“مقارنةً بجراحة الفص الجبهي، فإنَّ العلاج بالصدمة الكهربائية أكثر أمانًا و فعالية بكثير.”
“لن ينجحَ معي.”
“لا يمكنك أن تعرف ذلك حتّى تُجرّب…”
“لقد جربتهُ بالفعل أكثر من عشر مرات.”
بل كانَ من الأدق القول إنهُ فُرِضَ عليه قسرًا.
“في معسكر أسرى الحرب.”
كـوسيلة تعذيب.
“آه… أنا أفهمُ سبب ترددك، لكن التيار هُنا أضعف بكثير و يُطبّق لفترة وجيزة فقط على رأسك، لذا لا داعي للقلق. يمكنك حتّى الخضوع له تحتَ التخدير، فلن تشعر بأي ألم.”
“الأمر لا يتعلق بالألم. لا أرفضه لهذا السبب. ما أقولهُ هوَ أنهُ لن يُجدي نفعًا. حتّى بعدَ تلقي الصدمات الكهربائية، لم يختفِ الأمر.”
“ذلكَ لأن الخبير لم يوجّه التيار إلى الجزء الصحيح.”
ضيّقَ إدوين عينيه، مُحدّقًا بصمت في البروفيسور، ثُمَّ طرحَ عليه سؤالًا حادًا.
“هل نجحت جلسات العلاج بالصدمة الكهربائية من قبل مع مرضى اضطراب الهوية التفارقي؟”
“أممم… حسنًا…”
كما هوَ متوقع، بدا متفاجئًا و لم يتمكن من الرد على الفور.
“هذا العلاج لا يزالُ قيد التطوير، و كما تعلم، هُناكَ عدد قليل جدًا من مرضى اضطراب الهوية التفارقي، لذا لا توجد حالات كافية بعد…”
إذن، لهذا السبب ذكر استئصال الفص الجبهي أولًا، رغم أنهُ لم يكن يوصي به، حتّى يبدو علاجهُ المُقترح أقل رُعبًا.
أرادَ أن يجرب عليَّ هذا العلاج التجريبي.
إدوين سئِمَ من كونهُ فأر للتجارب.
“البروفيسور فليتشر، لا أرغبُ في أن أُعامل كـفأر تجارب.”
بتحذيرٍ مُهذب لكنهُ حازم، اضطرَ البروفيسور للتراجع.
“لم يكُن ذلكَ مقصدي، لكنني أتفهمُ موقفك. لنبدأ بأسلوب أكثر أمانًا، التنويم المغناطيسي و الأدوية.”
صافحَ إدوين البروفيسور أثناءَ تلقيه كلمات تشجيعية، لكنهُ لم يستطِع أن يبتسم بنفس الإشراق الذي أظهرهُ الآخر.
بما أنَّ هذا الرجل يكسب رزقه من التعامل معَ العقول البشرية، فمن الطبيعي أن يحاول التلاعب بعقل الشخص بطريقة خفية.
لكن بالنسبة لإدوين، لم يكُن هُناكَ خيارٌ آخر سوى هذا الطريق أو الانتحار.
—
لقد عاد.
من بين ستائر الدانتيل، ألقت جيزيل نظرةً خاطفة، لكنها سُرعانَ ما عادت إلى مقعدها عندما رأت سيارتهُ تتوقف أمام البوابة الرئيسية.
و بينما غاصت في كرسيها، وصلَ إلى الطابق الثاني صوتٌ عميق قادم من الطابق السفلي.
“أين الآنسة بيشوب؟”
“إنها في صالة الطابق الثاني.”
بعدَ إجابة الخادمة، تردّدَ صوت خطوات ثقيلة على السجاد. و عندما سمعت جيزيل صعوده إلى الطابق العلوي، التقطت بسرعة الرسالة التي تركتها على الطاولة الجانبية و فتحتها.
جيد. كل شيء جاهز.
الآن، كل ما عليه فعله هوَ المرور عبرَ الباب الذي تُرِكَ مفتوحًا عمدًا.
ثُمَّ سأتصنعُ الترحيب به و …
أمسكت جيزيل بالرسالة في يدها بحيث تكون مرئية بوضوح من خارج الباب. و بما أنهُ كانَ عليه المرور من هُناك للوصول إلى غرفة النوم، فـستتمكن على الأقل من تحيته…
“إنهُ مساءٌ جميل، الآنسة بيشوب. هل يمكنني أخذُ لحظة من وقتك؟”
“هاه؟”
حدثَ شيء غير متوقع. لقد دخلَ إلى الصالة حيثُ كانت جالسة.
“هاه؟ ماذا تعنين بـ’هاه’؟ لا ينبغي لامرأة ناضجة أن تتحدثَ بهذهِ الطريقة الطائشة.”
على عكس الصباح، بدا في مزاجٍ جيد، حتّى أنهُ ألقى بعض النكات.
لماذا؟ فجأة هكذا؟
لم تستطع جيزيل فهم هذا التغير المفاجئ في تصرفات السّيد. رمشت بعينيها في حيرة، مُتناسية تمامًا خطتها.
“ما هذا؟”
توقف عن التقدم و أمالَ رأسه إلى الجانب مُتسائلًا. عندها فقط استعادت جيزيل وعيها بسرعة، و طوت الرسالة، و أخفتها في جيبها.
“إنهُ لا شيء.”
عندَ ردّ جيزيل الماكر، بدا على وجه السّيد تعبير و كأنهُ قد تعرضَ للخيانة.
“روي، هل سمعت ذلك؟ هذهِ الفتاة بدأت تُخفي الأسرار عني.”
“لقد كُنتُ أُخفي الأسرار عنكَ مُنذُ وقتٍ طويل، يا سيدي، حتّى قبلَ أن أبلغ هذا العمر.”
“جيزيل بيشوب، لا بُدَّ أنكِ خدعتني جيدًا. سأحرصُ على أن أرد لكِ هذا الإذلال يومًا ما.”
“أين كُنت؟”
“ذلكَ سر حتّى تخبريني بما كُنتِ تُخفين.”
لم تكُن بحاجة للسؤال لتكتشف. كانت هُناكَ حقيبة ورقية تحمِلُ اسم متجر شهير موضوعة بأناقة على طاولة القهوة، تركها السيد روي.
“ما هذا؟”
“هدية للخائنة.”
“هدية؟”
“افتحيها.”
جلسَ على الأريكة و أشارَ إلى المقعد بجانبه.
هل يجِبُ أن أجلُسَ بجانبه؟
ترددت في القيام بشيء كانت تفعله دائمًا دونَ تفكير. لم يكُن بسبب مشاعرها.
ألم يكُن يحاول أن يبتعد عني؟
كان سلوكهُ المُحير هوَ ما جعلها تشعر بالارتباك.
لا يهم، هوَ قالَ لي أن أجلس.
جلست جيزيل بحذر بجانبه و فتحت علبة الهدية.
“مستحضرات تجميل؟”
اتسعت عيناها من الدهشة بسبب طبيعة الهدية غير المتوقعة.
لماذا مستحضرات تجميل، من بين كل الأشياء؟
ظهرَ عليه اللامُبالاة، لكن بعدَ أن عرفتهُ لمُدة أربع سنوات، أدركت جيزيل أنهُ أكثر اهتمامًا من أي شخصٍ آخر. شعرت باللمسة من جديد.
“شُكرًا….”
ثُمَّ، لأنها كانت قد ابتعدت عنهُ لمدة أربع سنوات، نسيت أنهُ يكره التعبيرات عن الامتنان.
“سأستخدمها جيدًا.”
بينما كانت تحتضنُ علبة مستحضرات التجميل و تبتسم بأبتسامة مُشرقة، كانت عينيه تتجعدان في رضا.
“لم أكن أعرف ما الذي تحتاجينه، لذا طلبت كُلَّ شيء نصحوا به. إذا كانَ هُناكَ شيءٌ ناقص، أخبريني و سأحصلُ عليه مِن أجلكِ.”
“بصراحة، أنا أيضًا لا أعرف ما الذي ينقصني.”
ضحكَ الاثنان معًا، و كـالأطفال الذين يحصلون على ألعاب جديدة، فتحوا كل شيء في العلبة و بدأوا بفحصه معًا.
“لماذا يوجد مُلمِع أحذية هُنا؟”
“هذا ليسَ مُلمِع أحذية؛ إنها ماسكارا.”
على الأقل، لم تكُن جيزيل جاهلة مثله.
“ماسكارا؟”
“تضعها هكذا على رموشك لتجعلها طويلة و كثيفة.”
“آه… لماذا وضعوها في علبة مُلمِع أحذية؟ هذا مُربك.”
“هل أنت مُربكٌ حقًا؟ أم أنكَ تتظاهرُ فقط بعدم معرفة ما هيَ الماسكارا؟”
عضَّ شفته السفلية و أعطى ابتسامة محرجة. مدَّ يدهُ نحوَ أحمر الشفاه المرتب بعناية على أحد جوانب العلبة.
“هذهِ ليست رصاصة.”
“أعرف ذلك، يا آنسة.”
رفعَ أحمر الشفاه، و لفَّ القاعدة لتمديد العصا، و تمتمَ تحتَ أنفاسه.
“لكنها فعلاً تشبه قلم التلوين.”
فجأة، قرب أحمر الشفاه الأحمر الزاهي من شفتي جيزيل. حدَّقَ فيهما لحظة، ثُمَّ ابتسمَ بلُطف.
“إنها جميلة.”
في تلكَ اللحظة، تحولت خدي جيزيل إلى نفس لون أحمر الشفاه. اهتزت ابتسامته. و ظهرَ بوضوح حركة بلع في حلقه.
كما لو أنهُ اقتربَ من شيء ساخن للغاية عن غير قصد، سحبَ أحمر الشفاه بسرعة بعيدًا. نظرته، التي كانت مثبتة على شفتيها، ابتعدت فجأة إلى الأفق.
شعرت جيزيل بقلبها يقفز.
لقد تذكرَ أيضًا الليلة الماضية.
بينما كانت تراقب تجنبه المذنب، أصبحت متأكدة من ذلك.
ما الذي يجِبُ عليَّ فعله؟
كانت قد قررت ألا تُرى كـأنثى أمامهُ مرّةً أُخرى، لكن لم تكُن هُناكَ طريقة لإيقافه عن تذكر ذلك بمفرده.
هل سيدفعني بعيدًا مرّة أخرى؟
بينما كانت تُهيئ نفسها للتراجع دونَ اعتراض، كما فعلت على مائدة الإفطار…
“لا!”
فجأة، أمسكت جيزيل بيده دونَ وعي.
“سيدي، ستفسد أحمر الشفاه!”
“آه، آسف.”
كانَ على وشك إغلاق الغطاء دونَ سحب أحمر الشفاه، و ها هوَ الآن حتّى وجهه قد أصبح أحمر.
بمُجرّد أن انتزعت جيزيل أحمر الشفاه منه، تركت يدهُ بسرعة. بدأ يعبث بالأزرار المعلقة بشكلٍ غير مرتب في نهاية كم قميصه، يفتحها و يغلقها مرّة أخرى، بينما يبتسم ابتسامة خفيفة.
“لأنتقم من هزيمتي اليوم، أعتقدُ أنني سأضطرُ لشراء مسدس لكِ في المرة القادمة.”
“إذن، سأعترف بالهزيمة مُسبقًا.”
عندما يتعلق الأمر بالأسلحة النارية، هوَ خبيرٌ مثالي، بينما جيزيل لا تعرف شيئًا عنها على الإطلاق.
“على أي حال، سأستخدمه جيدًا.”
بينما كانت تجمع مستحضرات التجميل المتناثرة على الطاولة في العلبة، قامَ بلفّ كم قميصه و فحصَ ساعته.
آه، لا، ليسَ بعد.
جيزيل، ظنًا منها أنهُ يشير إلى مغادرته، هرعت لفتح فمها، مصممة على تحقيق الهدف الذي نسيته لفترة قصيرة…
“حسنًا…”
“لم تُنهي فطوركِ، أليسَ كذلك؟”
بدلاً من المغادرة، طرحَ هوَ سؤالًا آخر غير متوقع. لا بُدَّ أنهُ سألَ الخادمة.
التعليقات لهذا الفصل "19"