“إنهُ يُغني… الأغاني العسكرية.”
لكنّهُ يُغيّر الكلمات بسُخرية.
“يتمتم بغضب. كلامهُ سريعٌ جدًا، و يقول الكثير من الأشياء دُفعةً واحدة لدرجة يصعبُ فهمها.”
“إذن، هل مِنَ المُستحيل أن يتذكر لورينز ما فعلهُ أثناءَ استيقاظه، أو أن تتمكنَ من قراءة أفكاره أو مشاعره؟”
“لا أستطيعُ فعلَ ذلكَ على الإطلاق. عندما يسيطر على جسدي، يبدو الأمر و كأنَ مفتاحًا قد انقلب و أتوقفُ عن العمل. كأنني أغرقُ في النوم.”
“لقد قُلتَ ‘أنا’، فهل هذا يعني أن لورينز يستطيع؟”
أومأَ إدوين بأسف.
“يبدو أنهُ قادرٌ على النبش في حتّى أقدم الذكريات. أحيانًا أشعرُ و كأنهُ يراقب كُلَّ شيء في رأسي، حتّى عندما أكونُ مُستيقظًا.”
في الليلة الماضية، أثناء الحفل، بينما كانَ يشاهد جيزيل، ألم يبدأ ذلكَ الوغد في غناء أغنية عسكرية مُدرجًا اسمها فيها؟
“إذن، لورينز يراقبني الآن.”
تأملَ البروفيسور فليتشر بعمق في عيني إدوين، كما لو كانَ يتحدى الطفيلي الكامن في بؤبؤ عينه، ذاكَ الذي يعتزِمُ قتله.
“السيد لورينز، سررتُ بلقائك. سنرى بعضنا كثيرًا من الآن فصاعدًا.”
وجهَ البروفيسور حديثهُ مُباشرةً إلى الشخصية الأخرى.
“ما رأيك في ميرسيا حتى الآن، السّيد لورينز؟”
“……”
“السّيد لورينز، تبدو خجولًا جدًا. ها ها.”
كانَ يظنُ أن استفزاز ذلكَ الكائن قد يجعلهُ يظهر، لكن لم يكُن هُناكَ أيُّ همسةٍ في المقابل.
“إذن، سيتعينُ عليَّ أن أسألَ الدوق. ما نوع الشخص الذي هوَ عليه لورينز؟”
مُجرّد التفكير في الأمر كانَ مُزعجًا لدرجة أن فك إدوين انقبضَ من تلقاء نفسه.
“إنهُ من النوع الذي لا أودُ أبدًا الارتباط به، خسيس، لا يُمكن الوثوق به، ماكر، و قاسٍ بشكلٍ بغيض…”
“همم… أودُ وصفًا موضوعيًا، من فضلك، و ليسَ واحدًا قائمًا على الغضب الشخصي تجاهَ شخصٍ سرقَ جسدك.”
“هذا وصفٌ موضوعي. و ذلكَ بأخف العبارات المُمكنة. إذا اختبرتَ وجودهُ بنفسك، ستتفقُ معي.”
“الآن بعدَ أن ذكرتَ ذلك، قُلتَ إن لورينز قامَ بشيءٍ خسيس.”
رغم أنهُ كانَ قد عقدَ العزم على قوله، لم يكُن فتحَ فمه بالأمر السهل.
“ما هوَ؟”
لم يعترف إدوين إلا بعدَ إلحاح البروفيسور.
“أجبرَ أحد حراس السجن على الانتحار في معسكر أسرى الحرب.”
“……”
“و قد فعلَ الرجُل ذلكَ بالفعل.”
لا يزالُ بإمكانه تذكر الصدمة بوضوح حينَ فتحَ عينيه لـيجدَ جثة تتأرجح أمامه.
بما أنَّ ذلكَ قد حدثَ في الحبس الانفرادي، كادَ إدوين أن يُتهم بمقتل الحارس. لقد قتلَ ذلكَ الشيطان الماكر رجُلاً و حاولَ توريطه.
لكن، لحسن الحظ، كانَ هُناك من رأى الحارس يدخل زنزانة إدوين ذلكَ اليوم و معهُ حبلٌ و كرسي، مما برّأهُ من الشبهة.
“يا إلهي… إجبارُ شخصٍ على الانتحار هوَ أمرّ خسيس بلا شك، لكن مِنَ الصعب تصديق أنَّ حارسًا سيُنفذُ ذلكَ لـِمُجرّد أن أسير حرب أمرهُ بذلك.”
كانَ ذلكَ مُجرّد شك من البروفيسور، لـكونه لم يواجه ذلكَ الشيطان بنفسه.
“هل يمكن أن يكون الحارس قد شعرَ برغبةٍ في الانتحار مُسبقًا ثُمَّ استسلم لها؟”
“ليسَ الأمر كذلك.”
كان الرجُل قد تزوجَ حديثًا، و كانَ يتفاخرُ كثيرًا بزوجته أمامَ الحراس الآخرين. كما كانَ مُتدينًا بشدة، لذا كانَ الانتحار أمرًا مُستبعدًا تمامًا.
“إذن، كيفَ جعلهُ لورينز يفعلُ ذلك؟”
“كل ما يملُكه هوَ كلماته. إنهُ يعبثُ بعقول الناس بها.”
التلاعب بعقول الناس بالكلمات.
فجأة، خطرت لإدوين فكرة. رُبما كانَ “لورينز” مُجرّد أثرٍ جانبيّ لتلكَ التجربة.
[مشروع سبيكتر]
تجربةٌ سريةٌ للغاية للتحكم في العقول أجرتها وكالة الاستخبارات العسكرية.
لقد استندَ إلى نظرية مفادُها أنَّ الأشخاص العاديين يمكنهم اكتساب قدرات عقلية خارقة من خلال التدريب، بهدف إنشاء جيشٍ مِنَ البشر الخارقين.
كانت الفكرة أن الجنود، بدلًا من القتال في الخطوط الأمامية الخطرة، يمكنهم الجلوس بأمان خلفَ المكاتب و قتل الأعداء عن بُعد، و تحقيق النصر.
كانت النية نبيلة، لكن الأسلوب كانَ سخيفًا، فـلم يكُن مُفاجئًا أنَّ المشروع قد فشل.
و نظرًا لكونهِ في غاية السرية، تمَّ اختيار المشاركين من داخل الجيش، و كانَ إدوين واحدًا من الذين خضعوا للتجربة لمُدة ثلاثة أشهر.
شَملَ تدريبه التخاطر و التأثير بالإيحاء.
كانَ تدريب التخاطر مُثيرًا للسخرية.
كانَ أشبه بشيءٍ من الرسوم المتحركة، حيثُ أخبرهُ عالِمٌ مجنون أن عليه مطابقة موجات دماغه معَ شخصٍ في الغرفة المُجاورة. أعلنوا أنهُ لا يمتلك أي موهبة في ذلك و طردوه. كانَ ذلكَ أولَ فشلٍ على الإطلاق.
أما الإيحاء، فـكانَ على الأقل أكثرَ واقعية.
كانَ يتضمن تقنيةً نفسية يتمُّ فيها إيصال النوايا بشكلٍ غير مُباشر، مما يوجه الهدف للتصرف وفقها دونَ التصريح بها صراحةً.
نظرًا لكونها تكتيكًا مُفيدًا للجواسيس تحتَ قيادته، أخذَ إدوين تدريب الإيحاء على محمل الجد.
و معَ ذلك، فإنَّ التجارب، التي بدأت بـاقتراحات بسيطة، تصاعدت في النهاية إلى إصدار تعليمات له بجعلِ أحد المحكوم عليهم بالإعدام ينتحر. عندها قررَ إدوين الانسحاب.
ذلكَ الشيطان أكملَ التجربة التي تخليتُ عنها بنفسه.
أخيرًا، فهِمَ من أينَ أتى تلكَ النظرة اللاإنسانية في عيني لورينز، ذلكَ الذي يُعامل الناس كأنهُم مُجرّد فئران تجارب.
“رأى الحراس الآخرون لورينز يتحدثُ معَ ذلكَ الحارس لعدة أيام. لا أحد يعلم ما الذي دارَ بينهُما من حديث.”
كانَ الحارس المتوفى الأكثر غرورًا و لا مُبالاة بينهُم جميعًا. كانَ أقلهُم تأثرًا بالآخرين، و معَ ذلك، فقد دفعتهُ بضع كلمات إلى إنهاء حياته. لا بُدَّ أن زملاءه أُصيبوا بالرُعب.
بعدَ ذلك، بدأ الحراس يتجنبون إدوين و كأنهُ وحش.
“إنها أولُ شخصيةٍ بديلةٍ تتشكلُ، و على الرغم من أن الوقت لم يطل مُنذُ ظهورها، إلا أنها طورت سماتً و قدرات مُميزة تختلف عن الشخصية الأصلية.”
كانَ إدوين يعرف السبب، لكنهُ تظاهرَ بالجهل و غيرَ الموضوع.
“كما أنَّ لديه أذواقًا مُميزة أيضًا.”
وفقًا لمُساعِدِه، روي، و رئيس خدم تيمبلتون، كانت هُناكَ أشياءٌ مُعينة يطلبها ذلكَ الشيطان باستمرار. كانت السيجار واحدة منها.
“بعدَ تدخين سيجار جبل كونستانتيان، يظلُّ صامتًا أحيانًا لفترة من الوقت.”
“سيجار، هاه! ها ها، يا لهُ مِن ذوقٍ فاخر.”
و خَطِرٌ أيضًا.
في المعسكر، وعدَ لورينز أحد الحراس بأسرارٍ عسكرية ميرسية سرية مٕقابل سيجار.
“هل أعجبك؟ أخبرني بالمزيد، و ستحصلُ على البقية.”
“…ماذا قلتُ إنني سأخبرك؟”
لحسن الحظ، اكتفى الشيطان بأخذ السيجار و تركَ الخيانة لإدوين. و بالطبع، كانَ إدوين هوَ من تحملَ وطأة الانتقام أيضًا.
إلى متى سيدوم هذا الحظ؟
عندها فقط أدركَ إدوين تمامًا خطورة الموقف. كانَ الأمر أشبهُ بزرع قنبلة موقوتة في الخزانة التي تحوي أكثر الأسرار الميرسية حساسية.
كانَ يعرِفُ هويات الجواسيس الميرسيين المزروعين في كونستانتيان، و أسماء المخبرين المولودين في كونستانتيان. في أي لحظة، قد يتمكن العدو من استخراج كُلِّ تلكَ المعلومات.
إذا بدأ الشيطان ببيع الأسماء واحدًا تلو الآخر مُقابل شيء تافه كـالسجائر، فـسيتم القضاء على أولئك العُملاء، و سينهار جهاز الاستخبارات الميرسي. و رُبما تسقطُ الجبهات الأمامية أيضًا.
عندها فقط، فكرَ إدوين، الذي تمسكَ بالحياة لأجل جيزيل، لأول مرّة في الانتحار.
كانَ السبيل الوحيد لـِقتل الشيطان الذي يسكن عقله هوَ قتل نفسه.
حتّى بعدَ عودتِهِ بسلام، ظلَّ الخوف يلازمه. لم يكُن بإمكانه العودة إلى الجيش و داخل عقله جاسوس مزروع، لذا تقدمَ بطلب إجازة طويلة على الفور.
و معَ ذلك، رغم كُلِّ ذلك، مدَّ يدهُ إلى جيزيل…
أومأَ إدوين برأسه، مُستفيقًا من شروده على كلمات البروفيسور.
“إذن، مُنذُ عودتك، تجنبتَ العرض العسكري و بقيتَ في عزلة.”
“لا يمكنني أن أُلوّح للجمهور بيد بينما أُدخّنُ سجائر العدو باليد الأخرى.”
أطلقَ مُزحةً مريرة، لكن الابتسامة التي التوت على زاويتي شفتيه سُرعانَ ما تجمدت.
“لا أريد أن أستمر في العيش هكذا.”
“أتفهمُ شعورك. لا تقلق كثيرًا، يا صاحب السمو. رغم أنَّ حالات الشفاء التام نادرة، إلا أنها ليست مُستحيلة.”
“سأضطرُ إلى الأمل أن أكونَ من القلائل المحظوظين إذن.”
“سأبذلُ قصارى جهدي لعلاجك.”
“و كيفَ تنوي علاجي بالضبط؟”
بدأ الأستاذ بالشرح أن الحالة صعبة العلاج، لذا، حتّى لو بدا الأمرُ مُتطرفًا بعضَ الشيء، فقد أوصى بتدخل مبكر و حازم للقضاء على الشخصية الأُخرى. ثُمَّ أضاف :
“هل سمعت عن عملية استئصال الفص الجبهي؟”
بطبيعة الحال، حدّقَ إدوين بـعينين حادتين، فـلاحظَ البروفيسور ذلكَ و ضحك، ملوحًا بيديه نافيًا.
“أنا فقط أخبرك بأنَّ مثلَ هذهِ الطريقة موجودة، لكنني لا أوصي بها. لو أصبحَ رئيس عائلة الدوق، و البطل الذي يعشقهُ الجميع، عاجزًا، فـسأضطر إلى إخلاء مكتبي في كينغزبريدج.”
“إذن، ما الطريقة التي توصي بها؟”
التعليقات لهذا الفصل "18"