الغرفة المعدَّة للدراسة كانت أشبه بقاعة صفٍّ في مدرسة عريقة، جدرانها يزينها لوح أسود كبير، وأمام كل تلميذ مقعد واسع فسيح. ولأُضفي على المشهد رهبة المعلّم وهيبته، وضعتُ على عينيّ نظّارة، وأمسكتُ بيدي عصاً طويلة أشير بها، ثم التفتُّ إلى “أسلان” قائلة:
«حسنٌ يا صغيرتي، في هذا الصفّ، تُنادينني بـ: معلمتي».
فأجابت بصوت عالٍ مفعم بالحماس: «نعم، يا معلمة!»
لا أدري لِمَ، لكن شعورًا بالتفاؤل دبَّ في قلبي منذ اللحظة الأولى. أخذتُ أكتب على اللوح الحروف الأساسية، إذ تبيَّن لي أن لغة هذا العالم تستخدم رموزًا قريبة الشبه بأبجدية الحروف المعروفة، وإن كانت مخارجها تخالفها بعض الشيء.
قلت وأنا أشير إلى ما كتبت: «أسلان، اليوم سنتعلم الحروف الهجائية».
بدت على وجهها علامات الحيرة، لكنها ما لبثت أن أشرقت قائلة: «لا أفهم تمامًا، لكن… حسنٌ!»
لم يكن الأمر يُقلقني كثيرًا إن لم تستوعب المعنى في البداية، فذلك هو واجبي كمعلّم. أشرت إلى حرف الألف على اللوح: «هذا الحرف يُقرأ: ألف، هل تستطيعين نطقه؟»
«ألف!»
«أحسنتِ. والآن، هذا الحرف يُقرأ: باء».
«باء!»
وهكذا مضينا نتنقّل من حرف إلى آخر، أعرض عليها النطق الصحيح، فتكرر ما أقول بلسانها الصغير. كانت تواكبني على نحو حسن، حتى أتممنا معًا الحروف الثمانية والعشرون.
وخطر لي بفخر: «الأمر أيسر مما توقعت… لعل ابنتي عبقرية بالفطرة».
ابتسمتُ في سري، وأنا أظن أننا قد ننجز الحروف كلها في يوم واحد. فأشرت إلى حرف الألف وسألت:
«ما هذا الحرف؟»
فأجابت بثقة عجيبة: – «واو!»
– «مهلًا… ماذا قلتِ؟»
– «واو!»
ارتدَّ صدى الإجابة الخاطئة في الغرفة، فارتبكت، لكنني كنت أعلم أن هذا متوقَّع.
قلت في نفسي: «حقًّا… لا ينبغي أن أطمع بأن تحفظها كلّها في يوم واحد».
لم يمضِ على الدرس عشر دقائق، وها هي الانحرافات قد بدأت.
<أيمكن أن… تكون ابنتي بليدة>» تسلّل هذا الخاطر المرعب إلى ذهني، ثم أسرعت أنفيه:<لا! لم تكن هكذا حين كانت قطة!>
أخفيت اضطراب عينيّ وأنا أتابع: «لا، هذا باء».
فعبست، وبرزت شفتاها في دلال: «لماذا؟ أنا متأكدة أنه تاء».
«لم أعلّمك هذا أبدًا!»
بدأت أشعر بالجنون يزحف إلى رأسي. أيمكن أنها حفظت باقي الحروف كلها على هذا المنوال؟
«أسلان، وهذا الحرف؟»
– «صاد!»
– «خطأ… هذا سين. وهذا؟»
– «دو!»
– «كيف أصبح دو؟! قلت لك إنه دال!»
أوشكت أن أصرخ. ومع أنّني تمنيت أن تحفظ حرفًا واحدًا على الأقل بنهاية الدرس، إلا أنني اكتشفت أنها لم تُصب في أيٍّ منها، من الألف إلى الياء.
«لا… لا يمكن أن تكون حمقاء حقًّا».
وبينما أنا في قاع الإحباط، بدت “أسلان” هي الأخرى متضايقة من تتابع أخطائها. ثم رمقتني بنظرة القطط المتبرّمة، وقفزت من كرسيها فجأة.
«أمّاه، أنتِ معلّمة سيئة! لا أريد التعلّم منكِ بعد الآن!»
«أسلان!»
لكنها كانت قد وثبت من النافذة، ومن علُوّ الطابق الثاني هبطت على قوائمها الأربع بخفة القطة التي كانتها يومًا، ثم أخرجت لسانها في تحدٍّ، وانطلقت تعدو عبر الحديقة.
—
كان ما تلا ذلك مطاردة مرهقة. وبجسد “مينرفا” الذي أضعفته سنوات الكسل، لم أكن أملك أيّ فرصة لملاحقتها. ولمّا أقبل المساء، وبمساعدة الخدم، عقدنا هدنة مؤقتة.
«آه… مفاصلي…» تمتمتُ وأنا أجلس في قاعة الطعام متكئة على كبيرة الخدم “لويسا” ورئيسة الخادمات “جين”. أما «أسلان» فبدت في كامل نشاطها، وكأن المطاردة كانت نزهة.
– «أمي، هيا نلعب الغميضة غدًا! الدراسة مملة».
– «لم يكن ما فعلناه غميضة… ثم إنك بحاجة للدراسة…» أجبتها بفتور.
فقالت ببراءة جارحة: «لكنّك معلّمة سيئة».
أصابتني كلماتها في الصميم، وأحسست بخيبة تُطفئ ما تبقّى من حماسي. لقد كنت أحلم يومًا أن أكون معلّمة لرياض الأطفال…
بعد العشاء، استعدت قليلًا من نشاطي، لكن” أسلان” أخذت تتمايل من النعاس بعد نهار حافل بالركض، حتى كادت رأسها تهوي في طبقها.
«أوه، كدتِ تسقطين» همست وأنا أُسند رأسها قبل أن ترتطم بالصحن.
«هيا، يا صغيرتي، آن لك أن تنامي».
«آه… أنا متعبة…» تمتمت وهي تتدلّى بين يدي.
كنت أنا الأخرى أجرّ أذيال التعب، لكنني حملتها إلى غرفتي، وأرقدتها على الفراش برفق، ثم تمددت بجانبها.
«متى كانت آخر مرة ركضتُ فيها هكذا؟» تساءلت في داخلي. ورغم الإرهاق، بدا وجهها وهي نائمة كوجه ملاك.
ربتُّ على بطنها في مودة، وأخذت أفكّر: «ربما طريقتي في التعليم لم تناسبها. هي مليئة بالطاقة، والجلوس إلى الطاولة لا يجدي معها. ينبغي أن أجد أسلوبًا يتوافق مع طبيعتها».
«كيف يتعلم الصغار عادة الحروف؟»
وفجأة، ومضة فكرة أضاءت عقلي. طريقة كهذه لن تفشل معها أبدًا!
—
في صباح اليوم التالي، كانت “أسلان” منهمكة في التهام شريحة سلمون مشوية، تُمسك بالشوكة في كفّها الصغير بمهارة ناقصة. وبصوت لين حاولت أن ألين حذرها:
«أسلان~؟»
دون أن ترفع رأسها، قالت محذِّرة: «لن أدرس معكِ يا أمّي».
كم هي فطِنة…
«لكن، يا أسلان، اليوم سنلعب».
«نلعب؟»
رفعت رأسها فجأة، وعيناها تلمعان بالبشر.
«نعم، لعبة ممتعة جدًّا. لكن… إن لم ترغبي باللعب معي، فلا بأس…»
«لا! أريد اللعب! أريد اللعب معكِ يا أمي!»
ها قد اصطدتها… ما أيسر أن تنخدع أحيانًا.
ناولتها قطعة سلمون كبيرة بابتسامة: «إذًا، أنهِ طعامك سريعًا لنذهب ونلعب».
«حسنًا! سآكل بسرعة!»
يا لبراءتها… ابتسامتي التي كانت ودودة اتخذت ظلًّا ماكرًا، لكنها كانت مشغولة بالتهام طعامها فلم تلحظ شيئًا.
—
«هيييه، نلعب، نلعب~ اللعب مع أمي~»
كانت «أسلان» تكاد تطير من الفرح، تتمايل في خطواتها وهي تشدّ على يدي وتغني.
«أمي، ماذا سنلعب؟ الصيد؟ تسلق الأشجار؟ المطاردة؟»
«ستعرفين حين نصل».
ولما بلغنا المكان، لمحت علامات الحيرة على وجهها.
«أمي، هذا المكان…»
«ادخلي».
وقبل أن تنبس بكلمة، دفعتها برفق إلى الداخل، وأغلقت الباب بإحكام، حتى بدا أنه لن يُفتح أبدًا.
أسندت ظهري إلى الباب لأقطع طريق الهروب، ثم ابتسمت قائلة: «تفضّلي بالجلوس يا آنسة أسلان».
تجمّدت مكانها، وقد خذلتها ثقتها بي. لكنّها لم تكن ممّن يبتلعون الخديعة في صمت، فصرخت محتجّة:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات