يومًا ما، رُبما ستنمو مشاعرك تجاه شخصٍ آخر.
حينها، قد تقعُ في الحُب، و تتزوج، و تنجب أطفالًا. ألا يمكن أن تحلم مجددًا بذلك الحلم الذي هجرته منذ زمن؟ ذلك النوع من الأمل.
لولا اندلاع حربٍ أُخرى، لكنت قد وصلت إلى هُناك بالفعل…
و الآن، بعدَ أن انتهت الحرب، يبدو أنك قادر على الحُب، و الزواج… و لكن…
“روي، هُناكَ شيءٌ يجِبُ أن تعرفهُ عني.”
كانَ الدوق لا يزالُ يخوضُ تلكَ الحرب اللعينة وحده.
التفكير في أنني مُضطّر للابتعاد عن الشخص الوحيد الذي تمكنتُ من الاقتراب منه…
بينما كانَ روي يفكر في كيفية التخلص من الطعم المُر في فمه، خطرت لهُ فكرة جيدة.
“سيدي، هل ترغبُ في التوقف عندَ المتجر الكبير في طريق العودة؟”
“إنها فكرة جيدة.”
لم تأتِ التساؤلات مثلَ “لماذا؟”. فـالدوق لم يكُن يذهبُ إلى المتجر الكبير إلا لشراء الهدايا للآنسة بيشوب، لذا لم تكُن هُناكَ حاجةٌ لتفسير سبب التوقف.
“آه، و الآن بعد أن فكرت في الأمر، حانَ الوقت أيضًا للاستعداد لهدية عيد الميلاد.”
لم يدم ارتياح روي طويلًا عندما رأى تعابير الدوق تشرق بوضوح في مرآة الرؤية الخلفية، إذ سُرعانَ ما ضاقت عيناهُ مجددًا، و كأنه غارقٌ في التفكير.
“ما الأمر، سيدي؟”
“ماذا يجِبُ أن أهدي لفتاةٍ على وشك دخول الجامعة؟”
إذن، هذا ما كانَ يُشغل باله. ابتسم روي بمرح، و انزلقت نظارته قليلًا إلى الأعلى.
“لا داعي للقلق. أنا مُلمٌ تمامًا بهذا الأمر، كما تعلم. أفضلُ هدية لفتاة شابة على وشك أن تتألق، هو نموذج فينتار 38، خفيفٌ للغاية و سريعٌ جدًا.”
“…مسدس؟”
“إذا اقتربَ منها أيُّ شابٍ مُزعج، بوم!”
قامَ روي بتقليد حركة إطلاق النار من النافذة، ثُمَّ نفخ على سبابته كما لو كانت فوهة مسدس ينبعثُ منها الدخان. للحظة، نسي إدوين همومه و ضحك.
“إهداء شيء كهذا لا ينبغي أن يكونَ خطيرًا. أما الإجازة… فهذهِ هيَ الخطورة الحقيقية.”
لكن القلق لم يختفِ سوى للحظة وجيزة.
“لا يمكنني أن أقدم لها ما تُريدهُ حقًا.”
معبد أثوس القديم، ليالي الصحراء، و صيف كوستا سميرالدا. لا بُدَّ أن جيزيل ذكرت كُلَّ ذلك لأنها كانت تأملُ أن تكونَ هُناكَ معه.
عندما غيرت رأيها فجأة و قالت إنها تريد الذهاب إلى تيمبلتون، لا بُدَّ أن ذلك كانَ أيضًا لأنها أرادت أن تكون معه.
كانَ يرغب في الأمر ذاته، لكنهُ كانَ مضطرًا للرفض.
“عليَّ أن أكونَ السّيد السيئ، إن لم أُصبح قاسيًا…”
تمتمَ إدوين بقراره لـنفسه.
“أنتَ لستَ سيئًا. كُلَّ هذا قرارٌ اتخذته من أجل الآنسة بيشوب، أليسَ كذلك؟ لذا لا تلُم نفسك.”
“أنا أستحقُ اللوم. لم يكُن عليَّ الذهاب إلى حفل التخرج مُنذُ البداية. لقد كانَ ذلكَ تصرفًا أحمق.”
لقد قدّمَ ملاكهُ كـقُربانٍ لذلك الشيطان بيديه هوَ.
“لو لم تذهب، لكُنتَ نادمًا الآن. و فكّر في مدى الحزن الذي كانت ستشعرُ به الآنسة بيشوب. كيفَ ركضت نحوك و عانقتك بابتسامة مُشرقة. لقد كانَ مشهدًا دافئًا للقلب، و…”
خفضَ روي صوته كما لو كانَ هُناكَ من قد يتنصتُ على حديثهما، رغم أنهُما كانا الشخصين الوحيدين في السيارة.
“…رغم أنهُ ظهرَ لفترةٍ وجيزة، لم يحدث شيءٌ مُهم، أليس كذلك؟”
لكن هل حقًا لم يحدث شيء؟
كانَ هُناكَ أمرٌ واحد لا يعرفهُ روي.
حدّقَ إدوين في طرف إبهامه الأيمن. كانَ نظيفًا الآن، لكن الليلة الماضية كانَ مُغطى باللون الأحمر.
نفس لون شفتي جيزيل…
لقد كانَ هوَ من فعلَ ذلك، من محا أحمر الشفاه عن شفتها السفلى. لا، بل كانَ فعل الشيطان.
رُبما كانَ من المُريح أنهُ لم يُلطخ شفتيه بشيء آخر.
هذا يعني أن الأمر لم يصل إلى حد القبلة، لكن معَ ذلك، أليسَ من غير اللائق تمامًا أن يلمس شفتيها كثيرًا لدرجة أن زينتها قد مُسِحت؟
“لم تفعل أيَّ شيءٍ غير مُحترم.”
لكن لماذا كذبت جيزيل؟
لم يكُن ذلكَ لأنها لم تُدرك أنهُ تجاوز للحدود. على العكس، لا بُدَّ أنها كانت تعرف أنهُ تصرف غير لائق، و لهذا السبب لم تذكره.
أنا، في النهاية، عائلتها الوحيدة. رُبما كانت خائفة من خسارتي إذا قالت الحقيقة، فـقررت إخفاءها بدافع الخوف.
سوفَ ينتهي بها الأمر بإخفاء أمور أسوأ عني في المستقبل.
إنها من ذلكَ النوع من الأطفال الذين يقبلون أي شيء طالما أنهُ صادرٌ منه. طالما أنهُ يرتدي “وجه السّيد”، ستتحملُ أي فعلٍ دنيء قد يرتكبه، و تُقنع نفسها بأنهُ لم يكُن غير لائق.
هذهِ ليست مسألة بسيطة؛ إنها مشكلة كبيرة.
لم يعد الأمر يقتصر عليه فقط. الآن، لم أعد أستطيع الوثوق بها أيضًا.
الليلة الماضية، اتخذَ قرارًا.
—
“لم يعد بإمكاني أن أكون وحدي معَ جيزيل.”
لا، يجِبُ أن أبقيها بعيدة عني.
—
“لقد قالَ حتّى إنهُ كانَ يتطلع إلى تلكَ اللحظة.”
“إلى اليوم الذي سيرى فيه وجهها…”
بصفته دوق إيكليستون و ضابطًا برتبة رائد في الجيش، لم يكُن هُناكَ حدودٌ للأشخاص الذين يمكن لإدوين مقابلتهم. لو أرادَ ذلكَ الرجل، لتمكن بسهولة من الاقتراب من القائد الأعلى للقوات الوطنية.
و معَ ذلك، مثلَ قذيفة غير منفجرة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، لم يستهدف أعلى السلطات، بل استهدفَ فتاةً شابة لا تملُك شيئًا.
لقد أدركَ الأمر. الطريقة الأكثر إيلامًا لإدوين كانت من خلال جيزيل.
لماذا يحدث هذا لي؟ أيُّ سببٍ لديكَ لتعذيبي؟
لكن أي إجابة لن تأتي، و على أي حال، لم يكُن الدافع مُهمًا.
ما كانَ يُخطط لفعلهِ بـجيزيل لم يكُن مُهمًا أيضًا. لم يرغب إدوين حتّى في معرفة ما إذا كانت شكوكه المشؤومة صحيحة أم لا.
كلُّ ما كانَ يهم هوَ التأكد من أن الشيطان لن يمُدَّ يدهُ نحوَ ملاكه مرّةً أُخرى.
—
ملاكُك؟
إلى متى تظنُ أنكَ ستتمكن من إبقائها ملاكًا؟
و أنت؟
إلى متى يُمكِنُكَ أن تبقى ملاكًا؟
—
جامعة كينغزبريدج
مرت السيارة التي كانت تقل إدوين عبرَ البوابة الكبيرة المنقوش عليها اسم الجامعة و بدأت في القيادة ببطء عبرَ الحرم الجامعي.
لم يكُن هُناكَ وقتٌ للتجول بتمهل في الحرم الذي ستقضي فيه جيزيل أيامها بدءًا من الخريف القادم. قبلَ أن يترجل من السيارة، أخذَ إدوين لحظة ليرتدي قبعته و نظاراته الشمسية، حرصًا على ألا يتعرف عليه أحد.
“لقد وصلنا، صاحب السمو.”
توقفت السيارة في موقف خلفَ كلية الطب. و بمُجرّد نزول إدوين و روي، أسرعا بالدخول إلى المبنى.
“راقبني جيدًا، تأكد من ألا أفعل شيئًا متهورًا.”
“بالطبع.”
واقفًا أمامَ باب مختبر في الطابق الثالث، تفقد إدوين ساعته. لقد وصلَ قبل الموعد المحدد بخمس عشرة دقيقة.
لكنهُ لم يمنع روي من الطرق على الباب. كانَ قلقًا جدًا لدرجة أنهُ لم يكترث باللباقة.
“مَن…؟ آه!”
بعد لحظات، أطلقَ العالِم المُسن الذي فتحَ الباب شهقةً بـدهشة. كانَ ذلكَ البروفيسور فليتشر.
“تفضلوا، ادخلوا.”
فتحَ البروفيسور الباب على مصراعيه بحماس. دونَ تردد، دخلَ إدوين و هوَ يعتذر أثناء تقدمه.
“أعتذر على التواصل معكَ في وقتٍ مُبكر و طلب لقاء فوري.”
“كما قُلتُ عبرَ الهاتف سابقًا، هذا اللقاء المُفاجئ يعد شرفًا لي.”
أغلقَ روي، الذي تبعَ إدوين إلى الداخل، الباب خلفه. و بعدَ أن تأكدَ من أن البروفيسور فليتشر هوَ الشخص الوحيد في المكتب الخاص، المُحاط بأرفف الكتب، نزعَ إدوين قبعته و نظارته الشمسية.
“مرحبًا بك في مكتبي. هل يمكنني تقديم شيء لتشربه؟ ماذا عن بعض القهوة بما أنهُ لا يزال الصباح؟”
“ستكون مُحادثةٌ طويلة، لذا لن أرفض.”
رمشَ البروفيسور بعينيه بسرعة، و كانَ الفضول واضحًا عليه. بعدَ فترة قصيرة، جلسا أمامَ بعضهما البعض معَ فناجين القهوة بينهما، و كانَ البروفيسور يظهر عليه الترقب الشديد لمعرفة موضوع هذه المحادثة.
بدلاً من الكلام، أشارَ إدوين إلى روي بنظرة. فـفتح روي الحقيبة التي كانَ يحملها و وضعَ مجموعتين من الوثائق على طاولة القهوة.
“هذا هوَ…”
“اتفاقية عدم إفشاء أي شيء.”
اتسعت عينا البروفيسور في دهشة. اختفى الضباب الذي كانَ يكسو ذهنه في الصباح الباكر على الفور بينما كانَ يحدق في الوثيقة.
“قبلَ أن نتمكن من التحدث، يجِبُ عليكَ أن توافق على عدم التحدث عن هذا الموضوع معَ أي شخص، حتّى بشكلٍ غير معروف.”
“…هل هوَ موضوعٌ خطير إلى هذهِ الدرجة؟”
“ليسَ خطيرًا عليك، بروفيسور.”
فقط بالنسبة لإدوين.
عادةً ما يميلُ العُلماء إلى الثرثرة عندما يُظهِر شخصٌ ما اهتمامًا بأبحاثهم، بغض النظر عن من يكون. و قد أثبتَ البروفيسور فليتشر ذلك ليلة البارحة في قاعة آمهرست.
لستُ متأكدًا إذا كانَ يستحق الثقة.
في البداية، كانَ إدوين يخطط للتصرف كـراعي مُهتم بأبحاث البروفيسور حولَ اضطراب تعدد الشخصيات لقياس مصداقيته. و معَ ذلك، بمُجرّد أن علِمَ أنَّ الشيطان كانَ يستهدف جيزيل، لم يعد هُناكَ وقتٌ للتردد.
كانَ البروفيسور فليتشر من أبرز السلطات الرائدة في هذا المجال. جميع الباحثين المحليين الآخرين في هذا المجال كانوا طلابه. لم يكُن هُناكَ خيارٌ آخر مُنذُ البداية.
و معَ ذلك، كانَ من الضروري اتخاذ تدابير حماية، و لهذا السبب جلبَ إدوين اتفاقية السرية.
التعليقات لهذا الفصل "16"