الليلة الماضية، لم تستطِع جيزيل النوم.
إنهُ يراني كامرأة.
امرأة يمكن تقبيلها، امرأة يمكن أن تكون في علاقة.
… امرأة لا يمكن أن تكون إلا في علاقة.
رغم أن مُجرّد التخيل ليسَ جريمة، لم تجرؤ حتّى على تخيل الزواج.
كانَ الأمر كذلك حتّى عندما كانت فتاة ساذجة في الثالثة عشرة من عمرها.
لم تكُن هذهِ المرة الأولى التي تشعر فيها جيزيل بارتجافة في قلبها بسببه. كانت المرة الأولى في صيف عامها الثالث عشر.
كانت مُستلقية على أرجوحة مربوطة تحتَ ظلّ شجرة في الفناء الخلفي للفيلا على تلال “كوستا سميرالدا”، كما اعتادت أن تفعل كُلَّ صيف. و كانت تغفو بهدوء.
في تلكَ اللحظة العادية تمامًا…
… هاه؟
استيقظت من نومها العميق عندما رفعها أحدهم بحذر. كانَ هُناكَ عبيرٌ مألوف… رائحةُ عطرٍ ما بعد الحلاقة.
السُيد؟
عندما فتحت عينيها ببطء، رأت قميصًا من الكتان الأبيض. كانَ القماش الرقيق يزدادُ شفافية شيئًا فشيئًا، كاشفًا عن بشرته السمراء بفعل الشمس. لقد بدأ المطر يتساقط.
“لا بُدَّ أنها كانت تغطُ في نومٍ عميق. لم تستيقظ حتّى عندما ناديتها.”
أغلقت جيزيل عينيها مرّةً أُخرى عندما سمعت صوته و هوَ يتحدث إلى شخصٍ آخر. أعجبها أن تبقى بين ذراعيه هكذا، دونَ أن تتحرك.
“أحضر شيئًا لتغطيتها.”
كانَ ذلك في يومٍ استبدَ فيه الحر لعدة أيام مُتواصلة. لم تكُن قادرة على تحمل الحرارة المُنبعثة من جسدها، فكانت تستحمُ خمس أو ست مرات يوميًا.
“إنها ترتجف، كما لو كانت تشعر بالبرد.”
و معَ ذلك، و لسببٍ ما، جعلها دفء جسده ترتجف. تمامًا كما حدثَ في أول مرة احتضنها فيها.
لكن هذهِ المرة، كانَ الأمر مختلفًا. كانت المرة الأولى التي تشعر فيها برعشة كهذه.
وضعها برفق على السرير في غرفة المعيشة، ثُمَّ غطاها و مسحَ بيده الكبيرة خصلات الشعر التي التصقت بجبهتها.
“نامي جيدًا.”
لامست شفتاه برفق الموضع الذي مرت عليه يدهُ قبل لحظات، ثُمَّ انسحبَ بهدوء.
بدا و كأن قلبها قد سقطَ في تلكَ اللحظة.
لكن، دون أن يُدرك أنهُ قد سرقَ قلبها بالفعل، عادَ إلى مقعده في الصالة و استأنفَ قراءة كتابه، و كأن شيئًا لم يكُن.
كُلُّ هذا كانَ مألوفًا.
حملهُ لها عندما تعجزُ عن الحركة، و قُبلة على جبينها معَ تمني ليلة هانئة قبلَ النوم.
كانت المروحة تدورُ ببطء، تهمسُ بلحنٍ هادئ، بينما كانت الأمطار تهطلُ بغزارة كما لو كانت في سباقٍ معَ الزمن. بدا تناغم كُل شيء في إيقاعه الخاص و كأنهُ معجزةٌ صغيرة…
لكن ذلكَ التناغم انكسرَ بصوت احتكاك أصابعه و هيَ تُقلب صفحة من كتابه، بدا صوت الورق المُنقلب، بقسوته الهادئة، و كأنهُ يُعلن أنهُ وحده سّيد هذا المكان و الزمان.
لم يكُن يُسيطر على المكان بالصوت فقط، بل بالعطر أيضًا.
رائحة المطر العتيقة، التي حملها الهواء الخانق، تراجعت مع النسيم الخفيف القادم من المروحة، لتحل محلها رائحته المنعشة و الصافية.
عبق النعناع الطازج الذي تركهُ على جبينها معَ قُبلته.
و الأثرُ الحادّ لعطره الذي ظلَّ عالقًا في أنفها، مما جعلها تشعر و كأنها لا تزالُ بينَ ذراعيه.
وجودهُ كانَ ملموسًا بالصوت… و العطر.
ذلك العصر في كوستا سميرالدا، الذي كانت تحكمهُ هذهِ السكينة التي أطلقت عليها اسمًا، بدا مألوفًا للغاية.
لكن مُنذُ أحد أيام الصيف عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها، بدأ هذا الروتين المألوف يبدو غريبًا.
في ذلك العصر، بينما تظاهرت بأنها نائمة، راقبتهُ جيزيل سرًا.
أصابعهُ الطويلة التي كانت تتبعُ ببطء عمود الكتاب، و شفاهه الجافة التي تفرقت بصوتٍ خافت، كُل ذلك جعل وجهها يحمر، تمامًا كما حدثَ عندما وضعت عطر الحلاقة الخاص به على وجهها بدافع الفضول.
ذلكَ الاحمرار لم يختفِ لفترة طويلة، كما لو أنها أُصيبت بحمى. يقالُ إن الحُب نوعٌ من المرض، و لم يكُن ذلك مُجرّد استعارة، كما أدركت في الثالثة عشرة من عمرها.
و هكذا، تجرأت اليتيمة الجاهلة على جعلِ مُحسنها النبيل أولَ حُب لها.
لكن ذلك الحُب الأول لم يستمر لما بعد ذلك الشتاء.
—
[دوق إيكليستون مات، و السببُ يُرجَّح أنهُ انتحار]
عندما أقدمَ شقيقهُ الأكبر، غير المتزوج، على إنهاء حياته، ورثَ السّيد لقب الدوق.
إلى جانب واجب إنجاب وريث، اضطرَ إلى التخلي عن عهده الأبدي بالعزوبية. و مُنذُ ذلكَ الحين، بدأت النساء بالتجمُع حوله.
من الدوقات الشابات إلى الدوقات الكبار، كُنَّ يتوافدن إليه.
النساء اللاتي كُنَّ جديرات بلقب دوقة، كُنَّ يفُحنَ بعطورٍ راقية و يشعنَ بأناقةٍ لا مُتناهية، كما لو كُنَّ ينتمينَ إلى عالمٍ مُختلفٍ تمامًا عن عالمها.
بالمُقارنة، لم تكُن سوى فتاة نحيلة، خرقاء، تفوحُ منها رائحة الأرض الخام.
و معَ ذلك، كانت تقرأ الروايات الرومانسية، مُتخيلةً السّيد كـبطلها، و نفسُها كـالبطلة، حالمةً بأنهُ سينجذب إليها بلا مقاومة.
و مُنذُ تلكَ اللحظة، بدأت تحمرُ خجلًا.
جذابة؟ حتّى التفكير في الأمر يُثيرُ سُخريتي.
وُلدت دونَ أي مكانة، لا تملُك سوى غرائزها البدائية، و لا تزالُ تفوحُ منها رائحة التربة التي تعودُ لجذورها الفقيرة.
يتيمةُ حربٍ بائسة، عاجزةً عن محو آثار التُراب و الدماء التي لوّثت يديها حينَ دفنت والديها و إخوتها بنفسها.
روزالية مسكينة، اضطرت إلى التمسُك بذوي السُلطة، حتّى لو كانَ الثمن حلقَ شعرها و تهديد حياتها، فقط لتتمكن من البقاء.
و شيطانةٌ بلا قلب، اضطرت يومًا إلى قتل و أكل كلبها الذي ربّتهُ، لأنَّ الجوع كانَ أقوى من الرحمة.
كيفَ يمكن أن تمتلك أي جاذبية أنثوية بعدَ كُلِّ هذا؟
مُنذُ تلكَ اللحظة، عقدت العزم على ألا تنظُر إليه كرجٍُل مرّةً أُخرى.
لكن إن كانَ السّيد يراها كـامرأة، فلن يكونَ الأمر تجاوزًا بعدَ الآن، أليسَ كذلك؟
و هكذا، في الليلة الماضية، بعثت بحذر ذلكَ الخفقان القديم في قلبها.
كانَ ذلكَ تصرفًا ساذجًا.
فاتَ الأوان لتُدرك أن رؤيتهُ لها كـامرأة لم يكُن أمرًا جيدًا بالكامل.
—
سمعت صوت إغلاق باب السيارة من الخارج. حدّقت جيزيل بذهول نحوَ السيدان.
لقد تغيّرَ السّيد مُجددًا. لم يكُن يومًا يُغادر دونَ أن يودّعها، لكنهُ هذهِ المرة رحلَ دونَ أن ينبس بكلمة.
لم أُرِد هذا.
لم تكُن تريد أن يندم على رؤيتها كـامرأة، أن يبدأ بالابتعاد عنها كما لو أنهُ ارتكبَ خطأً.
لا… قبَل الليلة الماضية، لم تكُن حتّى ترغب في أن يراها كـامرأة مرّةً أُخرى.
كُلُّ ما أرادتهُ هوَ أن تُريه بطاقة درجاتها عندَ عودته. أن تُخبره، في القطار العائِد إلى تيمبلتون، كيفَ سارت الأمور في غيابه. ثُمَّ، في تيمبلتون، أن تقضي الأيام معهُ بسلام، كما كانَ الحال من قبل.
لكن بما أنها أصبحت امرأة، لم يعد مِنَ المُمكن أن يتحققَ ذلكَ الحُلم البسيط. شعرت و كأنها فقدتهُ في اللحظة التي استعادتهُ فيها.
إذا كانَ كونها امرأة يعني فُقدانه…
قررت جيزيل ألا تكون امرأة بالنسبة له.
—
على الرغم من أنهُ كانَ مُمسكًا بعجلة القيادة و كانَ يجِبُ أن يُراقب الطريق…
هذا معقد…
لا، كانت عينيه بالتأكيد على الزحام في الطريق، و لكن روي كانَ يستمرُ في تبادل النظرات معَ الفتاة الشقراء. صورة وجهها عندما غادرا قاعة الطعام ظلت عالِقة في ذهنه، ترفُضُ أن تختفي.
لم تكُن تعرِفُ شيئًا، و معَ ذلك كانت تبدو بائسة كما لو كانَ اللومُ يقعُ عليها. كادَ يشعر بالأسف من أجلها.
كانَ يجِبُ أن أُخبر الآنسة بيشوب أنهُ ليسَ ذنبها قبلَ أن أُغادر.
لكن اليوم، كانَ تحتَ أوامرٍ صارمة بعدم ترك عينيه عن الدوق لحظة واحدة، لذا لم يستطِع. و بصراحة، لم يكُن لديه جواب إذا سألت الآنسة بيشوب عن سبب ابتعاد الدوق عنها.
لو أنَّ الدوق قد غادرَ الموقف بطريقة أكثر طبيعيّة…
لكن، أين يُمكن العثور على تلكَ “الطريقة الطبيعية للخروج من الموقف”؟ كُنتُ أُفكر في هذا طوال الوقت، و لكن لم يخطُر ببالي فكرة أفضل.
عندما تحقق روي بشكلٍ اعتيادي من تعبير وجه سيده الجالس في المقعد الخلفي عبرَ مرآة الرؤية الخلفية، امتلأَ فمهُ بـمذاقٍ مُر.
في النهاية، الشخص الذي لا يُريدُ أن يؤذي تلكَ الفتاة أكثرَ من أي شخص آخر، و لكنهُ انتهى الأمى به بـإيذائها، هوَ الدوق نفسه، أليسَ كذلك؟
كانَ هذا العام هو العام السادس و العشرون لـروي في خدمة عائلة إيكليستون.
يعني أنهُ قد شهدَ عن كثب تحوّل الدوق الحالي من صبيٍّ صغير إلى رجُلٍ بالغ.
تاريخ تلكَ المعاناة، بالتحديد.
و بسبب ذلك، كانَ الدوق يُظهر مشاعر تجاه الكلب أكثر من البشر، و لم يُعطِ قلبهُ أبدًا للناس.
—
“قدّم نفسك. هذهِ الطفلة هي ناتاليا رودنيك. ستبقى هُنا من الآن فصاعدًا، فـتعاملوا معها كـضيفتي.”
أي حتّى جاءَ يومًا فجأة، حينما أحضرَ يتيمًا من ساحة المعركة.
كانت تلكَ صدمةٌ للجميع، و لم يفهمهُ أحد. أما روي، الذي كانَ يعرِفُ كُلَّ شيء عن تاريخ اللورد إدوين، فـكانَ أكثرهم تأثرًا.
لكن بينما كانَ يُراقب من بعيد، تغيرت أفكارهُ بسرعة.
‘رُبما تكونُ تلكَ الفتاة قادرةً على إنقاذ سيدنا.’
كانَ الدوق بطبعهِ مليئًا بالعاطفة، لكنهُ كانَ يكبتها، و كانَ ذلكَ يؤلم روي بشدة.
لا يزالُ لا يعرف ما الذي جعلَ تلكَ الفتاة تفتحُ قلب الدوق المُغلق، لكن روي كانَ مُمتنًا حقًا للسيدة بيشوب.
التعليقات لهذا الفصل "15"