“سأفكر في الأمر.”
مرّةً أُخرى، أحبطت جيزيل مُحاولته بنفس الكلمات. و رغم أن السّيد ابتسمَ بخفة و أومأ برأسه بمظهرٍ مُبتهجٍ كـعادته، إلا أن جيزيل شعرت بـأضطرابه العميق في الداخل.
حدسها، الذي ظلَّ معطلاً لأربع سنوات، لم يبهُت او يصدأ أبدًا. لكن ذلك لم يكُن أمرًا يدعو للسرور.
سادَ الصمت مُجددًا في غرفة الطعام، لكنَ عقلها كانَ يعجُّ بالأفكار. و في لحظةٍ ما، بينما كانَ السّيد يُراقبها بهدوء و هيَ تأكلُ ببطء، سألها:
“أنتِ لا تأكُلين جيدًا. هل الطعام لا يُعجبك؟”
كانت هُناك العديد من الأسباب، لكن واحدًا فقط يُمكنُها ذكره.
“الطعام يُناسب ذوقي تمامًا.”
ألقت جيزيل نظرة خاطفة على الخادمة و الخادم، اللذين بدت عليهما الراحة بعد تعليقها حولَ إعجابها بالطعام.
لم يكُن السّيد يسمحُ لأي أحد بخدمته أثناءَ وجباته. بمُجرّد أن يبدأ في تناول الطعام، كانَ يصرفُ جميع الخدم و لا يستدعيهم إلا عندَ الحاجة.
إذن، لماذا لم يطلب منهم المغادرة اليوم؟
علاوة على ذلك، لماذا كانَ السيد روي، الذي لا علاقة له بتقديم الطعام، واقفًا هُناك؟
“إذن، لماذا لا تأكُلين جيدًا؟”
“هذا…”
إنهُ شعورٌ غيرُ مُريح.
على الرغم من أن جيزيل تظاهرت بعدم الاكتراث أمام السّيد، إلا أنها لم تكُن غافلة تمامًا عن موقعها الحقيقي أمام الآخرين.
لقد نشأت مثلَ سيدة نبيلة، لكنها لم تكُن كذلك. لم تكُن شخصًا يُفترض أن يجلس إلى الطاولة و يُقدَّم له الطعام، بل كانَ مِنَ المُفترض أن تكونَ واقفة هُناك، تُقدم الخدمة.
لذا، لم يكُن مِنَ المُريح تمامًا أن تُخدَم بهذهِ الطريقة.
“معَ كُلِّ هذهِ العيون الموجهة إليّ، أشعرُ بالإحراج، و لا يُمكنني تناول الطعام بسهولة.”
حاولت جيزيل إيصال رغبتها في مغادرة الخدم بطريقة غير مُباشرة. فـبغض النظر عن معاملتهم لها كـسيدة، كانت مُجرّد ضيفة، و ليست صاحبة المكان، لذا سيكون من الوقاحة أن تطلبُ ذلك.
“أفهم. حسنًا إذن…”
اعتقدت أن السّيد سيتفهم الأمر كما يفعلُ دائمًا و يصرفهم، لكن…
“خُذِ وقتكِ، تناولي طعامكِ براحة، و أتمنى لكِ يومًا سعيدًا.”
وقفَ السّيد و غادر.
“أوه…”
حدّقت جيزيل مذهولةً بالموقف غير المُتوقع، و لم تستطع إيقافه، بل اكتفت بالتحديق بـفمٍ نصف مفتوح.
هذا ليس ما قصدته… أنتَ تعرفُ ذلك، أليسَ كذلك؟ إذن، لماذا فعلت ذلك؟ هل أخطأتُ في شيء؟
كانَ السّيد دائمًا يُخبرها مُباشرةً إذا ارتكبت خطأ، و يُصحّح لها الأمر دونَ تلميحات أو انسحابات صامتة.
إذن، لماذا تصرّفَ هكذا الآن؟
لم تكُن هُناكَ أيُّ إجابةٍ في هيئته المُتراجعة.
هل يعرف الآخرون؟
ألقت جيزيل نظرة على الشخصين اللذين تبعا السّيد. كانَ كبير الخدم يبدو مُرتبكًا مثلها، مما يدل بوضوح على أنهُ لم يكُن على دراية بالسبب.
ماذا عن السيد روي…؟
لكن عندما التفتت إليه، وجدتهُ يراقب السّيد بتعبيرٍ مُرّ. لقد كانَ يعرف.
…لكن لماذا ينظرُ إليّ بهذهِ الطريقة؟
على الرغم من أنها لم تكُن تعرف سبب تصرف السّيد بهذهِ الطريقة، إلا أنها أدركت على الأقل أنهُ ليسَ بسبب خطأ ارتكبته. و عندما شعرَ “السيد روي” بنظرتها، التفت إليها بابتسامة مُتردّدة و أومأ برأسه اعترافًا.
…هل يشعُر بالأسف تجاهي؟
على الأقل، لم يكُن الأمر خطأها.
لكنَ ذلك لم يُعد لها شهيتها أو يريح عقلها. وضعت جيزيل أدوات الطعام جانبًا و جلست غارقة في أفكارها.
السّيد يتصرف بغرابة مُنذُ الليلة الماضية.
مُنذُ اللحظة التي أفلتَ يدها فجأة أثناء الرقص، ثُمَّ أمسكَ بها مُجددًا لـيقول بشكلٍ غير متوقع:
“مرحبًا. ليسَ لديكِ أي فكرة عن مدى انتظاري لهذهِ اللحظة.”
ثُمَّ حتّى أنهُ حاولَ تقبيلها، و كانَ ذلكَ غريبًا.
لا، رُبما كانَ مُجرّد خيالي أنهُ حاولَ تقبيلي.
—
“جيزيل، ماذا فعلتُ لكِ قبلَ أن نُغادر القاعة؟”
لكن ذلك كانَ بالتأكيد غريبًا.
في الليلة الماضية، بعد عودتهما مُباشرةً إلى المنزل الريفي، جلسَ السّيد بملامحٍ جادة للغاية، و أجلس جيزيل أمامه و سألها:
“ماذا فعلتُ لكِ قبلَ أن نُغادر القاعة؟”
لماذا يسأل هذا السؤال؟
لم تفهم جيزيل مغزى سؤاله، فردّت عليه بسؤالٍ آخر بدلًا من الإجابة:
“ألا تتذكر؟”
“يبدو أنني شربتُ كثيرًا. بعدَ أن توقفتُ عن الرقص، أصبحت ذاكرتي ضبابية.”
كانت صدمة، و خيبة أمل، أن تُفكر في أنهُ حاولَ تقبيلها فقط لأنهُ كانَ مخمورًا.
لحظة… شربَ كثيرًا؟
لكن لم تكُن هُناك أيُّ رائحة كحول في أنفاسه عندما كانت قريبة منه الليلة الماضية. بالإضافة إلى ذلك، المشروب الوحيد الذي شربه، على حد علمها، كانَ كأسًا من الشامبانيا كانت تنوي شربه بنفسها.
“لهذا السبب أسألُكِ. هل يُمكنكِ إخباري بما قُلتهُ وما فعلتهُ؟”
“حسنًا… أمسكتَ بي عندما كُنتُ على وشك السقوط، ثُمَّ أغمضتَ عينيك كما لو كُنتَ تُعاني من صداع…”
الآن بعدَ أن فكرت في الأمر، رُبما كانَ يُعاني بالفعل من صداع بسبب الكحول. بما أنهُ لم يكُن يشرب عادةً، فقد يكون حتّى كأس واحد أكثرَ من اللازم بالنسبة له.
لكن أن يفقدَ ذاكرته بهذا الشكل… هل طوّرَ فجأة مُشكلةً في تحمّل الكحول لم تكُن لديه من قبل؟
بدأت تتساءل عمّا إذا كانت حيطتهُ بشأن استدعاء السيد روي في حال تصرفَ بغرابة تعودُ إلى هذهِ العادة الجديدة في الشرب. جعلها ذلك تشعُر بالأسف تجاهه.
“ثُمَّ أمسكتَ بي مُجددًا و قُلتَ: ‘مرحبًا’.”
كانت تلكَ الـ “مرحبًا” تبدو مُفاجئة، لكنها لم تعتقد أنها كانت أمرًا خطيرًا يستدعي تعبيرهُ الجاد الآن.
“بالنسبةِ لشخصٍ مخمور، نسيانُ ما كانَ يفعله أو معَ من كان ليسَ بالأمر النادر.”
“لقد نضجتِ و أصبحتِ مُتفهّمة جدًا، جيزيل. شُكرًا لكِ. لكن في المرة القادمة، لا تكوني مُتفهّمة إلى هذا الحد. أُهربي و نادي روي.”
“لا… بل من واجبي ألا أضعكِ في موقفٍ تحتاجين فيه إلى الهرب.”
هل كانَ يخطط للتوقف عن الشرب؟ مرّرَ السّيد يدهُ عبر شعره، ثُمَّ دفنَ وجهه بينَ كفيه و أطلق تنهيدة عميقة.
“لا أعتقد أن الأمر كانَ خطيرًا إلى هذا الحد.”
“هل كانَ ذلك كُلَّ شيء حقًا؟”
“لقد قُلتَ أيضًا إنك كُنتَ تنتظر هذهِ اللحظة.”
عندَ سماع تلكَ الكلمات، تغيّرت تعابير السّيد فورًا، و كأنهُ تلقى صدمة مُرعبة.
…هل يخافُ السّيد من شيء أصلًا؟
حتّى في ساحة المعركة، حيثُ تملأ الأهوال الأجواء، لم يُظهر مثلَ هذا التعبير أبدًا.
لماذا يبدو أكثرَ خوفًا من كلماته الخاصة أكثر مما كانَ عليه عندما دوت صفارات الإنذار الجوية و هدرت الطائرات المُقاتلة فوق رؤوسنا؟ لماذا؟ ما المُخيف في تلكَ الكلمات؟
واقفًا مُتصلبًا كما لو كانَ في صدمة من القصف، ألحَّ السّيد عليها قائلًا:
“و؟”
“أمم… قُلتَ إنهُ عندما رأيت وجهي… بدا أنكَ استعدت وعيك، ثُمَّ أخبرتني بأنهُ يجِبُ علينا العودة. تتذكرُ ذلك، أليسَ كذلك؟”
“هل هذا كُل شيء حقًا؟”
“نعم.”
“لم أقُل أو أفعل شيئًا غير مُحترم تجاهكِ؟”
“لم تفعل أي شيء غير مُحترم.”
على الرغم من أن محاولة السّيد لتقبيلها كانت بلا شك ما قصده بـ”غير مُحترم”، كذبت جيزيل.
لقد لمسَ شفتيها، مِنَ المُحتمل أنهُ كانَ على وشك تقبيلها.
لكن لا يُمكنها قولُ شيءٍ كهذا بينما كانَ السّيد روي يستمِعُ في الجوار. ثُمَّ، إن لم يكُن السّيد يتذكر، ألن يكونَ من الأفضل تركُ الأمر كما هوَ؟
خصوصًا إن كانَ مُجرّد خطأ ارتكبهُ تحتَ تأثير الكحول.
حتّى دونَ ذكر الجزء الأكثر صدمة، بدا أن السّيد كانَ بالفعل مُضطربًا بشدة.
“ها… لقد كُنتُ أحمق، إنهُ خطئي… أنا…”
“سيدي…”
أرادت جيزيل أن تُخبرهُ مرّةً أُخرى بأنهُ لم يرتكب أي خطأ يستحق هذا القدر من الشعور بالذنب، لكنهُ تنهد و نهضَ من مقعده.
“جيزيل، أعتقدُ أنهُ من الأفضل أن أخلُد إلى النوم مُبكرًا الليلة. لا بُدَّ أنكِ مُتعبة أيضًا. اذهبي إلى غُرفتكِ و خُذي قسطًا من الراحة.”
“لا بُدَّ أنكَ مُتعبٌ أيضًا بعدَ كُلَّ ما حدثَ اليوم. شُكرًا جزيلًا على حضوركَ حفل تخرجي.”
“لا داعي لأن تشكريني. بالطبع كانَ عليَّ أن أكونَ هُناك. إذا قُلتِ إن الأمر كانَ شاقًا عليّ، فسيحزنني ذلك.”
“سيدي…”
“جيزيل، أنتِ سعادتي. كُنتُ سعيدًا لرؤيتك مُجددًا.”
لم تكُن مُجرّد كلماتٍ فارغة؛ فقد رأت الصدق في عينيه. ربت السّيد على رأس جيزيل، بل و سارَ معها إلى غرفتها، تمامًا كما كانَ يفعل قبلَ أربع سنوات.
“تُصبحين على خير.”
“و أنتَ أيضًا، يا سيدي. “
و لكن لماذا أشعر بهذا الفراغ في قلبي، رغم أنني أتلقى المودة من السّيد؟
حتّى بعدَ إغلاق الباب، بقيت جيزيل واقفة في مكانها، و من خلال الباب المُغلق، سمعت بوضوح السّيد يهمس بهدوء إلى السّيد روي.
“عليَّ أن أبقى على مسافة الآن.”
بالطبع، ظنت أنهُ يقصد الابتعاد عن الكحول.
لماذا يبتعدُ عني؟
حتّى لو لم يكُن ذلك بسببي مُباشرةً، إلا أنني بالتأكيد السبب.
بينما تخلت عن طعامها و سارت بلا هدف في الرواق، وجدت جيزيل نفسها في نهاية الممر، تواجه انعكاسها في المرآة.
امرأة.
الآن، بدأت تفهم السبب.
“الفتاة التي افتقدتُها لم تعُد هُنا. خلالَ الوقت الذي لم نرَ فيه بعضنا، أصبحتِ سيدة شابة.”
لأنني أصبحتُ امرأة.
لأنَّ ملامحي بدأت تأخُذُ شكلَ امرأة.
سواء كانت محاولتهُ لتقبيلها الليلة الماضية خطأً بسبب الكحول أم لا، لم يعُد بالإمكان إنكار أن السّيد باتَ يرى جيزيل كـامرأة.
التعليقات لهذا الفصل "14"