ارتبكت جيزيل عندما سمعت الصوت المألوف. و بمُجرّد أن رفعت رأسها بسرعة، التقت نظراتها بعينَي رجل طويل كانَ يقف خلفها على مسافة قصيرة، ينظر إليها من علٍ.
“…سَيّدي؟ لِمَ أنتَ هُنا…”
و بينما كانت جيزيل مصدومة، حوّل الرجل نظره بسرعة من وجهها إلى عربة الطفل أمامهما.
“أهذا هو موعِدكِ؟”
“……”
“كنت أتساءل لماذا لم يأتِ ليُرافقكِ.”
أطلقَ ضحكة مريرة و هوَ يُلقي نظرة على الطفل النائم بعمق داخل العربة.
“اتّضحَ أنهُ لم يستطِع الحضور.”
فوجئت جيزيل تمامًا. فـهيَ لم تكن تواعد رجُلًا طوال الشهر الماضي، بل كانت تعمل كـمربية أطفال.
كانت تظن أنه سيفرح لأنها لم تَعُد ترى ذلك الرجل الذي يكرهه بشدة. لكنها فوجئت بأنه بدا غاضبًا بدلًا من ذلك.
“لِمَ كُنتِ تكسبين المال من وراء ظهري و بِشكلٍ سِرّي؟”
‘لم أرِد تضييع الوقت في الخارج مُتظاهِرة بأنني معَ رجُل.’
لم تستطِع أن تُصرّح بسببها الحقيقي، مما جعلها تُطيل أمد الكذبة، ليُسيء فهمها و يُوبّخها.
“لو كُنتِ بحاجة إلى شيء، كانَ بإمكانكِ فقط أن تطلبي مني أن أشتريه لكِ. و لو كُنتِ بحاجة إلى المزيد من المصروف، كانَ بإمكانكِ أن تطلبي المزيد. لِمَ تفعلين شيئًا كهذا يُؤذيني؟”
و عندَ سماعها كلماته عن “الأذى”، أصيبت جيزيل بذهول للحظة.
“أعني، ليسَ و كأنني كنت أبيع أعواد الثقاب أو جسدي في الشارع…”
كانت تعمل كـمربية أطفال بدوام جزئي لدى إحدى العائلات الثرية، لكنه جعل الأمر يبدو و كأنه تصرّف لا يُغتفر، و كأنها كانت تدقّ المسامير في قلبه.
“الأمر لا يتعلّق بالمال. أنا بالغة الآن. و سأضطر للعمل في النهاية، لذا أنا فقط أكتسب خبرة.”
لكن عُذرها المتعجل لم يُقنعه على ما يبدو، إذ حدّق بها بنظراتٍ تقول بوضوح : “لا تقولي كلامًا سخيفًا.”
‘لقد نسيت أنه يعرف عن ماضيّ…’
فـهيَ قد حصلت على أكثر من كفايتها من “الخبرة” في تربية الأطفال و العمل حتّى قبل أن تبلغ العاشرة. فلماذا كانت تعيد الكرة من جديد؟
“جيزيل.”
أمسكَ الرجل الواقف أمامها بذراعها بيدَيه الكبيرتين. كانَ يفعل ذلك دومًا عندما كانت ترفض الحديث أو تعاند و هيَ صغيرة، يُمسك بها و يُقنعها بلُطف.
“كوني صريحة معي.”
بلعت جيزيل ريقها و قد جفَّ حلقها، و حدّقت في وجه الرجل الواقف أمامها مباشرة.
“هل تفعلين هذا لأنكِ قلقة من أنني سأتوقّف عن دعمكِ عندما تُصبحين بالغة؟”
لقد رأى من خلال مشاعرها تمامًا. كانَ هذا، في الحقيقة، أحد الأسباب التي جعلتها تقبل عمل المربية.
“أعرف أنكَ ستدعمني. أعني، أعلم أن الأمر ليس مضمونًا…”
“و لِمَ لا يكون كذلك؟”
“لأنني لستُ ابنتك.”
سارعت جيزيل لتُوضح نفسها للرجل الذي تَقطّبت حاجباه.
“أنا أعلم أنكَ أعتنيت بي و أعلم أنكَ ستدعمني حتّى أقف على قدميّ.”
“إذن لِمَ؟”
“و لهذا السبب بالذات، أريد أن أصبح مستقلّة بأسرع ما يمكن.”
“إذا كُنتِ تدركين كل هذا، فـلِمَ لا تفهمين أنكِ لا تحتاجين للشعور بالذنب حيال ذلك؟”
“لكنني لا أستطيع منع نفسي. لا يعجبني الأمر.”
“ما الذي لا يعجبكِ؟”
طُفَيليّة.
ابتلعت الكلمة المُنفّرة التي كانت على طرف لسانها، و تلعثمت :
“هذه ليست أموالي… إنها أموالك. و—”
ابتلعت كلمة طُفَيليّة، لكن الكلمة التي حلّت محلّها لم تكن أقلّ مرارة، بل كانت تُشبه طَعم التُراب الذي كانت تحشره في فمها عندما كانت تتضوّر جوعًا في طفولتها.
“و عندما تتزوّج… سأشعر بالذنب تجاه زوجتك.”
حتّى بعدما نطقت تلك الكلمات، لم تتلاشَ المرارة من حلقها، و كأنها بالفعل ابتلعت التراب.
“لهذا… أعتقد أن من الأفضل أن أبدأ بالاستعداد للاعتماد على نفسي…”
“هذا أمر سأتعامل معه بنفسي. لا داعي لأن تقلقي بشأنه.”
‘إذًا، هو لا ينفي أنه سيتزوج…’
لِمَ شعرت بخيبة الأمل عندَ سماع ذلك؟ لم تكن قد أدركت من قبل أنها كانت تأمل بألّا يفعل. و ما إن أدركت الأمر، حتّى احمرَّ وجهها خجلًا، و لم تستطِع النظر إليه.
“أنتِ تعلمين أن المال الذي أنفقه عليكِ لا يعني لي شيئًا، صحيح؟ بل إنكِ جعلتِ الأمر أصعب عليّ حتّى في مسألة دفع رسوم جامعتكِ الباهظة، بعدما حصلتِ على منحة دراسية كاملة. لِمَ تشعرين بالذنب إذًا؟”
كانت الرسوم الدراسية السنوية في جامعة كينغزبريدج توازي ثمن بيت بثلاث غرف. و معَ نهاية سنوات دراستها، سيكون قد أُنفق ما يعادل قيمة أربعة منازل.
و معَ ذلك، كانت تعلم أن ذلك لن يُشكّل شيئًا أمام ثروته اللامتناهية تقريبًا.
لذا، لم تكن تحاول أن تصبح مستقلة لتخفّف العبء المالي عنه. فلماذا لا يستطيع أن يفهم ذلك؟
“بما أنّني فقدتُ الفرصة لأتظاهر بإنفاق المال عليكِ، فلو أردتِ أن تشعري بالذنب، فـلتشعري بالذنب لذلك فقط.”
عندما سمعت كلماته المبالغ فيها، لم تستطِع جيزيل إلا أن تطلق ضحكة خافتة.
“هل تريدين الاستقلال بهذه السرعة لأنني أُثقِل عليكِ رغم أنكِ قد كبرتِ؟ هل ترغبين بالابتعاد عني؟”
“لا، لا، ليس الأمر كذلك.”
لم تكن تتوقع أن يشعر بالأذى بسبب قرارها بأن تصبح مستقلة. اتّضح أنَّ سوء الفهم كانَ من الطرفين.
“الاستقلال لا يعني أنني سأبتعد عنك.”
هي لم تكن ترغب في الابتعاد عنه أبدًا. و لأجل أن تبقى بقربه، كانت بحاجة لأن تجد دورًا مختلفًا تؤديه إلى جانبه.
“لا يمكنني أن أبقى جروًا مدللًا إلى الأبد، أليس كذلك؟”
“و لِمَ لا؟”
“ماذا … ؟”
“جيزيل، صراحةً، لا يهمّني إن لم تُصبحي مستقلة أبدًا. يمكنكِ أن تعيشي حياتكِ كما ترغبين، و سأدعمكِ، أيًّا كان ما تفعلينه. ما دمتِ لا تنخرطين مع رجال سيئين أو في أمور خطِرة.”
وقفت تحدّق فيه، تطرف بعينيها من الدهشة، إلى أن مدَّ يده يقرص أنفها بين إصبعيه و يهزّه بخفة، تمامًا كما اعتادَ أن يفعل في طفولتها.
كانَ في ابتسامته و نظراته نفس الحنان القديم، و لهذا بدت كلماته التالية أشدّ إيلامًا لقلبها :
“جروي الصغير المدلَّل… أرجوكِ، لا تكبري أبدًا. هذا ما أطلبه منكِ.”
في الماضي، كانت لتفرح أيّما فرح، و تعده بصوتٍ عالٍ أنها ستبقى كذلك. أما الآن، فـلم تستطع.
سيدي… هذا الجرو الصغير مدللٌ جدًا، لدرجة أنه يريد فقط أن يجلس في حضنك…
كانَ يبتسم ببراءة، غير مدركٍ لأفكارها غير البريئة. فـنظرت إلى تلك الابتسامة، و زفرت بهدوء.
لقد أقسمت ألّا تصبح امرأة في حضرته. و لو لم تكن ترغب أن تكون امرأة من أجله… لما اضطرت لاتخاذ مثل ذلك القرار.
إن حاولتُ أن أُصبح امرأة… فـسأخسره.
لكنها، في الوقت ذاته، لم تكن ترغب بأن تبقى مُجرّد “جرو صغير”. في عينيه، قد تكون كائنًا لطيفًا و عزيزًا، لكن في أعين الآخرين… لم تكن سوى علقةٍ تتشبث به.
كانَ حلم جيزيل أن تقف إلى جانبه بفخر، كـامرأة ناضجة يمكنها أن تكون عونًا له، لا أن تعيش على كرمه كـمُتطفلة.
لكن… هل هذا ما يريده السيّد لي؟
و هوَ لا يزال غافلًا عن مشاعرها، تقدمَ باقتراح جديد و سخيف آخر :
“هل لو امتلكتِ مالكِ الخاص، ستشعرين حينها بذنبٍ أقل؟ حينها، لن يكون مالي بل مالكِ أنتِ، و يمكنكِ استخدامه دونَ أن تُثقِلكِ الكلفة النفسية. رغم أنني أعتقد… أن الاضطرار لشرح كم تحتاجين و لماذا في كل مرّة سيكون مزعجًا.”
المكان الوحيد الذي يمكن أن تحصل فيه جيزيل على مالها الخاص… هوَ منه. و بعبارةٍ أخرى، لقد عرض عليها أن يمنحها جزءًا من ثروته.
“العبء الحقيقي هو ما تفكر به الآن.”
“لا، هذا ضروري لتعليمكِ. في سنّكِ، يجب أن تتعلمي كيفية تنمية الثروة و إدارتها. إذًا، من أين نبدأ؟ العقارات؟ الأسهم؟”
“ما رأيكِ أن نمرّ على البنك في طريقنا؟”
“أنا أعملُ الآن.”
استدارت جيزيل بسرعة و أمسكت بمقبض عربة الطفل.
“أونغ…”
“نعم، نعم، لا بأس، كل شيء على ما يُرام.”
بدأت تدفع العربة و هيَ تهدهد الطفل الذي استيقظ لتوّه و بدأ يئنّ بتذمّر. توقعت أن يتبع نظراته الحادة تعليقٌ أو توبيخ، لكن السكون كانَ سيد اللحظة.
و عندما التفتت خلفها بخفة، وجدت السيّد يرفع أكمام قميصه الرسمي و يتفقد ساعته.
هل لديه موعد هُنا؟
معَ مَن؟
لا… لا داعي لأن أعرف. و لا أريد أن أعرف.
رفعَ السيّد عينيه عن الساعة و التقت نظراته بنظرة جيزيل، التي كانت قد ابتعدت بالفعل عشرة خطوات عنه. أومأت له برفق، مفترضةً أنه سيغادر.
لكنّ نظرته ازدادت حدة، و في غضون خمس خطوات فقط، كانَ قد قلّصَ المسافة التي فصلتهما. بل و تجاوزَ ذلك، حينَ مدَّ يده و أمسك بمقبض العربة منها و كأنه يخصّه، و بدأ هوَ في دفعها بدلًا عنها.
“…هاه؟”
رمشت جيزيل بدهشة و هيَ تحدق في ظهره.
أليسَ مشغولًا؟ و لم يتحدث معي بهذا الشكل المطوّل منذ فترة طويلة…
كانت واقفة في مكانها، مشوشة الذهن، حتّى اجتازها روي هوَ الآخر، و سارَ خلف السيّد.
“ألن تذهب؟” سألته.
فأجابَ بلهجة خفيفة ساخرة:
“إذا كُنتِ تنوين إصدار أوامر بطردي، فـعلى الأقل يجب أن يكون على كتفكِ رُتبةُ عقيد.”
التعليقات لهذا الفصل "24"