“في اليوم الذي أواجِهُ فيه هذا التعبير…”
مررَ يدهُ بِرفق على شفتي جيزيل، ضاغطًا بأطراف أصابعه القوية من زاوية إلى أُخرى، و كأنّهُ يَتحسسُ ملامحها بحذر.
ارتجفَ جسدُ جيزيل كما لو أنها وقعت تحتَ تأثير تعويذة، مُستسلِمةً للمساته.
و حينما تحركت تفاحة آدم لديه بوضوح، و كأنهُ يبتلع جفاف حلقه، شعرت جيزيل بنبضات قلبها تتسارعُ بنفس الوتيرة.
أخيرًا، قررت جيزيل الاستسلام لهذا النبض المُرعب.
—
“ليسَ لديكِ أي فكرة عن مدى اشتياقي لهذه اللحظة.”
و أنا أيضًا… لم أكُن أنتظر سوى هذهِ اللحظة.
و قبلَ أن تُغمِض عينيها، كانَ قد سبقها و أغمضَ عينيه بلحظةٍ واحدةٍ.
و حينَ فتحت عينيها فجأة مرةً أُخرى، تراجع و كأنهُ احترق، و سحبَ يديه عنها حتّى إنهُ خطا خطوةً إلى الوراء.
“…سيدي؟”
“مِنَ الأفضل أن نُغادر الآن.”
“نعم…”
من دونِ أي كلمةٍ أُخرى، تبِعتهُ جيزيل بصمت.
ما الذي حدثَ للتو؟ و ما هذا الآن؟
لامست شفتيها مرارًا، لا تزالُ مُشتعلةً بذكرى لمسته.
لا تزالُ تتخيلُ الإحساس العالق الذي لم تختبره بالكامل بعد.
—
“هل نمتِ جيدًا؟”
في صباح اليوم التالي، حيّاها بلُطف و هوَ يجلس إلى طاولة الطعام في المنزل الريفي.
كم مِنَ الوقت كانت تتوقُ لسماع تحيته الصباحية؟
لأربعِ سنوات، كانت تمسحُ دُموعها كُلَّ صباح من شدّة الاشتياق، و معَ ذلك، حتّى بعدما سمعتها اليوم، لم تكُن سعيدة تمامًا.
ملاكي، شمسي.
خلفَ السؤال البسيط “هل نمتِ جيدًا؟”، كانَ هُناكَ دائِمًا لقبٌ دافئٌ يتبعه، لكن اليوم… لم يكُن هُناكَ شيء.
هل السبب في تغيّره هوَ نفسهُ السبب الذي جعلني أعجزُ عن إغماض عينيّ طوالَ الليل؟
محاولةً تبديد الضباب عن ذهنها، صرفت جيزيل نظرها عن الشاي الذي أحضرتهُ الخادمة و طلبت قهوة بدلًا منه.
“سآخُذ نفسَ الطلب.”
أيقظَ صوتهُ عينيها النعستين على الفور.
لم يكُن يشربُ سوى الشاي في الصباح. لم ترهُ يحتسي القهوة من قبل، إلا إذا كانَ قد أمضى الليل مُستيقظًا في ساحة المعركة.
هل لم ينم جيدًا؟ لماذا؟ هل يُمكن أن يكون…؟
وجدت جيزيل نفسها مُعذّبة مرّةً أُخرى بتلكَ الآمال الحمقاء التي حرمتها النوم، رغم أنهُ لم يكُن هُناكَ أي سبب يدعوها للأمل، خصوصًا بعدَ تحيّته الصباحية القصيرة و الجافة.
“ليسَ أمامي خيارٌ سوى الابتعاد عنكِ الآن.”
كانت تعرف ذلك، و معَ ذلك، لم تستطِع التوقف عن استرجاع أحداث الليلة الماضية في الحفل مرارًا و تكرارًا في ذهنها. هذا ما جعلها عاجزة عن النطق بأي كلمة. أما هوَ، فقد لزم الصمت أيضًا، مما جعلَ طاولة الإفطار هادئِة بشكلٍ غير مُعتاد.
“جيزيل، ما خُططكِ؟”
سألها و كأنَ شيئًا لم يحدُث.
“ليسَ لدي أي خطط مُحددة.”
إذن، لدي مُتّسعٌ من الوقت.
“ماذا عنكَ، سيّدي؟ ماذا ستفعل اليوم؟”
سألتهُ على أمل أن يكونَ لديهِ شيءٌ في خُططهِ يشملها.
“لدي الكثير من الأمور لإنجازها خلالَ وجودي في ريتشموند، لذا… لا تنزعجي إن لم تريني لبعض الوقت.”
رغم لُطف كلماته، كانَ هُناكَ جدارٌ باردٌ خلفها، و كأنهُ قرأ آمالها و رفضها مُسبقًا.
أن تطلُبَ مني ألّا أنزعج… يجعلُني أشعرُ بانزعاجٍ أكبر.
لم يكُن الأمر مُجرد استياء من عدم قضاء الوقت معه.
كُنتُ أُريدُ فقط أن نقضي الوقت معًا، كما كُنا نفعلُ عندما كُنتُ طفلة…
لم تكُن نيتها تحمِلُ أي معنى آخر، و معَ ذلك، بدا و كأنهُ أساءَ الفهم، و بنى بينهُما ذلكَ الجدار الصلب، مما جعلَ ألمها يتفاقم أكثر.
“لستُ مُنزعجة.”
رغم أن الألم كانَ أعمق مما أظهرت، تصرّفت جيزيل و كأنَ الأمر لم يؤثر بها مُطلقًا.
“هل أنا طفلة؟ أنا على وشك أن أُصبحَ راشدة الآن.”
“نعم، هذا صحيح.”
بدا السيّد مُتجهّمًا للحظة، قبلَ أن يرسم ابتسامة مُتوترة على شفتيه، ثُمَّ سأل.
“على أي حال، قبلَ أن يبدأ الفصل الدراسي الأول، هل هُناكَ شيء ترغبينَ في فعله؟”
“أوه…”
عندها أدركت جيزيل. لم يكُن يسألُ عن خُططها لهذا اليوم.
كانَ يسألُ عما ستفعلهُ خلال الثلاثة أشهر قبلَ دخولها إلى كينغزبريدج.
“لستُ مُتأكدة… لم أُفكر في الأمر حقًا…”
لقد فكرت فقط في لقائِه، لذلك لم تأخُذ أي شيء آخر في اعتبارها.
“ماذا عن السفر؟”
“السفر؟ واو، هذهِ فكرةٌ رائعة.”
“هل هُناكَ مكان ترغبينَ في الذهابِ إليه؟”
“نعم. أُريدُ زيارة الأطلال القديمة في أثوس، قضاء ليلة في خيمة صحراوية أُراقِب خلالها شروق الشمس، و غروبها، و درب التبانة. كما أُريدُ أن أُبحر حولَ كوستا سميرالدا على يخت، و أشتري آيس كريم في بورتو سيرفو قبلَ العودة إلى الفيلا لأخذ قيلولة طويلة في أرجوحة كما كُنتُ أفعلُ سابقًا. يجِبُ عليّ أن أفعلَ ذلك!”
أخذت جيزيل تذكُرُ الأماكن التي ترغبُ في زيارتها بحماس دونَ أن تأخُذ نفسًا، الأشياء التي حلمت بها خلال السنوات الأربع التي قضتها في انتظاره تتراكمُ واحدةً تلو الأُخرى.
“و أيضًا…”
كانَ هذا مُجرّد غيض من فيض، لكن السّيد كانَ ينظرُ إليها بالفعل كما لو أنهُ غارِقٌ في ذلك. أخذت جيزيل الإشارة و قررت التراجُع.
“أمم… هذا كُل ما يخطُر في بالي الآن.”
لكنها لم تقُل أن ذلك هوَ كُل شيء. لابُدَّ أنهُ فهِمَ ذلكَ أيضًا.
“يبدو أنَّ السيدة الشابة الطماعة كانت تُخفي الكثير.”
ابتسمَ بابتسامة دافِئة، و عيناهُ تُضيء، لكن رغم أن ابتسامتهُ كانت دافِئة، كانَ حُكمُه لا يرحم.
“النوم في خيمة صحراوية خطِرٌ جدًا، لذلك هذا مُستبعد.”
“هذا سخيف. آه…”
كانت جيزيل على وشك الاعتراض بأنها لن تشعر بالخطر إذا كانَ برفقتها، لكن كلماتُه التالية جعلتها تصمت.
“اجمعي بعض الأصدقاء لتذهبوا معًا. فقط الفتيات. سأُغطي تكلفة الرحلة و تأمينكم جميعًا، فلا داعي للقلق بشأن ذلك.”
…هل هذا يعني أنهُ لن يذهب؟
كانت جيزيل قد افترضت بشكلٍ طبيعيّ أنهُ سيذهبُ معها. فبعدَ كُلِّ شيء، كانا دائمًا يُسافران معًا في السابق.
لماذا لن تذهب؟ إذا كُنتَ لن تذهب، فلن أذهب أنا أيضًا!
هل يجِبُ أن تقومَ بنوبةِ غضبٍ كما كانت تفعلُ عندما كانت صغيرة؟
لطالما وجدَ السيّد نوبات غضبها الطفولية لطيفة. أحيانًا، كانت طلبات الفتاة اليتيمة غير المنطقية تجلبُ لهُ نوعًا من المُتعة.
عندما كانت في الحادية عشرة من عمرها، قالت لهُ ذات مرة:
“جيزيل، جروتي الصغيرة المُشاكسة.”
“سيّدي… هل يُمكِنُكَ التوقفُ عن مُناداتي بالجروة من الآن فصاعدًا؟”
“و لمَ ذلك، أيتها الجروة الشرسة؟”
“آه، كفى… أنا جادّة! توقّف عن السُخرية مني!”
“انظُري إلى ذلك. أنتِ لطيفةٌ تمامًا كجروةٍ مُتجهمة. فلماذا لا تُحبينَ ذلك فجأة؟”
“الأطفال… يقولونَ إنني مُجرّد جروة التقطها السيّد.”
“عندما يقولونَ ذلك، ابتسمي لهم بشفقة. إنهم يغارون. يغارون لأنكِ أجمل، و ألطف، و أذكى.”
“لا، ليسَ الأمرُ كذلك. قالوا إنني مُجرّد جروة سيتمُ التخلي عنها مُجددًا بمُجرّد أن يملّ مالكها منها.”
“من الذي قالَ ذلك؟”
***
“لا، يا سيّدي، لقد غيّرتُ رأيي! أُريدُ أن أكونَ جروتك الصغيرة اللطيفه. من الآن فصاعدًا، لن أُلحّ عليكَ للعبِ معي، و سأكونُ طيبة و هادئة. و أنا مُمتنةٌ لكَ دائمًا، لذا أرجوك، لا تتخلَّ عني.”
“جيزيل، لن أتخلَّى عنكِ أبدًا. و رغم أنني لم أُفكر فيكِ يومًا كـجروة تُربّى في المنزل، لكن إن كُنتِ ترغبينَ حقًا في أن تكوني كذلك، فآملُ أن تكوني جروةً مُدللةً، جاحِدةً للأبد، لا تتوقفُ عن المُطالبة بحضن صاحبها.”
“لماذا؟”
“لأن هذا سيجعلُني سعيدًا.”
عندَ التفكير في الأمر، كانَ السّيد يبدو سعيدًا حقًا كلُّما تصرّفت جيزيل بجرأة و مُشاكسة، مثلَ جرّوة صغيرة جامحة.
لم تكُن تلكَ مُجرّد كلمات مواساة فارغة لتهدئة مخاوف يتيمة؛ بل كانت مشاعِرهُ الحقيقيّة.
لكن بعدَ الليلة الماضية، رُبما تغيّرت مشاعره.
“سأُفكر في الأمر ببطء. لكن أكثر من ذلك، متى ستعودُ إلى تيمبلتون؟”
بدلًا من التوسّل للسفر معه، غيّرت جيزيل الموضوع.
“حسنًا، لستُ مُتأكدًا من موعد إنهاء أعمالي. هل ترغبين في الذهاب إلى تيمبلتون؟”
“نعم.”
“ما رأيُكِ في أن تذهبي قبلي؟”
رغم أن كلماتهُ بدت و كأنهُ يقترِحُ أن تذهب إلى قصر الدوق أولًا و سيلحقُ بِها بعدَ إنهاء أعماله، إلا أنَّ ذلك لم يكُن الإحساس الذي وصلَ إليها.
لطالما كانت قلقة بشأن فهم مشاعره و أفكاره. و بفضلِ ذلك، طوّرت جيزيل حدسًا حادًا تجاهه، و الآن لم تعُد بحاجةٍ حتّى إلى المحاولة، كانت تشعُر بذلك.
إنهُ لن يأتي. إنهُ يحاولُ إبعادي.
… تمامًا هكذا.
و قد حاولَ فعلها مرتين مُتتاليتين.
Please enter your username or email address. You will receive a link to create a new password via email.
التعليقات على الفصل "13"
التعليقات