“آسف لإيقاظكِ في وقتٍ مُبكر. تذكرتُ فجأة أن لديَّ موعدًا اليوم.”
رغم أنني كُنتُ أعلمُ أنها كذبة، إلا أنني تظاهرتُ بالتصديق بكُلِّ سرور. مُجرّد كونهُ يحاول مراعاة مشاعري كانَ كافيًا بالنسبة لي.
الآن فهمتُ لماذا اشترى لي هدية دونَ سابق إنذار. لا بُدَّ أنهُ كانَ يشعر بالذنب.
أما كون الهدية مستحضرات تجميل، فلم يكُن لذلك أي معنى خاص.
“ماذا عن الرحلة؟”
“عُذرًا؟”
“هل وجدتِ صديقة تذهبين معها؟”
“قالَ جميعهن إن لديهن خطط مسبقة.”
“حقًا؟ يبدو أنني طرحتُ الأمر متأخرًا جدًا.”
لا، في الحقيقة، لم أسألهن حتّى.
“…لا يمكنكَ الذهاب، أليسَ كذلك؟ لا بأس حتّى لو كانَ لبضعة أيام فقط….”
“سيكونُ ذلكَ صعبًا.”
لا يزالُ يحاول إبعادي.
رغم شعوره بالذنب، يبدو أن قراره لم يتغير.
“ماذا عن الذهاب إلى تيمبلتون؟”
“سأضطرُ للذهاب وحدي إلى هُناك أيضًا، أليسَ كذلك؟”
لم يجب، بل ارتسمت على وجهه ملامح القلق.
لكن من الأفضل مواجهة إزعاج كبير مرّة واحدة بدلاً من الاستمرار في المعاناة.
جمعت جيزيل عزمها و سألت السؤال الصعب.
“سّيدي، هل أزعجك وجودي؟”
“بالطبع لا.”
كما توقعت جيزيل، خانتهُ تعابير وجهه و أظهرت مشاعره الحقيقية ردًا على السؤال المفاجئ.
“أنا فقط أشعرُ بالأسف تجاهكِ.”
لم يكُن الإزعاج، بل كانَ شعورًا بالذنب. و هذا ما فاجأها.
“أشعرُ بالسوء لأنني أُبقيتكِ محبوسة في هذا المنزل الصغير بينما أنا مشغول جدًا. ينبغي لكِ أن تكوني في الخارج، تصنعين ذكريات تدوم مدى الحياة خلال الأشهر الثلاثة القادمة.”
“إذا كانَ الأمر كذلك، فلا داعي للقلق. لديَّ بالفعل شيءٌ أرغبُ في فعله في ريتشموند.”
جيزيل، و كأنها تذكرت للتو، أخرجت بخفة رسالة كانت قد أخفتها في جيبها.
“هل تتذكر السيد بوسويل، الرجل الذي رقصتُ معه؟ لقد أرسل لي رسالة.”
“أوه…”
حدّقَ في الرسالة بشرود، متمتمًا لنفسه.
“ذلكَ الذي تمَّ استبعاده؟”
“عُذرًا؟”
“هل يعجبكِ؟”
ابتسمت جيزيل ببهجة و هزّت رأسها بإفراط، رغم أنها داخليًا أجابت بعكس ذلك.
لا. أنا فقط ممتنة له.
كان توقيت إرساله رسالة يطلب فيها موعدًا مثاليًا. كانت جيزيل سعيدة بالرقص معه بضع مرات أخرى بدافع الامتنان.
“ألم تقولي من قبل إنكِ لا تحبين الرقص؟ من الصعب فهم مشاعر النساء. إذن، هل ستقابلينه؟”
أومأت جيزيل مجددًا، بنفس المبالغة.
لم يكن ذلك كذبًا تمامًا. ستقابله. مرّة أو مرتين؟
بعدَ ذلك، كانت تخطط لرفضه، لكنها ستتظاهر بأنها لا تزال تلتقي به أمامَ إدوين.
انظر، يا سيدي. لديَّ رجُلٌ آخر. لم أعد مهتمة بك على الإطلاق.
… كانَ كُلَّ ذلك مُجرّد تمثيلية لتُريه ذلك.
بعدَ استلامها الرسالة، فكرت جيزيل بعمق و توصلت إلى إدراك مهم.
حتّى لو تصرفت بصبيانية كي لا يراها “السّيد” كـامرأة، كان هناك حد لذلك. مهما فعلت، إن رآها على هذا النحو، كما حدثَ سابقًا، فـستذهب كل جهودها سدى.
و معَ ذلك، فإن التظاهر بأنها لا ترى “السّيد” كـرجل، و أنها بالفعل امرأة تخص رجُلًا آخر ….
“رُبما كانَ ينبغي عليَّ أن أشتري لكِ مسدسًا بدلًا من ذلك؟”
فوجئت جيزيل بالتعليق المفاجئ، وفتحت عينيها على اتساعهما بينما أشارَ إلى الرسالة في يدها.
“هل يمكنني قراءتها؟ لا بأس إن لم تريدي ذلك.”
“يمكنكَ قراءتها.”
دونَ تردد، ناولت جيزيل الرسالة له. كانت الرسالة رسمية، دونَ أي كلمات غير لائقة أو مفرطة في الخصوصية.
لقد ظنّت أنها ستمر دون أي مشاكل، و لكن….
“واو، إنهُ يطلب من امرأة التقى بها للتو الخروج في موعد بهذهِ المهارة و الثقة. تمامًا مثلَ زير نساء اعتادَ على دعوة مختلف النساء للخروج.”
هذا بالضبط ما شعرت بِهِ جيزيل أيضًا.
رجُلٌ لا يأخذها على محمل الجد سيكون من السهل استغلاله لفترة ثُمَّ التخلص منه دونَ أي شعور بالذنب، أليسَ كذلك؟
خشيةَ أن يحاول إيقافها بالفعل عبر اتهامه بكونه زير نساء، سارعت جيزيل بالرد.
“أنا أُفضل الرجال ذوي الخبرة.”
اتسعت عيناه الضيقتان فجأة، و التفتَ نحوها بصدمة.
“ماذا فعل فوليرتون بسيدتي الصغيرة البريئة؟ ينبغي لي مقاضاة المدير.”
خوفًا من أن يعارض السيّد ذلكَ الرجل بجدية، سارعت جيزيل إلى أخذ زمام المبادرة.
“لقد قُلتَ إنني لا أحتاجُ إلى إذنك، أليسَ كذلك؟”
“…هذا صحيح.”
بدا و كأنهُ يجيب من بين أسنانه المشدودة.
“إذًا، سأبقى هُنا في الوقت الحالي.”
“…حسنًا.”
لكن لماذا ما زالَ يبدو مضطربًا؟
—
استيقظَ إدوين.
بدلًا من السقف المألوف، كانَ أول ما رآه وجهًا مألوفًا.
“…هل هذا أنتَ، سموّك؟”
لم يكُن قد غفا؛ بل استحوذت شخصية أُخرى على وعيه أثناءَ خضوعه للعلاج النفسي معَ البروفيسور فليتشر.
أومأَ إدوين برأسه و تفقدَ ساعته اليدوية بعادة مألوفة. لقد مرَّ 26 دقيقة مُنذُ أن نظر إليها آخر مرّة.
“وفقًا لساعة الإيقاف الخاصة بي، لقد مرت 22 دقيقة.”
قدّمَ البروفيسور، الذي اعتادَ على عادات إدوين القهرية، الإجابة الدقيقة.
“يبدو أنَّ لورينز لم يكُن لديه الكثير ليقوله اليوم.”
في جلستهما الأولى قبلَ شهر، كانَ البروفيسور فليتشر متحمسًا للغاية للقاء “السيد لورينز”، لكن ذلكَ لم يحدث حينها.
“اتصل بي فورًا إذا ظهرت الشخصية الأخرى مجددًا.”
أصرَ البروفيسور على أن مقابلة الشخصية الأخرى ستتيح تشخيصًا أدق و وضع خطة علاجية أكثر فاعلية. حتّى إنهُ كتبَ رقم هاتف منزله على ظهر بطاقته، مضيفًا:
[لا يهُم في أي وقت، حتّى لو كانَ في منتصف الليل. لا تتردد في الاتصال.]
رغم حماسة البروفيسور، كانَ اللقاء الأول معَ لورينز قصيرًا و سهلًا بشكلٍ غير متوقع.
بعدَ فترة طويلة من الخمود، ظهرَ لورينز تلقائيًا خلالَ الجلسة الأولى.
“لم يكُن السيد لورينز حذرًا مني على الإطلاق. بل بدا سعيدًا بوجود شخص مستعد للاستماع إليه.”
بشكلٍ لا يُصدق، تحدثَ الرجل بلا انقطاع لمدة ساعة، مغمورًا بالفرح لكونه وجدَ أخيرًا من ينصتُ إليه.
هل كانَ كل ما يحتاجهُ حقًا هوَ مُجرّد شخص يُحادثه؟
بعدَ أن كانَ يطارد إدوين بشكلٍ غير منتظم طوالَ العام الماضي، باتَ لورينز يظهر مؤخرًا فقط أثناء جلسات العلاج، و كأنه كانَ ينتظرها.
كانَ هُناكَ تصرفٌ غير متوقع آخر.
بما أنهُ شخص متفاخر بطبيعته، كنت أظنه سيقدم نفسه باسم “لورينز فون أيزنهادت”…
أثناءَ فترة سجنه، كانَ لورينز يستمتع بالتباهي بـ”اسمه” و “مكانته”، لكنه على ما يبدو لم يفصح عنهما بعد للبروفيسور.
بالنسبة لإدوين، الذي كانَ قد استسلم بالفعل لاحتمالية انكشاف هوية لورينز، كانَ هذا الأمر مصدر ارتياح، لكنه في الوقت ذاته أثارَ شكوكه.
لماذا لا يقولُ شيئًا؟
لكن طلبه من البروفيسور أن يستفسر عن ذلك لم يكن يبدو فكرة جيدة. رُبما يكون لورينز قد نسي ببساطة، و تذكيرهُ بذلك قد يجعل الأمور أسوأ.
ما إن استعاد إدوين السيطرة على جسده، حتّى طرحَ سؤاله المعتاد :
“ماذا قالَ اليوم؟”
“اشتكى من أنهُ نامَ لفترة طويلة. قالَ إنهُ يريد الاستيقاظ، لكن جسدهُ لا يستجيب.”
ابتسمَ الرجلان معًا بتعبير من الرضا.
“إذا تناولت حبة منوم، لن تحتاج إلى القلق بشأن استيقاظ شخصية أخرى و التجول أثناء نومك. معَ هذهِ الجرعة، مهما حاولت الشخصية السيطرة على الجسد، لن تستجيب.”
كما قالَ البروفيسور، كانت حبة المنوم تُثبت فعاليتها في قمع ذلكَ الشيطان.
“و يقول إنهُ يريد التوقف عن البقاء في المنزل و الذهاب لاستكشاف كل زاوية في ريتشموند.”
“قُل لهُ إنهُ يمكنهُ استكشاف ريتشموند في أي وقتٍ يريد من خلال التنقيب في ذكرياتي.”
عندَ رفض إدوين القاطع، ابتسمَ البروفيسور ابتسامة مريرة.
هل أنا صارم جدًا؟
كانَ الطفيلي الذي أرادَ إدوين أن يقتله بشدة لدرجة أنهُ كانَ مستعدًا للاستلقاء على طاولة العمليات الآن إذا كانَ يمكنه فقط تمزيقهُ من رأسه.
لكن إذا كانَ الطفيلي يستطيع التحكم بعقل و جسد المُضيف كما يشاء، فإنَّ الحل الوسط يصبح هوَ الخيار الوحيد.
“إذا لم يحاول السيطرة في منتصف ذلك، يمكنني أن أسمحَ لهُ بالتجول في المدينة لمدة ساعة يوميًا.”
حتّى بعدَ أن قدم إدوين هذا التنازل، لم تختفِ الابتسامة المريرة على وجه البروفيسور.
“لكن الأمر ليسَ بهذهِ البساطة.”
التعليقات لهذا الفصل "20"