“حسنًا، لنلُقِ نظرة.”
أخذَ البروفيسور رشفةً من قهوته الساخنة، و ابتلعها، قبلَ أن يبدأ أخيرًا في قراءة الاتفاقية.
“همم…”
أصدرَ صوتًا ينم عن خيبة الأمل عندما قرأ البند الذي ينص على عدم إمكانية استخدام البحث في أي أوراق علمية أو عروض تقديمية، لكن فضوله كانَ أقوى من تردده، فـوقعَ الاتفاقية دونَ طرح أي أسئلة.
جمعَ روي إحدى النسخ الموقعة من المذكرة. و الآن، حانَ وقت كشف السر.
“بروفيسور.”
أخذ إدوين رشفة من فنجان القهوة أمامه، مرطِّبًا حلقه الجاف، قبلَ أن يبوح بحقيقته.
“يبدو أنني قد أُصبتُ بـاضطراب تعدد الشخصيات.”
توقفَ البروفيسور في مُنتصف رفعَ فنجانه، مُتجمّدًا في مكانه. نظرَ إلى إدوين بعينين يملؤهُما الذهول، ثُمَّ، و كأنهُ لا يزالٕ مُتشككًا، سأل:
“إذن، المريض الذي قُلتَ إنكَ رأيته في معسكر أسرى الحرب…؟”
أجابهُ إدوين بصوتٍ هادئ : “نعم، إنهُ أنا.”
“حقًا؟”
في البداية، راودت البروفيسور شكوك. لقد صادفَ العديد من المدّعين الذين يزعمون إصابتهم بـاضطراب تعدد الشخصيات.
لكن… لا، هذا غير منطقي. لماذا قد يختلقُ الدوق، الذي يحظى باهتمام البلاد بأكملها، مرضًا كـهذا لِـمُجرّد جذب المزيد من الأنظار؟
سُرعانَ ما طردَ هذهِ الفكرة من ذهنه، ثُمَّ وضعَ فنجان القهوة على الطاولة بصوتٍ خافت، و التقطَ دفتر الملاحظات الموضوع عندَ زاوية الطاولة.
لكن قبلَ أن يتمكنَ من فتحه، قالَ لهُ إدوين بلهجةٍ حازمة :
“وفقًا للاتفاقية، لا يُسمحُ لك بتدوين أي ملاحظات أيضًا.”
تدخل روي لإيقافه.
“آه، صحيح.”
وضعَ البروفيسور القلم فورًا، و ارتسمت على وجههِ ابتسامةٌ مُحرجة.
“أعتذر. لقد اندمجتُ قليلًا في الأمر. من النادر أن يظهرَ هذا الاضطراب في مرحلة البلوغ.”
قالَ إدوين بنبرةٍ هادئة : “طالما أنكَ تلتزم بالاتفاقية، يمكنك طرح أي سؤال يثير فضولك.”
نظرَ البروفيسور فليتشر إلى إدوين كما لو كانَ أمامَ وليمة، يحاول أن يقرر من أين يبدأ. أخذَ نفسًا عميقًا، ثُمَّ طرحَ سؤاله الأول :
“هل أنتَ على وعي الآن، دوق إيكليستون؟”
(يسأله اذا كان هوَ الي يتكلم معه ام شخصيته الثانيه)
أجابَ إدوين : “نعم، أنا كذلك.”
كما هوَ مُتوقع، كانَ سؤال الخبير الأول شيئًا لم يكُن ليتوقعه أيُّ شخصٍ عادي.
“كم عدد الشخصيات الأُخرى التي ظهرت حتّى الآن؟”
“واحدة فقط.”
“هذا أمرٌ مُبشّرٌ للغاية.”
أجابَ إدوين : “لو كُنتَ تعرِفُ مدى خُبث تلكَ الشخصية و مكرها، لما كُنتَ لتعتبِرَ ذلكَ مُشجعًا.”
ثُمَّ تابع و كأنهُ تذكّرَ أمرًا مُهمًا : “آه… يجِبُ أن أُحذّركَ أيضًا، بروفيسور.”
لقد كادَ ينسى ذِكرَ هذا الأمر.
“إنه يُقلّدني ببراعة.”
أخذَ إدوين نفسًا عميقًا قبلَ أن يكمل بصوتٍ جاد : “عندما يحاولُ السيطرة على جسدي، سأُحذّركَ مُسبقًا، لذا كُن حذرًا.”
ابتلعَ البروفيسور ريقه، و بدت ملامح التوتر واضحة على وجهه، ثُمَّ سألهُ بنبرة أكثر جدية:
“هل لهذهِ الشخصية الخبيثة اسم؟”
“لورينز.”
لم يكُن هُناكَ حاجةٌ لقول المزيد. كانَ ذلكَ الاسم سيئ السمعة بما فيه الكفاية.
“لورينز… همم…”
بالطبع، حتّى بمُجرّد أن الاسم لم يكُن من ميرسيا، بدا أن البروفيسور قد استوعبَ سمة جوهرية لهذهِ الشخصية.
“إذن، هل يمكنك إخباري متى و كيفَ ظهرَ لورينز لأول مرة؟”
“بعد حوالي شهرٍ من أَسْري في مُعسكر أسرى الحرب، بدأت أمورٌ غريبة تحدث.”
بدأ الزمن يتلاشى. عندما كُنتُ أستعيدُ وعيي، كُنتُ أجدُ أن ساعة أو حتّى يومًا كاملًا قد مرّ.
لكنني لم أكُن أملُكُ أي ذكرياتٍ عن فقداني للوعي. ظننتُ أنني ببساطة كُنتُ أغفو دونَ أن أدرك ذلك، بالنظر إلى قسوة الظروف…
“أخبرني مرؤوسي، الذين كانوا يشاركونني نفس الزنزانة، أنني كُنتُ مُستيقظًا طوالَ الوقت. في البداية، ظننتُ أن الأمر مُجرّد سير أثناء النوم، لكنهُ لم يكُن كذلك.”
“و كيفَ تأكدتَ من أنهُ ليسَ سيرًا أثناء النوم؟”
“قالوا إنني كُنتُ أفعلُ أشياءً لا أقومُ بها عادةً.”
“ما نوع هذهِ الأشياء؟”
“قالوا إنني كُنتُ أتحدثُ إلى الحراس بـلُغة كونستانتيان، مُدّعيًا أنني من كونستانتيا.”
[ أنا لورينز فون أيزنهايدت، رائدٌ في الجناح الثالث للمقاتلين في سلاح الجو الكونستانتي.]
في الحقيقة، لم يكُن بإمكانه الكشف عن هذا الجزء للبروفيسور.
“قالوا إنني كُنتُ أحتجُ أمامَ الحراس، مُهددًا إياهم بل و مخيفًا لهم، مُدّعيًا أنهُم سجنوا مواطنًا من بلدهم بالخطأ.”
و بشكلٍ أكثرَ دقة، كانَ قد قال : [ كيفَ تجرؤون على سجن غريفون الحديدي؟]
الغريفون الحديدي…
طيّارٌ مقاتلٌ بالفطرة، حقّقَ خلالَ شهرٍ واحدٍ فقط إسقاطَ مئة طائرة ميرسية، و كانَ فخر سلاح الجو الكونستانتي.
في كونستانتيا، أطلقوا عليه لقب الغريفون الحديدي، و هوَ اسمٌ مستوحى من شعار عائلة أيزنهايدت، لكن الجيش الميرسي كان يُسميه الغراب الشاحب.
كانَ يقود طائرة مموهة بلونٍ رمادي مُزرقٍ باهت، يُحلِقُ فوقَ الموت الذي جلبهُ تمامًا كما يحومُ الغراب فوق القبور، ثُمَّ يختفي.
لم تكُن هذهِ مُجرّد قصة مُختلقة من قِبل شخصية “لورينز”؛ فـلورينز فون أيزنهايدت كانَ شخصًا حقيقيًا.
[ أنا لورينز فون أيزنهايدت، رائدٌ في الجناح المُقاتل الثالث. رمزُ النداء : الغريفون الحديدي. بارون عائلة أيزنهايدت.]
[ أنا مُحاصرٌ في جسد العدو.]
[ أخرجوني من هنا.]
كانت الكلمات المكتوبة بالدم على جدران الزنزانة الانفرادية بخط أيزنهايدت. حتّى العبارات و التعبيرات كانت مُتطابقة تمامًا معَ تلكَ التي يستخدمها أيزنهايدت نفسه.
[ والدي هوَ إرنست فون أيزنهايدت. توفي مُنذُ أربع سنوات في حادثة أثناءَ ركوبه الخيل.]
[ أمي هيَ ماريا لويس من عائلة الرومر. كانت لا تزالُ على قيد الحياة عندما تمَّ سجني هُنا. كانت تُعاني من مرض النقرس، لكنها كانت على قيد الحياة.]
[ إذن، يجِبُ أن تكون لا تزال على قيد الحياة، أليس كذلك؟]
[ أحضروها هُنا، هيَ ستتعرفُ عليّ.]
لقد كانَ يعرِفُ حتّى التفاصيل المُحددة عن الرائد أيزنهايدت.
“لذا، في ذلكَ الوقت، اعتقدتُ أن روح عدوي قد امتلكتني.”
لكن بعد أن خضت حوارًا قاتمًا مع الجدار، باستخدام الدم كـورق، أدركتُ أخيرًا شيئًا ما.
“لورينز فون آيزنهايدت” في عقلي كانَ يعرف فقط ما أعرفه.
على الرغم من أنهُ كانَ سريًا، إلا أن القليلين فقط كانوا يعرفون أن إدوين قد خدمَ كـقائدٍ في وحدة الاستخبارات العسكرية، التي كانت تتخصصُ في العمليات السرية. كانت مهمة وحدته تتضمنُ القضاء على الشخصيات المُعادية الرئيسية.
بعبارةٍ أُخرى، الاغتيال.
كانَ من الطبيعي أن يكونَ لورينز فون آيزنهايدت، الذي أرعبَ سلاح الجو الميرسياني، أحدَ أهداف إدوين.
بسبب ذلك، كانَ إدوين يعرف الكثير عن الكولونيل آيزنهايدت، خلفيته، علاقاته، و حتّى عاداته الصغيرة.
من المُحتمل أنهُ استوعب كل هذهِ المعلومات أثناءَ فحص الرسائل التي حصلَ عليها عملاء استخباراته، مما جعلهُ يحفظ خط يد آيزنهايدت و التعبيرات التي كانَ يستخدمها بشكلٍ مُتكرر.
من خلال استيعاب كُلِّ شيء عنهُ بالكامل، و صبَ كُلَّ جهده في التنبؤ بتحركاته التالية، تمكنَ إدوين في النهاية من اغتيال الكولونيل آيزنهايدت.
لقد ظنَّ أنهُ كانَ تعرضًا لـسيطرة روحية لأن الرجُل كانَ قد ماتَ بالفعل.
لكن الكائن لم يكُن “لورينز فون آيزنهايدت” الحقيقي. كانَ مُجرّد مُحتال يدّعي أنهُ هوَ.
“هل تعرضتَ، من قبيل الصدفة، للتعذيب؟”
“نعم، كانَ في الغالب تعذيبًا نفسيًا. كانوا يبقونني مُستيقظًا لأيام أو يجبرونني على مشاهدة تعذيب رفاقي. كنت غالبًا مُحتجزًا في الحبس الانفرادي.”
تغيرت تعبيرات وجه البروفيسور، و أصبحَ أكثر تعاطفًا.
“عادةً ما يتطور هذا الاضطراب كـآلية دفاعية ضد المعاناة الشديدة. من المنطقي أن الشخصية التي تطورت لديك هيَ شخصيةٌ من الكونستانتيين. كما أنني أفهمُ تمامًا سبب طلبك للسرية.”
و لذات السبب، أخفى أيضًا حقيقة أن الشخصية لم تكُن لـشخصٍ مدني، بل كانت لقائد عسكري من دولةٍ مُعاديةٍ.
“ما الذي جعلكَ تُدرك أنهُ لم يكُن تأثيرًا من نوع التلبس، بل اضطرابًا في تعدد الشخصيات؟”
ابتسم إدوين ابتسامةً مريرة. فقد تذكرَ الجهود العقيمة التي بذلها أثناءَ عزله في ممتلكات تيمبلتون في محاولة لطرد “روح لورينز” من نفسه.
“حتّى أنني استدعيتُ كاهنًا لإجراء طقوس طرد الأرواح، لكن لم يتحسن الوضع.”
“هذا ما يقولهُ كل مريض.”
“لكن، مؤخرًا، قرأَ كبير الخدم في القصر أحدَ كتبك ولاحظَ حالةً مُشابِهةً لحالتي، مما دفعنا للاشتباه في أنني أعاني من اضطراب تعدد الشخصيات.”
“لقد كانت مُلاحظةً دقيقة من الخادم. أنتَ تصبح شخصًا مختلفًا تمامًا، و لا تملك أي ذكرى عن ذلك… هل هُناكَ أيُّ أعراضٍ أُخرى بجانب ذلك؟”
“لم يكُن هُناكَ أيُّ أعراضٍ في البداية، و لكن مُنذُ بداية هذا العام، بدأت تظهرُ أعراض أُخرى عندما تتغير الشخصية.”
“ما هيَ تلكَ الأعراض؟”
“هلوسات سمعية.”
تبدأ كـهمسات، ثُمَّ تُصبح أكثر وضوحًا حتّى تُصبح في النهاية صاخبة لدرجة أنهُ لا يستطيعُ سماعَ صوته الخاص.
تجعلُ الهلاوس السمعية الغريبة و الفوضوية رأسهُ يشعر و كأنّهُ سينفجر، ثُمَّ في لحظةٍ ما، ينقطِعُ وعيه فجأة.
“لقد تطوّرت لديكَ أعراض التحويل. هل يمكنك تغيير الشخصيات حسبَ إرادتك؟”
“لو كانَ ذلكَ مُمكنًا، لما جئتُ لرؤيتك.”
“لكن لورينز يمكنه السيطرة عليكَ متى شاء؟”
أومأ إدوين برأسه. لم يكُن هُناكَ كلمةٌ أدق من “السيطرة”.
“هل يُمكنكما التواصل معَ بعضكما البعض؟”
“فقط عبرَ الكتابة.”
“لا يُمكنكما التحدث داخل عقلكما؟”
“صحيح.”
هو لا يردّ على كلمات إدوين. و لا يبدأ هوَ أيضًا أيُّ مُحادثة معه.
عندما تتغير الشخصية، يكون صوت لورينز هوَ الذي يتحدث، لكنهُ ليسَ أكثر من همسات أحادية الاتجاه بدلًا من حديثٍ حقيقي معَ إدوين.
“ماذا يهمس عندما يفعلُ ذلك؟”
التعليقات لهذا الفصل "17"