فكيف إذا عبس؟
ارتعدت آيلا وبدأت بالفُواق، ولكن عيني لم ترَ إلا جرحها.
قبضتُ على كتفها، وسألتها:
“من ذا الذي صنع بكِ هذا؟”
“سيّدتي! إنّه يؤلمني!”
“أفَعله السيد مينت؟ أضربكِ؟”
سألتُها وكأنّي موقنة. فليس في طاقة الخدم أن يمسّوا ابنة السيّد.
إذن، لم يبقَ إلا إيد.
لكن آيلا أنكرت بإصرار:
“لا، ليس أبي! ما فعلها قط!”
“فمن إذن؟!”
ارتفع صوتي، وانفلت غضبي.
هنالك، عادت آسلان مسرعةً تحمل الثياب، فإذا بها تفزع إذ تراني، وتلقي الثوب جانباً، وتندفع نحوي.
“أمّي! ما بالكِ؟ لا تؤذي آيلا!”
جذبتني آسلان بقوة لتُبعدني عنها.
عبثت بأصابعي لتنتزعها عن كتف أختها، ثم لمّا عجزت، تشبّثت بثيابي.
وحين لم يُجدها ذلك، صاحت باكية:
“أمّي! عُودي إلى وعيك! إنّ آيلا تبكي!”
“……!”
كأنّ الغشاوة انزاحت عن بصري، وأبصرتُ آيلا تنتحب أمامي.
‘يا للعجب! ماذا صنعتُ بها؟’
ارتجف قلبي، وبادرتها بالاعتذار:
“معذرةً يا آيلا… أفزعتُكِ، آسفة، أيّ فعلٍ صنعت؟”
“هـ… هـ…”
لم تجبني إلا بالدموع تتساقط غزيرةً من عينيها.
هنالك أيقنت أنّي ما عدتُ أملك حقّ مخاطبتها.
التفتُّ إلى آسلان:
“راقبيها حتى تهدأ.”
“نعم، أمّي.”
أومأت آسلان، وأخذت بيد آيلا:
“هلمي، آيلا.”
ولم تُمانع آيلا أن تتبعها.
غير أنّ نحيبها ظلّ يُسمَع من وراء الباب، يطعن قلبي كلّما دوّى، فأخفيت وجهي في كفّيّ نادمة.
—
حتى يعود إيد، قضيتُ أنا وآيلا كلٌّ في عزلة؛ فقد أرعبتُها حتى باتت تخشاني.
جلستُ وحدي، أُهَدّئ نفسي وأستعيد فكري.
‘لا… ما كان إيد ليصنع هذا.’
فهو يُبدي عناية بالفتاة، وهي وإن هابته، لا تجفل منه.
ولو كان يضربها، لارتعدت لرؤيته.
‘فهل أحد الخدم؟’
مستحيل. أي خادم يجرؤ أن يمسّ ابنة سيده؟
‘إذن… المعلِّمة الخصوصية.’
هذا الاحتمال الأقرب.
لكن متى بدأ الأمر؟
الأسبوع الماضي كانت آيلا بخير.
إذن، الجراح حدثت بين الأسبوعين.
‘أترى إيد يدري؟’
أشكّ. فلو علم، لطرد المعلِّمة.
لكنني رأيتُ على وجه آيلا ظلالاً، كأنّها ما زالت تعيش تحت وطأة من يعذّبها.
ومع ذلك، ليست سوى ظنون.
كان عليّ أن أسألها، لكنّها تخشاني الآن.
ولا يصحّ أن أبعث آسلان تستقصي عنها.
‘آه… رأسي…’
ما خطرت ببالي قط فكرة أن آيلا قد تكون تُعذَّب.
‘لا بدّ أن أخبر إيد.’
لكن، ماذا إن أنكرت المعلِّمة؟
أتُرى إيد يصدّقني أنا، الغريبة، أم معلِّمة ابنته التي عهد إليها طويلاً؟
الواضح أنّه سيُصدّقها.
‘ليت ثمّة شاهد…’
آه! الحاضنة! تراها رأت شيئاً؟ أم لعلّها متواطئة؟
لكن، أيّ نفع في تعذيب طفلة صغيرة؟
وأنا أعضّ على صدغي من الصداع، انفتح باب الغرفة الموصل إلى حجرة آسلان.
“أمّي…”
“قلتُ لكِ، راقبي آيلا.”
قمتُ من مكاني.
آسلان تقدّمت مترنّحة، ثم ارتمت في حضني، قائلةً:
“لقد نامت… يا له من عناء…”
لم أرها من قبل متعبةً على هذا النحو.
كيف تمكّنت من تنويم آيلا؟
فتحتُ الباب قليلاً، وتطلّعتُ عبر الفتحة، فإذا آيلا غافية في سريرها، محاطة بدُمى آسلان.
أغلقتُ الباب برفق، ومسحتُ على رأس آسلان:
“أحسنتِ. “
“هيهي.”
ضحكت، وقد غمرها السرور.
فاجأتني بقولها:
“لكن، أمّي… لماذا كنتِ تجزرين على آيلا؟”
جمد لساني، وعجزت عن الجواب.
آيلا أرادت أن تُخفي جراحها، أن لا يعلم بها أحد.
فلم أستطع أن أبوح بالحقيقة حتى لابنتي.
وبّختني آسلان بعينين عاتبتين:
“آيلا بكت كثيرًا.”
“أجل… سأعتذر لها حين تستيقظ.”
“نعم.”
ثم عانقتني بقوة، تودّ أن تمنحني عزاءً.
عندها دوّى طرقٌ على الباب.
“مولاتي، السيد مينت قد حضر.”
إنّها لويسا.
نظرتُ من النافذة، فإذا الشمس تميل نحو المغيب.
متى مضى الوقت هكذا؟
ناديتُ من الداخل:
“قولي له فلينتظر قليلاً.”
“نعم، مولاتي.”
وتباعدت خطواتها.
انحنيتُ نحو آسلان:
“سأحادث السيد مينت قليلاً، ابقي بجوار آيلا.”
“نعم، اتركيها لي.”
أجابت وهي تضرب صدرها الصغيرة بثقة، فابتسمتُ رغم همّي.
وعادت إلى الغرفة، بينما خرجتُ أستقبل إيد.
“السيد مينت.”
كان واقفاً في البهو، لم يدخل المجلس.
فلما رآني أهبط السلم، تبسّم وقال:
“آه، سيّدة. جئتُ لآخذ آيلا.”
“ألن تنتظر في المجلس؟”
“أردتُ أن أعود بها سريعًا. أنزلتْ؟”
وبدا من محيّاه أنّه لا يدري شيئاً.
‘هذا الرجل… أما علم بما أصاب ابنته؟ كيف لا يعرف؟’
تملّكتُ نفسي، وأجبته:
“آيلا نائمة الآن.”
“نائمة؟!”
أدهشه الأمر، وقال كالمحدّث نفسه: “هذا عجيب… كيف غفت في بيت غريب؟”
فقلتُ له:
“السيد مينت، عندي أمرٌ هام، أيمكن أن نتحدّث قليلاً؟”
“نعم، بالطبع.”
أجاب طائعاً، يجهل ما ينتظره.
—–
قلبي عليه ضميره بياكله لو عرف انها تنضرب من وراه
التعليقات لهذا الفصل " 26"