وفي العربة، في طريق العودة إلى قصر منتي، التفت لويد إلى آيلا الجالسة في انتصاب كدمية خزف وقال:
“كيف وجدتِ درس اليوم، يا آيلا؟”
أجابت بابتسامة وادعة رقيقة الملامح:
“كان وقتًا ثمينًا يا أبي.”
وكان جوابها على طرف نقيض من حيوية أسلان التي ملأت الدرس حركةً وصوتًا، مما أكسبها مظهر النضج المبكر على غير سنها. ومع أنّه لم يربِّها بصرامة مفرطة، فإن آيلا كانت دائمًا تتحرك بحذر، وكأنها تخشى أن تزل كلمة أو حركة منها. ومنذ أن جاء بها من هناك ورباها بعناية، لم يتبدّد شعورها بالتحفظ تجاهه.
‘لا بدّ أنّ العيب فيّ أنا…’
فانفتاحها على مينرفا وأسلان، اللتين لم تمضِ على معرفتهما إلا لحظات، دليلٌ على ذلك. لكنه لم يشأ أن يسألها أو يلزمها بالتودد، خشية أن يثقل على قلبها بما لا طاقة لها به.
وما لبثت العربة أن بلغت بوابة القصر. وما إن ترجلوا حتى رفعت آيلا طرف ثوبها وقالت:
“سأتقدّم إلى غرفتي يا أبي، أودّ أن أخبر المعلّمة ديبورا أيضًا.”
وكان لويد كثير الأسفار، ولذا كانت ديبورا ترافق آيلا معظم الوقت، فانعقدت بينهما أُلفة خاصة. ورغم أنّه كان يتمنى أن يتناولا العشاء معًا، فقد أومأ برأسه موافقًا.
“حسنًا، اذهبي.”
“شكرًا يا أبي.”
وأخفت شوقها إلى العدو ركضًا، لكنها أسرعت في صعود الدرج.
“أين المعلّمة ديبورا؟”
“في حجرتها.”
كانت آيلا تشتاق أن تباهي معلمتها بما حققته: الدرجة الكاملة في الاختبار الذي أعدّته السيدة مينرفا، بفضل ما تلقّته على يديها.
“معلّمتي!”
“لقد عدتِ، آنستي.”
قالت ديبورا بابتسامة رقيقة.
“كيف كان الدرس يا آنسة؟”
“كان ممتعًا. وبفضلكِ أجبتُ على جميع الأسئلة التي أعطتني إيّاها السيدة مينرفا.”
“كانت طيبةً جدًّا. والطفلة التي تعلّمتُ معها كانت…”
“…طفلة أخرى؟”
في تلك اللحظة، انطفأت البسمة من محيّا ديبورا، وتجمدت ملامحها. ترددت آيلا، تخشى أن تكون زلّت لسانًا، لكنها لم تكد تتراجع خطوة حتى تقدّمت ديبورا نحوها بوجهٍ وكأن الصاعقة قد مسّته.
“أتقولين إنك لم تدرسي عند معلمة أخرى فحسب، بل جالستِ أيضًا طفلةً من نبلاء الريف؟”
شعرت آيلا بالارتباك. ما بالها تغيّرت فجأة؟ لقد تشوّهت ملامحها الأنيقة بالغضب، وبهت منطقها الهادئ الذي عهدته.
أليست آيلا نفسها من نبلاء الريف؟ حاولت أن تدافع عن أسلان بصوت خافت:
“ولكِن… أنا أيضًا من نبلاء الريف، وأسلان فتاة طيبة…”
“لا، يا آنسة. أنتِ غيرهنّ. على المرء أن يخالط من هم في طبقته.”
طبقته؟ ولم تكد تسأل عن قصدها حتى أمسكت ديبورا بكتفيها بشدة، فشهقت من الألم:
“آه! يؤلمني هذا يا معلّمتي!”
“يجب أن تكوني كاملة، أكمل من أي نبيلة أخرى. ظننتكِ تدركين هذا، لكن يبدو أن الأمر يستلزم إعادة تهذيب.”
“ماذا… ماذا تقصدين؟”
“اتبعيني.”
وجذبتها من معصمها نحو غرفة دراسة صغيرة ملحقة بحجرتها.
“انتظري! معلّمتي!”
لكن صرخاتها ابتلعها وقع الباب وهو ينغلق بإحكام.
—
ولم تعد آيلا إلى غرفتها إلا متأخرةً وقد تاهت نظراتها. ولم تستفق إلا حين سمعت صوت وصيفتها ساشا:
“آنستي؟”
فقفز قلبها من الفزع عند لمس يد على كتفها، لكنها تنفّست الصعداء حين رأت أنها ساشا، لا ديبورا.
“آه… نعم، يا ساشا؟ ماذا هناك؟”
وساشا، وقد لاحظت اضطراب آنستها، لم تشأ أن تزيد عليها، فاكتفت بالسؤال في هدوء…
“آنستي اترغبين بتناول العشاء مع السيد؟”
“آه…”
لم تدرك حتى تلك اللحظة أنّها لم تتناول عشاءها بعد. والغريب أنّها لم تشعر بالجوع أصلًا. هزّت آيلا رأسها بخفة.
“لستُ جائعة كثيرًا هذه الليلة… سأتخطى العشاء.”
“حسنًا، إذن سأساعدكِ في الاستحمام.”
عادةً ما يُلحّ المرء على طفلٍ في طور النمو ليتناول طعامه، لكن ساشا لم تفعل. بدأت تفكّ أزرار ثوب آيلا وتُنزله عن كتفيها، فبانت آثار عصا غليظة على ذراعيها، حمراء قاسية الوطأة. اتسعت عينا ساشا دهشة، لكن آيلا بادرت بكلمات مرتبكة:
“آه… هذا… الأمر ليس كما تظنين…”
قالت ساشا بلهجة مقتضبة وهي تسحب جوربيها:
“هل المعلّمة ديبورا من فعلت هذا؟”
“أ… أممم…”
ترددت آيلا في الإجابة.
تذكّرت حين جاءت أول مرة إلى هنا، أن لويد قال لها: “إذا عاملك أحد بسوء، أخبريني فورًا.”
لكن… ماذا سيحدث إن أخبرته؟ هل لن ترى ديبورا بعد اليوم؟ ولويد يغيب كثيرًا، وديبورا هي التي تعتني بها دومًا، أقرب إلى قلبها من أي أحد… فكرة
فقدانها بدت كأنها تنتزع شيئًا من صدرها.
جاءت كلمات ساشا عليا كالحمام البارد:
“كان عليكِ أن تصغي للمعلّمة.”
شعرت آيلا وكأن الماء البارد انسكب عليها. تجاهلت ساشا نظرتها المصدومة، وساقت جسدها الصغير إلى حوض الماء الدافئ، تُنزلها فيه برفق. راحت تدافع عن ديبورا وكأنها تُبرّر فعلها:
“لا بدّ أنّ المعلّمة ديبورا لم تفعل ذلك بسوء نية. ربما اضطرت إلى استخدام العصا لأنها تريد لكِ الأفضل.”
كان هذا ما ظنّت آيلا نفسها؛ أن ديبورا، التي تشبه الأم في حياتها، لم تكن لتضربها لولا الضرورة القصوى. لكن سماع ذلك من لسان غيرها كان مختلفًا.
واصلت ساشا، وهي تمرر الصابون على آثار الضرب:
“في المرة القادمة، أصغي إلى ما تقول لكِ. تصوّري كم كان الأمر مؤلمًا لها أيضًا، أليس كذلك؟”
“ن… نعم، ربما…”
أومأت آيلا على مضض، تحت نظرة ساشا التي كانت أقرب إلى الأمر منها إلى السؤال. عندها فقط لان وجه ساشا وقالت بلطف:
“أنتِ ذكية يا آنستي. أنا واثقة أنّك ستفعلين أفضل في المرة المقبلة.”
“همم…”
“ولنُبقِ الأمر بيننا الآن. السيد سيقلق إن رأى هذه العلامات. سأجلب لكِ مرهمًا يسرّع شفاءها.”
“حسنًا… شكرًا لكِ…”
كلما مضت ساشا في كلامها، كانت ردود آيلا تزداد خفوتًا. فجأة، لم تعد تشعر أنّ ديبورا أو ساشا هما الشخصيتان اللتان عرفتهما من قبل. لم تعد تعرف إن كان ما يحدث طبيعيًا أم لا. لكنها، وقد اعتادت الضرب منذ زمن، أسرعت تقنع نفسها بأن العقاب كان نتيجة خطئها.
أبي وضع هؤلاء إلى جانبي لأجلي… لن يضربوني من دون سبب.
أبوها يهتم بها. لقد قال لها أن تخبره إن أساء أحد معاملتها. وهؤلاء اختارهم هو بنفسه. كانت تعرف أكثر من أي أحد كم أحسنت ديبورا وساشا إليها في الأيام العادية. وها هي اليد التي تغسلها الآن تفيض رفقًا.
‘إذًا… لماذا؟’
انكمشت آيلا أكثر في الماء.
لماذا أراد أبي أن أتعلم من السيدة مينرفا؟
ديبورا لا ترضى بأن تتلقى تعليمًا من مينرفا، ولا بأن تصادق أسلان. لكن لويد بدا وكأنه يريد عكس ذلك تمامًا.
‘فأيّ طريق عليَّ أن أسلك؟’
حيرتها ظلت تتخمّر في صدرها، لكنها لم تجرؤ أن تبوح بها لأحد؛ فقد سبق أن عوقبت على أسئلة طائشة.
إذًا عليها أن تتصرّف بحذر وحدها: أمام لويد، تنفّذ ما يريد. أمام ديبورا، تُرضيها بما تحب.
‘وماذا عن السيدة مينرفا وأسلان؟’
سألت نفسها، وجاءها الجواب سريعًا: ستساير رغباتهما أيضًا. ففي النهاية، صورة الطفل المثالي في عيون الكبار لا تختلف كثيرًا من شخص لآخر.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات