حدّقتُ في “إيدي” بعين الريبة، وقد بدا عليه الاضطراب من حدة حذري.
قال مستفسرًا: «ما الأمر؟»
أجبته، وهززت رأسي: «لا شيء.»
والحق أن تغيّر نسب “آيلا” لم يكن همّي الأول، وإنما كان جلّ اهتمامي ألّا تُزَجَّ “أَسْلان” في تلك الأكاديمية. فلا قانون يُلزم “آيلا” ألا تكون صديقة “أَسْلان”.
الأولى ألا أشتبك مع مجريات القصة الأصلية.
ما دمت أتجنب إرسال “أَسْلان” إلى الأكاديمية، فسوف نبقى – هي وأنا – في مأمن.
أدرت بصري من خلال النافذة نحو قاعة الاستقبال التي ما زال فيها أثر الفوضى، فإذا “أَسْلان” تحدّث “آيلا” بوجه لم أره منها قط مع أحد في سنّها، وجهٍ فيه من الحلاوة ما يفتن القلب.
أَسْلان بحاجة إلى أصدقاء أيضًا.
وكان في قلبي شعور قوي أن صديقة كهذه نادرة المنال. غير أن “آيلا” هي بطلة القصة الأصلية، وهذا أمر لا يُحسم ارتجالًا.
فهم “إيدب” تردّدي، فلم يُلحّ: «خذي وقتك في التفكير، وأخبريني برأيك.»
تنهدتُ طويلًا؛ لِمَ كان لزامًا أن تكون “آيلا” هي من عثرت على “أَسْلان” آنذاك؟ لو كان الأمر مع طفل آخر، لما ترددت في قبول عرضه. وبعد صمت طال، تمتمت: «سأفكر في الأمر، وأردّ عليك.»
—
وبعد أن عدت إلى المنزل مع “أَسْلان” سالمتَين، أجلسْتُها على السرير وجلست قُبالَتها.
قلتُ: «حسنًا يا أَسْلان، قولي لي لِمَ هربتِ.»
فالآن وقد بلغنا بيتنا، حان وقت العتاب.
لكنها ظلت مطرقة الرأس، شفتيها متجهمتين، لا تنطق بحرف. لم أرها بمثل هذه الملامح العابسة من قبل، وكأنها عاقدة العزم على الصمت إلى الفجر. خفّضت صوتي وسألت مجددًا:
«يا أَسْلان، عليك أن تجيبي حين تكلمك أمك.»
لكنها التزمت الصمت، تتأرجح قدماها قليلًا.
زفرت أنفاسي مستسلمة لليلة طويلة.
«أمي…»
«نعم؟»
«من المفترض أن أذهب إلى الأكاديمية، وأنتِ لا تدعينني…»
همست بالكلمات همسًا خافتًا، بالكاد يُسمع.
ها قد نطقت، غير أن جوابها لم يكن مقنعًا. أمسكت بذراعها وسألت:
«وما علاقة هذا بفرارك إلى بيت اللورد “مينتي”؟»
فقالت بصوت مجروح، وهي تصرف نظرها: «قالت لي “آيلا” إنها تنوي الالتحاق بأكاديمية “بورولونغ”، وأن والديها سيفتخران بها إذا فعلت…»
«وماذا بعد؟»
نظرت إليّ سريعًا ثم خفضت بصرها، وأنفها محمرّ من أثر البكاء: «ظننت أنك لا تثقين بي، لذلك لا تريدين أن أذهب. فأردت أن أصبح أطول وأقوى، حتى تثقي بي وتسمحي لي. لهذا ذهبتُ إلى ذلك الرجل، لأطلب منه الوصفة لأصبح قوية وطويلة… كي تصدّقيني.»
«يا أَسْلان، ليس الأمر أنني لا أثق بك!»
صرخت قبل أن تتمّ عبارتها. كان ظنّها سخيفًا حدّ الصدمة. فأنا أمها، وكيف لأم أن لا تثق بولدها؟
لكنها انفجرت باكية، والدموع تجري على وجنتيها، ونظرت إليّ مباشرة لأول مرة في ذلك اليوم وسألت: «إذن، لماذا سألتِ إن كان بوسعي أن أعود قطة؟»
شهقتُ ولم أنبس بحرف.
كنت قد سألتها ذلك بغير روية، دون أن أدرك كم جرحها السؤال. ثم تابعت تشكو: «حين خرجتُ من القصر لأول مرة، أردت مساعدتك بالصيد بنفسي، لكنك وبّختني. أنا أكرهك يا أمي… واااه!»
وانفجرت في بكاء مرّ.
«أَسْلان، لقد أسأتِ الفهم، إنما كنتُ قلقة عليك…»
حاولت أن أشرح، لكن الكلمات اختنقت في حلقي. ترى، هل كان قلقي عليها وحده؟ أم أنني خشيت أن يعكّر صفوي تحوّلها المفاجئ إلى إنسان؟
عندها خطر لي سؤال لم أسأله من قبل: كيف، ولماذا، أصبحت أَسْلان بشرية؟
كنت قد شُغلت بالتحوّل ذاته عن البحث في سببه، أو إن كان برغبتها هي. فأمسكت بيدها وسألتها: «أَسْلان، هل رغبتِ أنتِ أن تصبحي بشرية؟»
أومأت في ضعف: «نعم.»
«وكيف؟»
«تمنّيت ذلك للقمر، مع أمنيتك.»
يا للعجب! كنت أنا أيضًا أتمنى للقمر كل ليلة، فلماذا استُجيبت أمنيتها وحدها؟
اهدئي… لا يهمّ السبب الآن، المهم أن أَسْلان أصبحت بشرية.
فما مضى قد فات. سألتها ثانية: «وماذا كانت أمنيتك بالضبط؟»
«أن أصبح إنسانة كي أحميكِ.»
«كي تحمينني؟»
«كنتِ دائمًا تبدين قلقة، وكنتُ قطة لا أقدر على مجابهة المخلوقات الأكبر مني. فأردت أن أصبح بشرية، لأن البشر هم أقوى المفترسات.»
كانت كتفاها ترتجفان وهي تضيف: «ثم أنتِ بنفسك قلتِ، يا أمي، إنك أغضبتِ شخصًا ذا سلطان، وقد تموتين.»
رفعت رأسها، وفي عينيها الخضراوين بريق دموع، تنظر إليّ بعَتَب: «لكن أمي لا تريدني إلا أن أعود قطة، وحتى مع أن باستطاعتنا أن نمضي وقتًا أطول معًا، فإنك لا تفرحين بذلك، بل توبّخينني دائمًا وتقولين إنني أفتعل المشاكل!»
كانت كل كلمة منها تمزّق قلبي تمزيقًا.
تابعت، وفي وجهها غضب طفولي لم أعهده فيها: «لم أفتعل المشاكل، إنما كنت أحاول أن أجعلك تثقين بي… لكنك لا تسألين أبدًا لماذا أفعل ما أفعل!»
عندها أسرعت أحتضنها. وما إن فعلت، حتى انفجرت بالبكاء مجددًا، كأنما كانت تنتظر أن أفعل.
حين كانت قطة، كانت أيامي هادئة مطمئنة، وإن كان القلق يساورني أحيانًا من أن يقتلني “مارس” في يوم ما، فإن كل مخاوفي كانت تتلاشى حين تقع عيناي عليها.
مجرد وجودها كان عزاءً عظيمًا لي.
لكنها لم تعد هي ذاتها الآن.
ومن فرط قلقي الذي لم تفهمه، تحوّلت إلى إنسانة لتحميني.
فكيف كان مني الصنيع؟
كانت حوادثها حوادث طفلة في سنّها، لكني كنت أراها فوضى وإزعاجًا، وأوبّخها من غير أن أبحث عن السبب.
كنت أحب الأطفال، وكنت في حياتي السابقة أحلم بأن أصبح معلّمة روضة، وأجتهد في الدراسة لأجل ذلك. لكني هنا كنت أفعل ما لا يفعله أي والد صالح.
شدَدتُها إلى صدري: «سامحيني يا صغيرتي… سامحيني يا أَسْلان…»
«كنتِ قاسية يا أمي… حين كنت قطة، كنتِ تحبين كل ما أفعل، أما الآن وأنا بشرية، فلا تسمعين مني إلا التوبيخ… واااه!»
ازدادت بكاؤها مرارة، فضممْتُها بقوة أكبر. ولعل دفء العناق قد طمأنها، إذ أجهشت أكثر، ثم ردّت العناق.
ابتلعت دموعي حيث لا تراها.
«لِمَ تحمينني، وأنتِ ما زلتِ طفلة صغيرة…»
«لكن…» قالت وهي تشهق.
لا أدري كم لبثنا على هذه الحال، حتى أبعدتها قليلًا، ونظرت إلى عينيها الصافيتين، وربّتُّ على وجنتيها البيضاء الممتلئة.
كانت عيناها محمرتين من البكاء، وأنفها مسدودًا بالدموع، وهي تكبح حزنها بصعوبة، مما أوجع قلبي.
لم أكن أتخيل أنها تريد حمايتي إلى هذا الحد.
كم كنتُ في نظرها ضعيفة، حتى شعرت هذه الطفلة الصغيرة بأنها مطالبة بأن تكون سيفي ودرعي؟
لقد فهمت الآن دوافعها، لكنني كنت حين تحوّلت إلى بشرية في غاية الاضطراب، ولم أُخفِ عنها ذلك، فأخفتها.
كانت دائمًا طفلتي الصغيرة التي تحتاج أمها في طعامها ولعبها ونومها.
فكم روعها أن تظن أنني قد أموت فجأة!
ولم يكن أمامي سوى طريق واحد لمحو قلقها.
أمسكت يدها بقوة واعتذرت: «أَسْلان، سامحيني، لم أُدرِك مشاعرك. و…»
تعثرت كلماتي، إذ لم أعتد البوح بهذا، لكن لا بد من قوله، لأبدّد قلقها.
فنظرت في عينيها وقلت بصدق: «أمك تحبك دائمًا يا أَسْلان. حتى وإن لم تذهبي إلى الأكاديمية، وحتى إن لم تصبحي قوية، أو لم تطولي كثيرًا… أنتِ ابنتي الوحيدة، وحبيبتي التي لا ثاني لها.»
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات