كان ذلك مارك، شقيق إيثان.
“يا للُّطف الشديد، يا سيدي الدوق. ما رأيك أن تُبدي مثل هذا اللطف تجاه خطيبتك أيضًا؟”
ربّت مارك على كتف إيثان، الذي ارتسمت على وجهه ملامح امتعاض.
“ألست ذاهبًا؟”
“إلى أين؟”
“هذا الولد، يتغابى الآن؟ أعني إلى بيت إدوارد الريفي.”
كان ذلك منذ زمن بعيد.
حين كان كلٌّ من إيثان ومارك لا يزالان صبيَّين صغيرَين، في عهد والدِهما ويليام كينوولف، حين كان هو ربَّ الأسرة.
كان دوق روبين يقع في موقعٍ جغرافي غير بعيدٍ عن العاصمة، مما يجعله، من الناحية الإستراتيجية، يشكل تهديدًا محتملاً لأمن الإمبراطورية.
ولذا، انتهز الإمبراطور غياب ملك الدوقية، وسار مع ويليام يقودان الجيش الإمبراطوري لغزو أراضي الدوقية.
وقد تكللت الحملة بالنجاح.
إذ خضعت الدوقية للإمبراطورية، ونُفِيَت إلى أقاصي حدودها النائية.
وبمكافأة على ذلك، منح الإمبراطور دوق كينوولف جزءًا من أراضي الدوقية، بالإضافة إلى بيت “إدوارد” الريفي.
ومنذ ذلك الحين، كانت عائلة إيثان تزور ذلك المكان من حين لآخر خلال فصل الصيف، لكن بعد رحيل والده، ما عادت تطأه أقدامهم…
وكانت زيارة والدته له الآن أمرًا غير مألوف.
“لقد مرّ وقتٌ طويل منذ أن ذهبت إلى هناك.”
“في العاصمة، لا بد أن العيون تترصّدها.”
“ألم تُصرّ والدتي على أن تكون الآنسة رِيدِين وصيفة مرافقة لها؟”
“الوصافة مجرد ذريعة، هي تنوي إبقاءها بجانبها حتى لا تفكر بشيء سوى الزواج.”
“تفكر بشيء آخر؟”
مرّر إيثان لسانه على ضرسه الخلفي، وأرجع جسده إلى الوراء.
التفكير بشيء آخر، حسبما يرى، هو أن تلك الفتاة لا يشغلها الآن سوى كيف تجعل زواجها أكثر نجاحًا.
ولهذا جاءت إلى هناك، في تلك الليلة، قبل أن يُعقد الزواج حتى، قلقةً عليه خشية أن يصيبه مكروه.
امرأة دقيقة الحسابات، ذكية.
لا بأس بذلك. فهو بحاجة إليها، وهي بحاجة إليه.
فقط، ما زالت تلك الليلة تطارده… تلك التي ظنَّ فيها أنه نال شيئًا من الحظ واللطف غير المتوقع في حياته المرسومة بمسارٍ ثابت.
غير أن ذلك الشعور قد تلطّخ.
كان يظنها تبتسم كأوراق الشجر الندية في نسيمٍ عليل… فإذا بالنوايا الخفية تنبعث من خلف تلك الابتسامة. بل حتى كلماتها اللطيفة كانت محسوبة.
وحين ظلّ صامتًا، متجهم الوجه، عاجله مارك قائلاً:
“فهل ستذهب أم لا؟”
“إلى هناك؟ لا، لن أذهب.”
“والدتي قالت إنها ستذهب أولًا لترى إن كان هناك تقصير في إدارة البيت الريفي، لكن الإمبراطورة استدعتها فجأة.”
“مرّ وقت طويل على ذلك أيضًا. لأي سبب؟”
هز مارك كتفيه.
“لن نعلم حتى نراها. ويبدو أن مهمة الإرشاد صارت من نصيبي.”
بما أنّ والدته لم تتمكن من الذهاب أولًا، فلا بد من وجود من يرافق الآنسة ماكاري في مكان غريب عنها، حتى لا تشعر بالخوف.
وكان من الأفضل أن يكون خطيبها هو من يرافقها، لكن النظر إلى وجه إيثان المليء بالضيق كفيل بجعل ذلك مستحيلًا.
“آه، صحيح.”
قالها مارك فجأة، وكأنه تذكّر أمرًا كان سينساه.
“أفكّر في أن أهديها زهورًا. أنت رأيتها، فلا بد أنك تعرف ما الزهرة التي تليق بها.”
“زهور؟ أي زهور…”
أبدى إيثان امتعاضًا، لكنه تذكّر في تلك اللحظة زهرة واحدة.
كانت عيناها الزرقاوان، اللتان تظهران لمحات منهما تحت غطاء الرأس، تُشبهان تلك الزهرة.
زهرةٌ نادرة، أحضرها والده لوالدته عندما كان صغيرًا.
كانت زهرة الخشخاش الأزرق، إن لم تخني الذاكرة. لكنها سرعان ما ماتت.
لقد ظنّوا أن زراعة زهرة جبلية نادرة في بيت زجاجي رطب وحار فكرة جيدة… لكن الزهرة ما لبثت أن ذبلت، كأنها تصرخ من العذاب.
تذكّر حينها والدته، وهي تتجول في القصر متعبة القسمات، كمن يحمل ذنبًا على كتفيه، بسبب ما حدث للزهرة أمام والده.
ابتسم إيثان قليلًا لذلك، لكنه سرعان ما شدّ على شفتيه.
“تلك الفتاة ستتكيف جيدًا. أظنها جاءت لهذا الغرض أصلًا.”
“قاسي القلب، بحق.”
قالها مارك وهو ينهض من مقعده، ثم نقر خدّه بأطراف أصابعه.
يشير إلى أن الهالات السوداء أسفل عيني إيثان وصلت إلى هذا الحد.
“عيناك قد عادت لهما الهالات من جديد. عندما أراك بعد زيارتك للبيت الريفي، قد أراك منهارًا تمامًا.”
قطّب إيثان جبينه، بينما غادر مارك الساحة متهكمًا.
وبعد رحيل شقيقه، استند إيثان بجسده إلى ظهر المقعد، وأمال رأسه إلى الوراء.
أخذ يراقب السماء التي كانت تسير بهدوء وسكينة.
ثم خطرت له فكرة، أن عيني تلك الفتاة لم تكونا تمامًا بلون زهرة الخشخاش الأزرق، بل أفتح.
أشبه بلون السماء تلك… كأنها تغتسل بالماء.
“…”
في الأيام الأخيرة، استطاع النوم بعمق… لكن ها هو يجد صعوبة مجددًا في أن يُغمد جفنيه.
كان إيثان مغمض العينين، ورأسه مائل إلى الخلف، ثم فتحهما ببطء وهو يتلفّت حوله.
كان الجو باردًا.
نسيم الربيع، الذي لم يتخلّص بعد من بقايا الشتاء، كان يهبّ فوق قميص الكتّان الرقيق الذي يرتديه، فتسرّب البرد إلى جسده.
من بعيد، ركض ستانلي نحوه، بعد أن استلم معطفه من أحد الخدم، وعلى وجهه نظرة تساؤل كأنما يقول: “ما الذي يفعله سيدي؟”
“في مثل هذا الطقس، لماذا لم تخرج مرتديًا المعطف منذ البداية؟”
“لم أظن أنني سأمكث طويلًا.”
أخذ إيثان المعطف من يده وشرع بارتدائه على الفور.
لكنّه لم يتمكن من ارتدائه، إذ سرعان ما نزعه ثانية.
كان ضيقًا بشدة عند الصدر والكتفين والعضدين، حتى إنه شعر وكأنّه سينفجر إن أجبره على جسده.
كان ذلك المعطف مما ارتداه آخر مرة قبل ذهابه إلى ساحة المعركة.
وعلى مدار ثلاث سنوات من الحرب، ازدادت بُنيته صلابة وقوة، وهو السبب في أن جسده ما عاد يتّسع له.
نظر إلى عضلاته المتضخّمة وهمس لنفسه:
“هل نَمت؟”
“ماذا؟ أتنمو أكثر؟ لستَ مراهقًا في طور النمو يا سيدي!”
“النمو في أوقات محددة لا ينطبق سوى على الناس العاديين.”
شدّ إيثان كتفيه والتفّ بالمعطف الضيق بصعوبة، حتى غطّى به الجزء العلوي من جسده، ثم ابتسم برضى.
“يبدو أننا بحاجة لاستدعاء الخياطة.”
“الخياطة؟”
في قصر دوق كينوولف، يوجد خياط مخصص يعمل فقط لأجل أفراد العائلة.
لكن ستانلي هزّ رأسه نافيًا.
“لا وجود له هنا الآن. الخياطة غادرت إلى بيت إدوارد الريفي بناءً على أوامر الدوقة. يبدو أنها تنوي الإقامة هناك لبعض الوقت لتصميم ملابس جديدة للآنسة ماكري.”
فتح إيثان فمه بدهشة، دون أن يدري.
هل أخذت والدته معها حتى الخياطة الشخصية الوحيدة للعائلة؟.
هبت نسمة باردة مرة أخرى.
شدّ المعطف أكثر حول جسده ليغلقه عند صدره، لكن الهواء تسلّل إليه من الفتحات، وجعله يرتجف.
“أحضر لي رداء النوم.”
“رداء النوم؟! يا سيدي، لو كنت تفكر في الوقار، فهذا النوع لا يُلبس عند النوم في الهواء الطلق!”
“كلامك كثير.”
“أوه، صحيح. نسيت أنك لا تعرفون الوقار أصلًا.”
غادر ستانلي يتمتم ساخطًا ليحضر الرداء، فيما همس إيثان لنفسه:
“أحتاج إلى ملابس.”
❈❈❈
ليست الخياطة وحدها من رافقت والدته إلى هناك.
في قصر كينوولف، هناك فريق مكوَّن من ستة أشخاص مخصص بالكامل للعناية بمظهر العائلة، وقد تم استدعاء أربعة منهم الآن إلى بيت إدوارد.
الطقم ضمّ: الخياطة ساراوان، ومساعدتها في التفصيل، ومصممة المجوهرات تيفاني، وصانع الأحذية مينولو.
أما الاثنان المتبقيان، وهما خبيرة العناية بالبشرة ومصففة الشعر، فقد قيل إنهما سيلحقان قريبًا بالدوقة في الفيلا.
وهكذا، فقد اجتمع فريق الجمال الستة التابع لعائلة الدوق بأكمله.
بينما كان الخدم يفرغون الحقائب، اجتمع الأربعة في غرفة الاستقبال لاحتساء الشاي وتبادل الحديث.
كانت أول من فتحت باب الكلام هي تيفاني، صانعة المجوهرات.
“لم أكن أعلم أن لعائلة الدوق بيتًا ريفيًّا كهذا. إنه قريب جدًّا من العاصمة! لماذا لم تأتِ السيدة إلى هنا من قبل ولو لمرة؟”
أما مينولو، صانع الأحذية، فكان الرجل الوحيد بينهم، وأكبرهم سنًّا، كما كان الأكثر حساسية لالتقاط التغيرات الخفية في الأجواء.
أخذ يفرك لحيته البيضاء ببطء وقال:
“من شعوري… يبدو أن من الأفضل لنا أن نبقى جاهلين. من المؤكد أن الحديث عن هذا المكان قد طُرح في السابق، لكن لم ينطق أحد من خدم القصر بكلمة بشأنه، أليس في ذلك دلالة؟”
“حقًّا يا مينولو؟ إن كنت ترى الأمر كذلك، فلا بد أن الأمر كما تقول.”
وبينما هما يرتشفان الشاي، قالت ساراوان وقد بدّلت الموضوع:
“لكن، من تكون تلك الفتاة يا ترى؟ من تكون تلك التي استدعتنا جميعًا لتزيينها من رأسها حتى أخمص قدميها؟”
قبل مغادرتهم القصر، سأل الأربعة السيدة الدوقة عن هوية الفتاة، لكنها اكتفت بابتسامة غامضة، وقالت:
“من تكون؟ إنها ابنتي… كح–، لا… ستعرفون عند وصولكم.”
حينها، رفعت الخياطة المساعدة فيل يدها بتردد وقالت:
“سيدتي، لا يمكننا أخذ كل أقمشة القصر معنا. أرجو أن تذكروا لنا على الأقل لونًا يناسبها، أو فكرة عن طلتها، حتى نتمكن من انتقاء الأقمشة والمجوهرات بما يليق بها.”
فأجابتها الدوقة بابتسامة لا تُقرأ، وبلهجة مرحة:
“كتكوتة.”
__________________________________________
•فضلاً ضع نجمه واكتب تعليق يشجعني على الإستمرار!!⭐•
حسابي على الإنستا:
@empressamy_1213
حسابي على الواتباد:
@Toro1312
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 13"