“لا داعي للقلق بشأن ذلك. السيّد لورينز لا يُظهر مشاعره إلا حينَ يتحدّث عن المخيم. من المرجّح أن عدوانيته كانت استجابة مؤقتة للتوتر الناتج عن بيئة خطرة. و الآن، بما أنهُ في مكان أكثر راحة، فلا يوجد سبب يجعله يؤذي الآخرين.”
توقّفَ البروفيسور الذي كانَ قد عادَ إلى مقعده، بينما كانَ يميل إبريق الشاي ليملأ كوبه، و كأنه تذكّر شيئًا فجأة.
“بالمناسبة، هل السيّد لورينز لا يزال يتمتم بكلمات غاضبة حين تتبدّل شخصيته؟”
“نعم، لا يزال يفعل ذلك.”
ضيّقَ البروفيسور عينيه، و كأنّ شيئًا بدا يقلقه.
“لماذا هو غاضب إلى هذا الحد؟”
“حينَ كانَ في المخيم، أظنّ أنّه كانَ غاضبًا من وضعه… من معاناته و هوَ عالق هُناك. لكن الآن، هوَ لا يعاني و لا محبوس… لذا لا أعلم لماذا ما زال يشعر بالغضب.”
“هذا… مقلق بعض الشيء. عندما أجلس معه في الجلسات، لا يبدو بذلك الغضب. حسنًا… رُبّما معَ الوقت، حين نتعرّف إليه أكثر، سنسمع منه شخصيًا.”
تدفّق الشاي الدافئ ليملأ الكوب الفارغ.
“و الآن، حان دوري لأعرف كيف كُنتَ مؤخرًا. تبدو مُرهقًا اليوم. لقد مضى شهر، و كانَ من المفترض أن تختفي الآثار الجانبية لأقراص النوم بحلول الآن.”
“قد تكون هُناكَ آثار جانبية جديدة.”
“أي نوع من الآثار تقصد؟”
“هذه الأيام… أعاني من صعوبة في النوم بسبب كابوس يتكرر كل ليلة. هل يمكن أن يكون هذا أثرًا جانبيًا لتلك الأقراص؟”
“همم… و ما نوع هذا الكابوس؟”
تردّدَ إدوين. كانَ حلمًا لا يرغب في استحضاره، و تملّكهُ شعورٌ بالضيق لمُجرّد الحديث عنه.
في الحلم، كانت جيزيل، التي التقى بها لأول مرة في المزرعة، ممدّدة وسط بركة من الدماء المتجمّدة.
لم يكن هُناكَ جثث حولها هذه المرّة. فقط بركة من الدم تجمّعت تحت جسدها.
و لم يكن دمًا غريبًا… بل كانَ دم جيزيل.
“جيزيل! لا… ابقي معي!”
حين اندفع ليضمّها بين ذراعيه، رأى إدوين دمًا أحمر قانيًا يتدفّق بين ساقي الطفلة الشاحبتين.
من الذي تجرّأ على فعل هذا بك؟
انكسر قلبه، و اشتعل الغضب في صدره.
استفاق إدوين من نومه و هوَ يغلي غضبًا، حاملاً في داخله رغبة جامحة في قتل من ألحق الأذى بجيزيل.
“إنهُ حلم… يحدث فيه أمرٌ مروّع لفتاة اعتنيتُ بِها.”
لم يمنح البروفيسور سوى هذا القدر من التفسير.
“فكّرتُ كثيرًا في سبب تكرار هذا الحلم… أظن أنهُ بسبب أنَّ تلِكَ الفتاة بدأت تلتقي برجُل مؤخرًا.”
“آه…”
“أشعر بالقلق من أن يحدث لها شيء سيئ.”
“أحيانًا، تتحوّل المخاوف إلى أحلام. و الكوابيس غالبًا ما تكون ناتجة عن أقراص النوم. هذا أمر شائع جدًا، لذا لا داعي للقلق.”
“أفهم…”
رغم أنّ هواجسه تجاه الحلم قد خفّت قليلًا، إلّا أن القلق الذي تسبّب بتلك الكوابيس ما يزال يثقل قلبه.
“قلتَ إن اسمها جيزيل بيشوب، صحيح؟ النابغة التي تخرّجت مؤخرًا في صدارة دفعتها من فولرتون؟”
“نعم، صحيح. في الواقع، جئتُ لرؤيتك اليوم لأنني أخشى أن يؤذي جانبي الآخر تلك الفتاة.”
“هل سبق له أن هدّدها؟”
“هوَ لم يهدّدها… لكنه ظهر أمامها في حفلة التخرّج.”
تردّدَ إدوين، غير متيقّن مما إذا كانَ عليه إخبار الأستاذ بقصّة عثوره على أثر أحمر شفاهها على أطراف أصابعه لاحقًا.
“آه… فهمت. هل الآنسة بيشوب على علم بحالتك؟”
“كلا، هيَ لا تعلم.”
من الصعب على البالغين تقبّل قصة كهذه، فـكيف بفتاة مراهقة أن تفهمها.
“لحسن الحظ، لم يتقابل الطرفان منذ ذلك الحين. لكنني ما زلت قلقًا، لذلك حاولت إبعادها، إلا أن الأمر لم يكن سهلًا. أردتُ أن تسافر، لكنها قالت إنها تفضّل البقاء لأنها تواعد رجلًا.”
“هاها، لا بد أن الوضع كان صعبًا جدًا بالنسبة لك.”
كانَ قد حاول الخروج من المنزل بنفسه، لكن تلك الخطة فشلت أيضًا. جرّب استئجار منزل أو الإقامة في فندق، لكن…
“غضبتْ حين قلت لها : ‘أنتِ منغمسة جدًا بعلاقتك لدرجة أنكِ لا تمكثين في المنزل حتّى …‘ “
انفجرَ البروفيسور بالضحك و هوَ يصفع على ركبته، بينما رفعَ إدوين فنجان الشاي بنظرة منزعجة.
كانت أذناه محمرّتين، و كأنه شعر بالحرج.
رغم أن البروفيسور يُعَدّ المرجع الأهم في مجاله، إلا أنه اجتماعيًا كانَ لا يزال أدنى من الشاب الجالس أمامه.
رُبما كانَ السبب يعود إلى نسبه النبيل، أو رُبما إلى طبيعته، لكن إدوين كانَ دائمًا مهذبًا، دون أن يكون دافئًا بشكلٍ خاص.
إذا أخطأ أحدهم في تفسير تهذيبه على أنه ودٌّ، و تجاوز حدّه، فـغالبًا ما كانَ سيواجه رفضه البارد، رغم استمراره في التعامل بأدب.
إنهُ رجُل يمتلك حدودًا واضحة.
و معَ ذلك، لم يكن من النوع الذي يوضّح للناس أين تقع تلك الحدود.
فهو لا يثق بالناس بما يكفي ليمنحهم تلك المعلومات، لذلك، وحدهم من يمتلكون حدّة ملاحظة كافية لاكتشاف تلك الحدود بأنفسهم، هم من يبقون إلى جانبه.
بلوغ القمّة في مجاله لم يكن أمرًا سهلًا.
و البروفيسور، بعد تحليله لعدد لا يُحصى من الشخصيات، كانَ قد توصّل بالفعل إلى نوعية الرجُل الذي كانه إدوين.
فرغم أنهُ هوَ من طرقَ باب البروفيسور طلبًا للمساعدة، إلّا أنَّ إدوين.لم يثق به تمامًا.
ولهذا السبب، كانَ دائمًا من الصعب التعامل معه.
“مُنذُ أي عمر بدأت تعتني بها؟”
“مُنذُ أن كانت في العاشرة، كنتُ بعيدًا في الحرب، لذا لم نقضِ سوى أربع سنوات معًا.”
“أن تأخذ فتاة يتيمة، لا تمتّ لكَ بأي صلة، و تعتني بِها… فذلك فعل حقيقي من التضحية.”
“تضحية…”
كانت كلمة كثيرًا ما يسمعها، و معَ ذلك، كانَ إدوين يمقتها بشدة.
ما الذي ضحّى به من أجل تلك الفتاة؟
“لم أفكّر بالأمر بهذه الطريقة من قبل.
في الحقيقة، كانت دائمًا مصدر راحة كبيرة لي.”
“همم… و كيفَ تمنحك الراحة؟”
“حينَ أندمُ على كوني جنديًّا.”
أمال البروفيسور رأسه، و كأنّه لم يصدّق ما سمعه للتوّ.
و لعلّ ذلك كانَ أمرًا مفهومًا.
فـفي نظر العالم، كانَ إدوين يُعَدّ نموذجًا للجنديّ المخلص، الرجل الذي تخلّى طواعية عن راحة و أمان لقبه كـدوق، ليخدم وطنه.
“بعد أن خضتُ الحرب، لطالما ندمتُ على اختياري أن أكون جنديًّا.”
“لكن عندما أراها تبتسم بتلك البراءة، أفكّر أنّهُ رُبما… لم يكن ذلك القرار سيئًا تمامًا.”
على الأقل، أنقذتُك.
كانت جيزيل الدليل على أنَّ قراره لم يكن عبثًا.
رؤيته لها تكبر منحه شعورًا ملموسًا بهدف الجندية الحقيقي : القتال لأجل الحماية.
كما أنّها عززت إيمانه بقدرة البشر على التعافي.
في كل مرة كانت جيزيل تثبت له، بشكلٍ مُباشر، أنَّ استنتاجه المُتسرّع كانَ مُجرّد وهم، كانَ إدوين يشعر بسعادة لأنهُ كانَ مخطئًا.
ابتسم إدوين ابتسامة مُرّة.
فـهوَ لم ينسَ قطّ القلق الذي دفعه للحديث عن جيزيل، رغم أنّهُ جاء إلى هُنا لمناقشة مشكلة “لورينز”.
“كنت أعتقد أن القلق سينتهي حين تكبر… لكن يبدو أنَّ الأمر ليسَ كذلك.”
صَمَتَ إدوين مُسترجعًا الجدال الذي دارَ بينه و بين جيزيل حينَ بدأت بمقابلة الرجال لأول مرة.
—
“جيزيل، قلتُ لكِ ألا تذهبي لمقابلة ذلك الوغد الوقح دون حارس شخصي.”
“سيدي، أنا لستُ طفلة.”
“عيد ميلادكِ بعدَ شهر، لذا قانونيًا، أنتِ ما تزالين طفلة.”
“إذًا، هل يجب أن أبدأ بالبكاء و الصراخ مثل الأطفال؟”
“سيكون مشهدًا ممتعًا! روي، أحضِر الكاميرا حالًا!”
“…سيدي، أنا أكرهك.”
“و سيدكِ يُحُبّكِ.”
التعليقات لهذا الفصل "22"