كانَ إدوين بارعًا في مواساة جيزيل. و بما أنه لم يستخدم تلك الطريقة منذ أربع سنوات، فقد أصبحت أكثر فاعلية الآن.
لكن جيزيل أيضًا اكتسبت خبرة خلال تلك السنوات الأربع، و بعدَ جدالٍ دام لساعتين في اليوم التالي، كانَ إدوين هوَ من رفع الراية البيضاء في النهاية.
لقد هددته بأنها ستتوقف عن الأكل إن حاول مراقبتها.
“تلك المشاكسة الصغيرة… لا تفهم قلبي حتى.”
عضّ شفتيه، ثُمَّ باحَ بمكنون قلبه للبروفيسور.
“لقد رأيت الكثير من النساء يُؤذين على يد رجال حقراء… و لا أستطيع التخلّي عن مخاوفي بأن تُصاب جيزيل بالأذى هيَ الأخرى.”
رُبما لهذا السبب بدأ يرى مثل تلك الأحلام مؤخرًا.
“أصبحتُ أفكر كثيرًا مؤخرًا… أنني لستُ سعيدًا بنضوج جيزيل.”
كانَ يتمنى لو أنها تبقى دومًا تلك الفتاة السعيدة، التي تلطخ قدميها بالتراب من كثرة الجري في الحقول الخضراء، و تُغطّي أصابعها ببقع العشب.
و ليسَ امرأة حزينة، تُخفي وجهها المبلل بالدموع خلف مساحيق التجميل الثقيلة، و تبتسم في وجه الرجال.
لكن مؤخرًا، حينَ راقب الفتاة و هيَ تخطو خطواتها الأولى نحوَ العالم الخطر خارج ذلك السور، شعر بأنه لو كانَ الأمر بيده، لأبقاها داخل السور إلى الأبد.
“التعرض للأذى جزء من عملية النمو، أليسَ كذلك؟”
عندما أمر إدوين بالتحقيق في أمر الرجل الذي كانت جيزيل تراه.
لكن عندما تلقى النتائج، تأكّد له أنه لم يكن يبالغ. و لو أنه ترك الأمور كما هيَ، لكان ذلك كارثيًّا.
“ذلك الشاب لم يتجاوز العشرين، لكنه زبون دائم في نادي الأوركيد الذهبي.”
كانَ “نادي الأوركيد الذهبي” ناديًا فاخرًا يتخفّى خلف واجهة نادٍ اجتماعي، بينما هو في الواقع بيت دعارة راقٍ.
“يا إلهي… يا له من وغد فاسد. هل أخبرت الآنسة بيشوب؟”
“بالطبع. و معَ ذلك، فهي لا تستمع إليّ وتستمر في رؤيته.”
هل من الممكن أنها لم تكن تتحدث عن حبّها للرجال ذوي الخبرة من باب المزاح أو الجهل؟
فـحتّى الخبرة لها حدود.
و حين أنهى إدوين كوب الشاي في جرعة واحدة في محاولة لإخماد النار المشتعلة داخله، نظرَ إليه البروفيسور بعينٍ تملؤها الشفقة و تمتم قائلًا :
“كلّما عارضتَ أبناء هذا الجيل، كلّما ازدادوا تمرّدًا، أنصحك أن تتركها حاليًا. لا تعارضها.”
عَقَدَ إدوين حاجبيه بعمق، غير مرتاح لنصيحة تتعارض تمامًا معَ أفكاره.
“إذا عارضتها، ستبدأ بإخفاء الأمور. و حين يحدث شيء سيئ حقًا، لن تخبرك، و حتّى لو اكتشفت مشكلة، لا تحاول حلّها بدلًا عنها. لا يمكنك طرد كل رجُل سيئ تقابله طوال حياتها.”
“ما عليك فعله هو مساعدتها على تطوير الحكمة و القدرة للتعامل مع هذه المواقف بنفسها. من هذه الزاوية، هذه فرصة لكل من الآنسة بيشوب و لك أنت، دوق. استغلّها جيدًا.”
“هممم…”
فرك إدوين ذقنه و هوَ غارق في التفكير، فيما راقبه البروفيسور بعينين مليئتين بالتوقّع، ظنًّا منه أن إدوين يفكّر في نصيحته.
حسنًا…
لوى إدوين شفتيه بابتسامة مُرّة، ثُمَّ اعترف :
“بصراحة… لقد رسبتُ بالفعل في ذلك الاختبار.”
“ماذا تعني؟”
“هي لم تكن ترغب بالانفصال، لذا جعلتُهما ينفصلان. لكنها لا تعرف أنني من تسبب في ذلك.”
ذلك الشاب، بوسويل، لم يكن قد أنهى بعد التدريب العسكري الإلزامي لمدة ستة أسابيع، و هوَ تدريب يجب على كل شاب في ميرسيا أن يجتازه.
فـاتصل إدوين بصديق قديم له من أيام الأكاديمية العسكرية، و الذي يعمل الآن في مركز التدريب العسكري. و بعدَ عدّة أيام، جرى سحب بوسويل إلى المعسكر.
لن يخرج حتّى نهاية الصيف.
“لستُ فخورًا بما فعلته، لكنني لا أندم عليه.”
ضحك البروفيسور، الذي كانَ يستمع مصدومًا.
و بينما كانَ يملأ فنجان إدوين الفارغ، سأله :
“هل تأثرت الآنسة بيشوب بالأمر بشدة؟”
عندما تذكّر ردّة فعل جيزيل، سخرَ إدوين. لقد فصل بينهما معتقدًا أن من الأفضل أن تُصاب بأذى طفيف الآن بدلاً من أن تعاني على المدى البعيد… لكن، هل كانَ قلقًا حقًا بشأن ألمها؟…
“تتظاهر بأنها ما زالت تراه أمامي.”
رفعَ البروفيسور حاجبيه بدهشة. هذا الصباح، اضطر إدوين إلى شدّ عضلات وجهه كي لا يُظهر نفس التعبير أمام جيزيل.
“لقد خرجت اليوم قائلة إنها ذاهبة في موعد.”
“ماذا؟!”
“لذا اختبرتها.”
—
“ذلك الأحمق عديم الذوق لا يعرف حتّى أبسط آداب اصطحاب فتاة. في أيامي…”
“سيدي، لم يعد الزمن الذي تُنتقد فيه النساء لمُجرّد أنهن يتمشين وحدهن.”
حَوّلتْه جيزيل إلى رجلٍ تقليديّ، ثُمَّ اندفعت خارجة و كأنّها تهرب.
“لماذا تعتقد أنّها تُخفي أمر الانفصال؟”
“رُبّما تشعر بالإحراج لأنّ أوّل علاقة عاطفيّة لها انتهت بعد أيّامٍ فقط، هاها.”
“و لمَ عليها أن تشعر بالإحراج من ذلك أمامي…؟”
لم يكن يستطيع فهم قلب تلك الفتاة على الإطلاق.
***
كانت ظهيرة الصيف في كينغزبريدج مختلفة تمامًا عن فوليرتون.
و ليسَ فقط لأنّ الطلّاب الذكور كانوا يتمدّدون على المروج بين المباني المتنوّعة الطراز، يغطّون وجوههم بالكتب.
فالطلّاب الذين مرّوا بجانب جيزيل، و على عكس طلّاب فوليرتون الذين بدوا و كأنّهم صُبّوا في قالبٍ واحد، كانوا يُظهرون فرديّتهم بكُلّ فخر من خلال أزيائهم المتنوّعة.
إنّهم يبدون رائعين.
تساءلت عمّا كانَ أولئك الطلّاب الجالسون بين الأعمدة الضخمة، من رجالٍ و نساء، يناقشونه؟ كانوا يحملون كتبًا سميكة في أيديهم، يتجادلون بحماس كما لو أنّهم مشتعِلون بوهج الشمس ذاته.
يبدون جميعًا كـراشدين.
و على الرغم من أنّهم أكبر منها بأربع أو خمس سنوات على الأكثر، إلّا أنّهم بدوا أكثر انسجامًا معَ “السيد” منها.
سيدي…
حتّى الآن، لم تزر جيزيل جامعة كينغزبريدج إلّا لأجل الامتحانات أو المقابلات. لذا، كانَ هذا أوّل يوم تتجوّل فيه بهدوء في الحرم الجامعي الذي ستبدأ بالقدوم إليه كبيتها بدءًا من الخريف القادم.
كلّ شيءٍ كانَ يلفت نظرها، لكنّ أفكارها كانت تتشتّت مرارًا بأشياء لا علاقة لها.
—
“ذلك الأحمق عديم الذوق لا يعرف حتّى أبسط قواعد اصطحاب فتاة في موعد. في أيّامي…”
هل كانَ “السيد” يخرج في مواعيد أيضًا عندما كانَ في عمري؟
بالطبع، كانَ يجب أن يكون قد فعلَ ذلك!
لم تستطِع فهم سبب وجود شكوك سخيفة مثل هذه.
لم يكن الأمر كما لو أنها لم تره يخرج في مواعيد عندما كانت أصغر سنًا.
فور أن ورث اللقب كـدوق، بدأ يلتقي بالفتيات المناسبات ليصبحن الدوقة المستقبلية. لكن سرعان ما نشبت الحرب، و لم تثمر أي من هذه الخطوبات…
لكن الآن، انتهت الحرب. هل يعني هذا أنهُ سيتزوج قريبًا؟
عندَ التفكير في الأمر، بدأ يخرج كثيرًا في هذه الأيام. ربما يكون قد بدأ علاقة معَ شخص ما بالفعل.
من يمكن أن تكون …؟
أصبحت خطواتها أثقل و هيَ تمشي في الطريق المفتوح بين الحقول العشبية.
إذا كانت الدوقة المستقبلية لا تحبني، هل سيتخلص مني السيد؟
بالطبع. هذا هو الشيء الصحيح.
كانت تعرف في داخلها أنه الشيء الصحيح، لكن…
ثُمَّ، سينتهي بي الحال في الابتعاد عن السيد على أي حال.
انحنت كتفاها. كانت تتظاهر فقط بأن لديها شخص في حياتها لتجنب فقدانه، لكن كل ذلك كانَ جهدًا بلا معنى، جهدًا عديم الفائدة.
“أنا غبية جدًا. ماذا أفعل هُنا؟”
لا، إذا كانت الأمور قد تنتهي هكذا، فهذه ليست محاولة بلا فائدة على الإطلاق.
آه. أطلقت جيزيل تنهيدة طويلة و امسكت بمقبض العربة بقوة، بينما بدأت العجلات التي كانت عالقة في شيء ما تتحرك مجددًا.
العالم كله واضح، لكن يبدو أنني الوحيدة التي أمشي و عاصفة سحابية فوق رأسي.
و بينما كانت تفكر بذلك، سقطَ ظل كبير فوقها.
انتظري، هذه ليست سحابة.
السحب لا يمكن أن تكون صلبة، و لا يمكنها أن تمسك بأكتافها. و بالتأكيد لا يمكنها أن تكون رائحتها مثل النعناع. تفاجأت و توقفت في مسارها…
“قُلتِ أنكِ ستلتقين برجُل، فـكيفَ أنتِ هُنا وحدكِ؟ هل خذلكِ؟”
التعليقات لهذا الفصل "23"