“لكن الأمر ليسَ بهذهِ البساطة.”
“ما هوَ أذن؟”
ترددَ البروفيسور للحظة قبلَ أن يجيب، و كأنهُ متردد في نقل كلماته.
“السيد لورينز يقولُ إنهُ يُفضل الاستمتاع بالمدينة ليلًا، و ليسَ خلالَ النهار.”
رجُلٌ مثله، بلا شك، يرغب في لقاء النساء، رُبما في الحانات، النوادي الليلية، أو أماكن أسوأ.
“لأُعيدَ صياغةَ كلامهِ كما قالَ بالضبط، السيدُ لورينز زيرُ نساءٍ لا يُطيقُ العيشَ بدونِ نساء. إنهُ يسألُ لماذا لا يُوجدُ لدى جلالتِكَ أيُّ نساءٍ.”
إدوين ضحكَ بسُخرية، يهزُّ رأسه و كأنهِ سمِعَ شيئًا لا يُصدق.
“ماذا؟ زيرُ نساء؟”
لورينز فون أيزنهاردت كانَ فعلًا زيرُ نساء لا يستطيع العيش بدون النساء. فهل يعني ذلكَ أن هذا الطفيلي في عقله، الذي يتظاهر بأنهُ ذلكَ الرجُل، هوَ أيضًا زير نساء؟
فكرة سخيفة. لكن من أين تأتي هذهِ الرغبات؟ هل هيَ جزءٌ من ذكريات لورينز الحقيقية، أم أنها مُجرّد تمثيلية أُخرى لهذا الكيان الغامض؟
“من وجهة نظري، يمكن للمرأة أن تكونَ لجامًا جيدًا.”
لكن البروفيسور لم يكتفِ بالضحك على الأمر.
“يمكننا استخدام ذلكَ كـحافز و عقوبة في الوقت نفسه للتحكم في الشخصية. خلالَ النهار، تعيشُ حياتك كما تريد، يا صاحب السمو، و في الليل، يلتقي السيد لورينز بالنساء اللواتي يرغب بهن. يمكنكما التوصل إلى مثل هذا الاتفاق.”
ضيّقَ إدوين عينيه و هوَ يحدّق في البروفيسور، غير مصدّق لما يسمعه.
“اتفاق؟ تقترح أن أتناوبَ على جسدي معَ ذلكَ الطفيلي؟”
كانَ ذلكَ اقتراحًا عبثيًّا، بل و مهينًا. و كأنهُ ليسَ سوى دمية يتقاسمها شخصان.
و رغم ذلك، لم يكن بوسعه إنكار أن الفكرة تنطوي على شيء من المنطق. إذا تمكن من استغلال هذا الأمر للسيطرة على لورينز، فقد يكون ذلكَ خيارًا أفضل من تركه يتصرف بحرّيّة تامّة.
رغم أنه كانَ قد قرأَ الإجابة بالفعل على وجه إدوين، إلا أن البروفيسور طرحَ السؤال معَ ذلك.
“ما رأيك؟ أعتقد أنها ليست صفقة سيئة بالنسبة لكَ أيضًا.”
“لن أفعل…”
كانَ على وشك رفض الفكرة رفضًا قاطعًا، لكن شيئًا مفاجئًا جعلهُ يتردد.
إذا كانَ لديه امرأة أخرى، فقد لا يستهدفها.
حينَ فكّرَ في الأمر، تذكرَ أنَّ الرجُل كانَ مُحتجزًا في معسكر أسرى حرب، و لم يرَ امرأة طوالَ تلكَ الفترة. و حتّى بعدَ عودته، بقي معزولًا و لم يتبادل كلمة واحدة معَ أي امرأة، حتّى في الحفل.
لذا قد تكون جيزيل هيَ أول امرأة يلتقي بها.
كما قالَ إنهُ كانَ يتوق لتلكَ اللحظة.
رُبما ما كانَ يتوق إليه الرجُل لم يكن لحظة لقائه بـجيزيل، بل ببساطة لحظة لقائه معَ امرأة.
رُبما كانَ يخطط لعدم إيذاء جيزيل بشكلٍ خاص، بل لأنها كانت أقرب امرأة في متناول يده. إذا كانَ الأمر كذلك، فسيكون هذا جيدًا.
إذا دخلت امرأة أخرى في الصورة، فهذا يعني أن جيزيل ستكون في أمان.
“… ليست فكرة سيئة.”
لقد تعب من رفض محاولات عمته المستمرة للزواج، و كانَ مقعد الدوقة شاغرًا مُنذُ أكثر من عشر سنوات، مما كانَ يسبب العديد من الإزعاجات.
كانَ عليه أن يتزوج في نهاية المطاف.
تمامًا عندما ظن أنه قد وجد نقطة تحول، واجه إدوين عقبة أخرى.
“لكن من سيقبل بالزواج من رجُل ذي شخصيات متعددة؟”
هل حقًا ستكونُ هُناكَ امرأة ترغب في أن يكون لها زوجان؟
أي نوع من النساء يمكنها تحمل زوج يتحول أحيانًا إلى رجُل فاحش عاشق للنساء؟
و ماذا لو كانَ أحد الزوجين بطلًا شريرًا من دولة مُعادية؟
كانَ عليها أن تحبه بما يكفي لتحمل ذلك السر معها إلى القبر، لكن الحُب ليس بهذه البساطة.
كانت فكرة تقديم امرأة يحبها إلى شيطانٍ يعامل البشر كـدُمى أمرًا مُرعبًا.
و عندَ التأمل في الأمر عن كثب، لم يكُن ذلكَ بالقرار الصائب على الإطلاق.
“آه… هل كُنتَ تفكر في علاقة جدية، يا صاحب السمو؟ من وجهة نظري، أعتقد أن السيد لورينز سيكونُ راضيًا بالاكتفاء بعلاقات عابرة معَ نساء الليل.”
“…رُبما هذا صحيح.”
مُنذُ البداية، لمّحَ البروفيسور إلى أنَّ ذلك الرجُل لم يكُن يريد سوى شراء امرأة.
لكن إدوين، الذي تأبى طبيعته مثلَ هذهِ الأفعال الدنيئة، لم يفكر سوى في العلاقات التي تقوم على الحُب أو الزواج.
“هذا أمرٌ لا يمكنني قبوله أبدًا.”
كانَ ذلكَ يتعارض معَ مبادئه.
“باعتباركَ جُنديًا قضى وقتًا طويلًا في ساحة المعركة، ظننتُ أنكَ لن تكترث، لكن يبدو أنني كُنتُ مخطئًا.”
تفاجأ البروفيسور فليتشر من مدى اشمئزاز الدوق من الفكرة.
“لقد حافظتُ على عهدي بالعفة قبل الزواج مُنذُ أن كنت في الثالثة عشرة. سأبقى وفيًا لزوجتي المستقبلية.”
لم يكُن ذلكَ مناسبًا تمامًا لواحدٍ من آل إيكليستون.
كانت هُناك إشارة ساخرة إلى الفضائح الجنسية الشهيرة التي لاحقت عائلة إيكليستون العريقة لأجيال، مما أكسبهم سمعة سيئة على نطاقٍ واسع.
فالفضائح الجنسية كانت الوصمة الوحيدة التي لطّخت اسم إيكليستون المرموق، لكنها كانت أيضًا أضعف نقاطهم و أشدها فتكًا.
و بالنظر إلى الظهور المتكرر لوالده و شقيقه في مجلات النميمة بسبب مغامراتهما العاطفية، بدا موقف إدوين محيرًا… لكنه في الوقت ذاته كانَ مفهومًا.
على أي حال…
“سيكون التعايش أمرًا صعبًا.”
شخصيتان مختلفتان تمامًا تضطران إلى تقاسم جسد واحد.
“هذا موضوع حساس، لكن هُناكَ نظرية تقول إنَّ انقسام الشخصية قد يكون تجسيدًا لرغبات مكبوتة.”
ارتفعَ حاجب إدوين قليلًا.
“إذا قامَ شخصٌ ما بقمع رغباته الطبيعية بشدة، فقد تتجلى في هيئة شخصية جديدة. و ماذا سيكون محور تركيز تلكَ الشخصية الجديدة؟”
“لن تفكر إلا في النساء.”
“لهذا أعتقد أنَّ شخصية السيد لورينز قد تكون نشأت بسبب رغباتك المكبوتة. فإذا أطلقت العنان لتلكَ الرغبات، فقد تضعف شخصية لورينز.”
“أأنتَ تقترح أنَّ هذا الاضطراب ليسَ نتيجة الحرب، بل بسبب انضباطي الشديد؟”
ضيّقَ الدوق عينيه و هوَ يضغط بإصبعه على صدغِه، كما لو أنهُ سمعَ أمرًا عبثيًا.
“قد يكون الأمر كذلك. ليست فرضية بلا أساس تمامًا.”
لم يتراجع البروفيسور، رغم أنهُ كانَ يرى بوضوح استياء الدوق. لقد توقّعَ تمامًا أنَّ شخصًا يستخدم العفة كـآلية دفاعية سيجد صعوبة في تقبّل هذهِ النظرية.
“الإنسان أشبهُ بإناءٍ موضوعٍ فوقَ النار.”
رفعَ إبريق الشاي عن الطاولة الصغيرة أمامه.
“إذا أحكمت إغلاق الغطاء بإحكام، فإنَّ ضغط البخار سيدفعُ الماء المغلي إلى الفوران. لكن إن تركت الغطاء مفتوحًا قليلًا، فإنَّ البخار سيتسرّب، و يبقى الماء في الداخل.”
“بروفيسور، لم يسبق لي أن كبحتُ نفسي.”
كانَ البروفيسور فليتشر قد أخطأَ التقدير تمامًا.
“لقد نَفرتُ من الفكرة قبل أن تسنح لي الفرصة حتّى لأشعر بالرغبة.”
فـخيانة والده، التي بدأت مُنذُ شهر العسل، دفعت والدته إلى الإنهاك العصبي المزمن طيلة حياتها.
والده، الذي أغوى كل من مرَّ في طريقه، بدءًا من خالته التي تولّت رعاية إدوين و شقيقه بدلًا عن والدته، وصولًا إلى المربية التي كانَ إدوين يُكِنّ لها إعجابًا سريًا.
ثُمَّ كانَ هُناكَ شقيقه، الذي ارتكبَ أفعالًا أشد فظاعة، رغم كراهيته الشديدة لوالده.
كانَ من الطبيعي تمامًا أن يرسم إدوين حدودًا حولَ تلكَ المتعة قبلَ أن يعرف معناها حتّى، بعدما شهِدَ مُنذُ صغره كيفَ يُختزل الرجال إلى مُجرّد وحوش بدافع الشهوة.
“و بحسب منطقك، ألا ينبغي إذًا أن ينتهي حال كل كاهن، يكبح رغباته الجنسية مدى الحياة، مثلي تمامًا؟”
“و كم كاهنًا تظن في الواقع أنهُ يكبت رغباته الجنسية فعلًا؟”
ردَّ إدوين بابتسامة متكلفة، مقلّدًا أسلوب البروفيسور، و عادَ إلى صلب الحديث.
“على أي حال، لا يمكن أن يكون ’لورينز‘ مدفوعًا بالرغبة فقط، لكن يبدو أنكَ لا ترى فيه سوى ذلك، يا بروفيسور.”
ألم تكُن هذه المرة الأولى التي يُظهر فيها ذلك الرجل شهوته بشكلٍ علني؟
كانَ إدوين يشتبه في أنَّ لورينز قد انغمسَ مُنذُ وقتٍ طويل في ملذّات أكثر خطورة بكثير.
لم يكُن السجّان الذي انتحر في المصحّ العقلي الضحية الوحيدة لذلكَ الشيطان؛ فقد كانَ إدوين يشتبه في أن إطلاق النار الذي وقعَ بينَ السجّانين قبلَ ذلك كانَ أيضًا نتيجةً لتلاعبات لورينز الخفية.
ذلكَ الشيطان… يستمدُّ متعته من العبث بالنفوس البشرية.
أما إدوين، فلم تكُن لديه أيُّ رغباتٍ من هذا النوع، و لهذا لم تكُن تلكَ الشخصية انعكاسًا لرغبة جنسية مكبوتة، بل كانت نتاجًا مشوَّهًا لتجربة في التلاعب النفسي.
لو أنَّ إدوين استطاعَ فقط أن يشرحَ ذلك للبروفيسور، لما كانَ الرجُل في هذا الضياع.
“حسنًا… في الواقع، يا صاحب السمو، كثيرٌ من الاضطرابات النفسية أكثر مما قد تظن، تنبع في الأصل من الرغبة الجنسية. و على أي حال، حتّى لو كانت شخصية ’لورينز‘ ناتجة عن صدمة الحرب، لا أعتقد أنهُ مِنَ المستحيل القضاء عليه.”
نهضَ البروفيسور و هوَ يحمل إبريق الشاي الفارغ، مُغيرًا مجرى الحديث.
“لم يمضِ على بدء العلاج سوى شهر واحد، و معَ ذلك يبدو أنكَ تتحكم فيه بشكلٍ جيد.”
اضطرَ إدوين إلى الإيماء موافقًا على هذا القول.
“تكرار ظهوره بدأَ يتناقص، و المدة التي يستولي فيها على جسدي أصبحت أقصر. هذا الأسبوع، لم يظهر إلا خلال جلساتنا العلاجية.”
“و رغمَ أن لورينز قد تكون لديه بعض الشكاوى، إلا أنهُ بشكلٍ عام لا يبدو مستاءً كثيرًا من حياته الحالية. العودة إلى الجيش ما زالت صعبة، لكن إن استمر هذا التوازن، فلن تكون مسألة مقابلة الناس مشكلة.”
“هذا أمرٌ مُبهج.”
كانت الشائعات قد بدأت تنتشر عن إقامته في ريتشموند، و انهالت عليه طلبات اللقاء، و أصبحَ يجد صعوبة متزايدة في رفضها.
“هل تعتقد أنهُ قد يحاول التلاعب بالآخرين أو إيذاءهم بمكرٍ و دهاء؟”
التعليقات لهذا الفصل "21"