“لم أكن أحاول طردك.”
حدّقت جيزيل بشرودٍ إلى اليد الكبيرة التي أمسكت بمقبض عربة الطفل.
“ظننتُ أن لديكَ موعدًا ما، بما أنكَ كُنتَ تواصل النظر إلى الساعة.”
نظرَ السيد مجددًا إلى ساعته، ثُمَّ وجّهَ طلبًا غريبًا آخر إلى جيزيل :
“إذا بدأتُ أقول أشياء غريبة أو حاولت لمسكِ، اهربي فورًا و اذهبي لمناداة روي.”
“لمَ تقول شيئًا كهذا…؟”
“كنت أشرب الكحول.”
“في وضح النهار؟”
رجل نادرًا ما يشرب حتّى بعد غروب الشمس، يشرب و الخيوط الذهبية ما زالت تغمر السماء؟
صُدمت جيزيل من كلماته غير المتوقعة، و تصرفت بغريزة دون تفكير. وقفت على أطراف قدميها، و اقتربت من شفتيه المنطبقتين بإحكام.
لكن… لا رائحة للكحول.
كل ما التقطته من أنفاسه، حينَ فُتحت شفتاه قليلًا، كان عطر النعناع الخافت.
“أوه.”
لم تدرك ما الذي فعَلته حتّى دفعها بعيدًا و تراجعَ خطوة إلى الوراء.
لا بُدَّ أنه اعتقد أنني كنت أحاول تقبيله…
“كنت فقط أتحقق إن كانت رائحتك تشير بأنك شربت كثيرًا.”
أسرعت لتبرير تصرّفها، لكن ملامحه الصارمة لم تلِن.
“صدقني، هذا كل ما في الأمر.”
لم أكن أحاول سرقة قبلة!
“جيزيل بيشوب.”
لكن غضبه لم يكن من ذلك أصلًا.
“لماذا أنتِ مرتاحة هكذا بالاقتراب من وجوه الرجال؟ لا تقولي لي… حتّى مع ذلك الوقح عديم الحياء…؟”
“ما الذي تهذي به؟ أنتَ لستَ رجُلًا، يا سيدي.”
ردّت بسرعة و بدهاء، محاوِلةً التهرب. و على ما يبدو، نجحَ الأمر. إذ توقّف لبرهة، ثُمَّ انفجرَ ضاحكًا، و تجعّدت أطراف عينيه من شدة الضحك.
“كما هوَ متوقّع من خريجة فولرتون الأولى.”
أجل، لستُ رجُلًا في نظركِ. أحسنتِ على هذه الإجابة… هكذا فكّرت جيزيل أن المقصود، لكن إدوين كانَ فقط منبهرًا ببديهتها.
«وااه…»
حينَ بدأ الطفل بالبكاء مجددًا، استأنف إدوين سيره إلى جانبها.
“على كل حال، لم أشرب بالقدر الكافي لتفوح مني الرائحة. لكن إن شعرتِ يومًا أنني أتصرف بشكلٍ غريب، فلا تترددي في مناداة روي. “
“حسنًا.”
و بينما سارت إلى جانبه بخطوات متناسقة، سألت :
“لكن… لماذا أنتَ هنا، يا سيدي؟”
“كانَ لدي موعد.”
«……»
صمتها هذا، على ما يبدو، فسّره بطريقته، فشعر بالحاجة إلى توضيح غير ضروري :
“لم أكن أتبعكِ. ولو كُنتُ أفعل، لاكتشفتُ خداعكِ لي منذ زمن.”
لا يزال يرى عملها كـمربية خيانة…
“إلى أين سنذهب؟”
“لا وجهة محددة. خرجتُ فقط في نزهة لأجل تنويم الطفل.”
إذًا، لماذا يساعد من يراها خائنة؟
وجدوا أنفسهم يسيرون خارج الحرم الجامعي، حتّى مرّوا بمحلات تقع أمام البوابة الخلفية. لم يفت على السيد نظرة جيزيل التي تابعت المحلات بعينيها.
“أتُريدين آيس كريم؟”
“نعم.”
“أي نكهة؟”
“اللّيمون.”
ركنَ عربة الطفل قرب طاولة فارغة على الرصيف، و طلبَ منها أن تجلس و تنتظر، ثُمَّ توجّهَ وحده نحوَ كشك بيع الآيس كريم.
جلست جيزيل عند الطاولة و هيَ تُحرّك العربة بهدوء حتّى لا توقظ الطفل، بينما كانت تتابع بصرها ظهر السيد و هوَ يطلب الآيس كريم. و من الطبيعي أن تقع عيناها أيضًا على المرأة التي تقف خلف الكاونتر.
كانت المرأة، التي تبدو في أواخر العشرينات، منهمكة في الدردشة أثناء إعدادها للآيس كريم، و لم تتوقف عن التبسم.
إنها تُغازله.
لقد رأت جيزيل عددًا كافيًا من النساء يحاولن التقرّب من السيد لتُدرك أنها لم تخطئ في ظنّها.
إنها تُغازله أمامي مباشرة؟
لطالما شعرت بالانزعاج من النساء اللاتي يحاولن التقرب منه، لكن اليوم، انزعاجها كانَ مختلفًا قليلًا.
لا بُدَّ أنها تظنّ أني لا أبدو كأنني حبيبته أبدًا.
و في النهاية، ناولت المرأة الآيس كريم له يدًا بيد، لتمسّ أناملها أنامله “عرضًا”.
توقّفت يد جيزيل التي كانت تهزّ العربة.
ما نوع التعبير الذي كانَ يرتسم على وجهه؟
لم تره يومًا يذوب أمام هذا النوع من الإغراءات. رُبما كانَ فقط يُجامل.
و معَ ذلك، شعرت جيزيل بالغيرة من كل النساء اللواتي رفضهن. على الأقل، كانت لديهن الجرأة للتعبير عن مشاعرهن تجاهه.
لقد جعلها ذلك تشعر و كأنها عادت إلى كونها فتاة في الثالثة عشرة، تقف أمام مرشّحات أن يكنّ دوقات مستقبليات.
و كأنها لم تغادر ذلك المكان أبدًا.
“ها هيَ، نكهة الليمون.”
عادَ السيد، و ناولها مخروط الآيس كريم، ثُمَّ رتّبَ بعض القطع النقدية الصغيرة على الطاولة أمامها.
“هذا يُضيف ستة و تسعين بنسًا إلى ثروة الآنسة بيشوب.”
كانَ السيد يكره الاحتفاظ بالفكة. كلما حصل عليها، أعطاها لجيزيل. و في صغرها، كانت تبتهج بذلك.
أما الآن، فقد باتت تجد في معاملته لها كـطفلة أمرًا غير مريح قليلًا. كم أصبحت مدلّلة.
“هل تُريدين مصروفًا أنتِ أيضًا؟”
كانت الطفلة قد استيقظت بالفعل، تُحدّق بالعملات المعدنية باندهاش، ثُمَّ مدت يدها إليها. لكن السيد مدَّ إصبعه الطويل، فوضعه في كفّها الصغيرة بدلًا من العملات.
“بإمكانك طلب المصروف من ماما و بابا.”
لكن السيدة المارّة لم تسمع كلماته على ما يبدو.
“يا إلهي، هذه الملاك الصغيرة تشبه أمها و أباها تمامًا. ما أروعها!”
تصلّبت جيزيل، التي كانت تبتسم للطفلة التي رُفضت بلُطف، عند سماع التعليق.
هل يظنّ الناس أننا متزوجان؟
في تلك اللحظة، أرادت أن تهب هذه المرأة الغريبة ثروتها بأكملها، و في الوقت ذاته شعرت بالضيق.
أسرعت إلى النظر في ملامح السيد. بدا و كأنه سمِعَ شيئًا لا ينبغي له سماعه.
إنه منزعج من هذا الفهم الخاطئ. رُبما سيختلق عذرًا و يرحل. لا أريده أن يفعل ذلك.
و بلهفة، أخرجت مرآة صغيرة من حقيبتها، و تفحّصت وجهها.
“هل كانَ مكياجي مبالغًا فيه؟”
أمال السيد رأسه قليلًا، و كأنه لم يفهم ما تعنيه، و هوَ يُحدّق في وجهها مليًّا.
“هل أبدو أكبر سنًا اليوم؟”
“ماذا؟ أكبر؟ بل أقول إنكِ تبدين ناضجة. و إن كانَ ذلك ما تُسمّينه كِبرًا، فأنا الرجل العجوز بحق، عليّ أن أستلقي في تابوت.”
ضحكته التي تلت ذلك بدّدت التوتر الذي خيّمَ على الطاولة. لم يرحل السيد، و بينما كانت جيزيل تتناول آيس كريمها، تكفّل هوَ بالطفلة.
“فـلنرحل الآن.”
حاولت جيزيل النهوض، لكن السيد لم يتحرك. كانَ يلهو معَ الطفلة بيد، و يسند ذقنه بالأخرى، بينما يُحدّق بها باهتمام.
“لِمَ… تنظر إليّ هكذا؟”
“هل استمتعتِ بالآيس كريم؟”
“نعم.”
“و بأحمر الشفاه أيضًا؟”
“…ماذا؟”
فزعت، و أسرعت بالبحث عن مرآتها الصغيرة من جديد. و في لحظة، احمرّ وجهها في انعكاسها، ما جعل لون أحمر الشفاه الوردي الباهت يبرز أكثر.
لقد زالَ أحمر شفاهي.
بسبب قلّة خبرتها، لم تُدرِك أنَّ الآيس كريم قد أزال أحمر الشفاه الذي وضعته بعناية.
شفاهها الآن حمراء فقط عند الأطراف، بينما يتوسّطها لون وردي باهت، لا شكَّ أنّها بدت في غاية السخافة في نظر السيد.
السيد حقًا ماكر.
حينَ يتعلّق الأمر بالسيدات، يُفترض بالرجُل أن يُلمّح بلطفٍ و رقّة إن شُوّه مكياجهنّ، و أن يحرص على إيصال ملاحظته دون أن يُحرجهنّ و هذا من الفضائل التي لا بُدَّ أن يتحلّى بها أيّ رجُل نبيل.
لكن السيد أخبرها مُباشرةً، وبنبرة مرحة. و كأنّه يُذكّرها أنّها ما زالت في عينيه طفلة، لا امرأة.
“انتظري لحظة…”
لكن، و بغض النظر عمّا يراه السيد، كانت جيزيل سيّدة. و لأنّ السيّدات لا يُجدّدن أحمر الشفاه أمام الناس، فقد نهضت من مقعدها قاصدة دورة المياه في المقهى.
إلا أنّ شيئًا ما لامس شفتيها.
أو على وجه الدقّة، طرف إصبع السيد المغلّف بمنديل حريري.
“من الغريب أن أقول هذا بعد أن اشتريت لكِ أحمر الشفاه ذاك، لكن…”
بدأ يمسح بقايا اللون عند زوايا فمها بلطف باستخدام المنديل، ثُمَّ همس برجاء :
“لا تتسرّعي في أن تُصبحي امرأة، بعد.”
لكن جيزيل كانت قد أصبحت امرأة بالفعل، و لا عودة إلى الوراء.
ينبغي له أن يُدرك أنّها لا تستطيع البقاء طفلة مدلّلة إلى الأبد.
“أي نوع من الوظائف سيكون نافعًا لك، يا سيدي؟”
سألته و هيَ تسير إلى جانب عربة الطفلة، في طريقهما إلى المنزل حيث تعمل كـمربية.
“محامي؟ أم محاسب؟”
“وظيفة تُرضيكِ أنتِ.”
“و كيفَ سينفعك ذلك؟”
“سيُطمئنني، أن أعلم أنكِ سعيدة. لكن بما أننا تطرّقنا إلى هذا… إن أردتِ حقًا مساعدتي، فـاعملي على تحسين ذوقك في الرجال، لو سمحتِ.”
“و ما مشكلة ذوقي في الرجال … ؟”
كادت تحتجّ بغضب، لكنّ صورة “ذلك الأحمق الوقح” خطرت في بالها، فأطبقت شفتيها دون أن تُكمل.
التعليقات لهذا الفصل "25"