“السيّد مارك، نرحب بعودتكم إلى القصر بعد غياب طويل.”
كانت أصوات الخدم الذين سبقوه إلى الوصول ترحب به بحرارة.
أما رِيدِين، فبقيت في العربة، تُحرّك أصابع قدميها داخل الحذاء في توتر. وعندها امتدت نحوها يدٌ مرتدية قفازًا.
“أتسمحين لي بمساعدتك على النزول؟”
“شكرًا جزيلًا.”
أمسكت رِيدِين بيد مارك الممدودة ونزلت بحذر.
خلف الخدم المنتظمين في صفّ، لفت المبنى الحجري البيج انتباهها أولًا.
“إذًا، هذا هو القصر الصيفي…”
كونه مكانًا لم يُذكر في الرواية، زادها دهشة وفضولًا.
وما لفت نظرها بعد ذلك، كانت نظرات الخدم الفضوليّة، الذين بدا عليهم التساؤل عن هوية الفتاة التي رافقت السيّد مارك في العربة.
كيف يجب أن أُعرّف بنفسي؟.
لم يخطر في بالها وصفٌ مناسب، فترددت، وعندها تقدّم مارك واقترب منها، ووضع يديه بلطف على كتفيها قائلاً بصوت يسمعه الجميع:
“إنها شخص مهم للغاية. عاملوها بكل إحترام. هل هذا واضح؟”
“نعم، سيدي.”
وبهذا التعريف الأحادي الجانب، مدّ مارك يده لها مجددًا ليقودها نحو القصر.
قال وهو يقف أمام الدرج:
“أخشى أن حذاءك قد يزعجك أثناء الصعود.”
على عكس المباني المعتادة التي تبدأ من الطابق الأرضي، يبدأ القصر الصيفي من الطابق الثاني، ولا بد من صعود الدرج أولًا.
“لا بأس يا سيّدي. لا يبدو عاليًا جدًا.”
ابتسم مارك بلطف، بتلك الطريقة الوديّة التي لازمته طوال الطريق، ثم اقترب منها وهمس:
“لو كنتُ أنا من سيتزوج بكِ، لحملتُكِ بين ذراعي وصعدت بكِ الدرج.”
شقيق خطيبي المستقبلي يبدو شخصًا لطيفًا… لكنه أيضًا يهوى المزاح الخطير.
ردّت رِيدِين بارتباك:
“أجل… يبدو ذلك حميمًا فعلًا، لو كنّا على وشك الزواج.”
“هاها، لكن بما أنّ الأمر ليس كذلك، فسأكتفي بإمساك يدك جيدًا.”
وما إن دخلا المبنى حتى سأل مارك أحد الخدم الذين تبعوه:
“أين ذهب من سبقنا من وفد والدتي؟”
“لقد أُرشدوا إلى غرفة الاستقبال حتى يتم الانتهاء من ترتيب الأمتعة، سيدي.”
في هذه الأثناء، كانت رِيدِين تتفقد المكان بعينيها.
قصر عائلة الكونت في العاصمة كان مذهلًا، لكن هذا القصر الصيفي بدا أضخم وأكثر فخامة من نواحٍ عدّة.
ترى، كيف ستكون القصور الرئيسية في أملاك الكونت أو الدوق؟ لا بد أنها مذهلة…
سرحت قليلاً، إلى أن ناداها مارك:
“آنستي، هل تشعرين بالتعب؟”
“أعتقد أنّني بخير، في الواقع.”
حين ركبت العربة للمرة الأولى في حياتها متجهةً إلى العاصمة، شعرت وكأنّ ظهرها سيتفكك، لكنها بدت متأقلمة اليوم.
ابتهج مارك بردّها وقال:
“فلنمرّ على غرفة الاستقبال أولًا، ثم نصعد إلى غرفتك. من هنا، تفضلي.”
“غرفة الاستقبال؟”
“نعم، هناك من أعدّهم والدتي لأجلك.”
لكن ما إن سمعت رِيدِين كلمة “والدتي”، حتى توقفت فجأة عن السير.
أشخاص أعدّتهم حماتي المستقبلية لأجلي؟.
بدأ صداعٌ مبكر يغزو رأسها، فأمسكت بقبضتها بشدة على باقة الأقحوان التي تحملها.
“هل هناك ما يزعجك؟”
“لا… لا بأس….”
انحنى مارك قليلًا ليلاقي عينيها، فحاولت رِيدِين أن ترسم ابتسامة مصطنعة على شفتيها.
اتفقنا أن نتحمّل لأسبوعين فقط، أليس كذلك؟ اصبري يا رِيدِين.
بصوت خافت، تبعت مارك الذي بدا مبتهجًا قليلًا:
“فلنذهب إذًا…”
❈❈❈
في غرفة الاستقبال، تبادلت “فرقة الأناقة الرباعية” النظرات حين رأوا من دخل.
هل هذه هي الكتكوتة؟.
لا… لا تبدو كذلك أبدًا.
هل هذا ما اختارته الدوقة؟ هل هذه… هي؟.
كانوا جميعًا يعملون لصالح سامانثا كينوولف، دوقة ذات شهرة عابرة للقارات، أصلها من الإمبراطورية الغربية، والتي أتت إلى الإمبراطورية الشرقية بعد زواجها من الدوق السابق.
اشتهرت سامانثا منذ شبابها بذوقها الاستثنائي الذي لا يرضى سوى بالجمال الحقيقي، وكان جميع المصممين يتوقون لنيل رضاها.
فقط قطعة واحدة ترتديها من مصممٍ صاعد، كفيلة بأن تجعل حجوزاته ممتلئة لعامٍ كامل.
ولذا، كان سبب انتقال “فرقة الأناقة الرباعية” إلى الشرق والعمل تحت لواء الدوقة هو فخرهم الكبير بكونهم من اختيار سامانثا نفسها.
لكن الآن…
هل يُعقل أنّها كبرت وخفّ حِسّها الجمالي؟.
تساءلوا وهم يحدقون في الشابة التي وقفت أمامهم.
شعرها الأحمر المائل إلى البرتقالي مصففٌ بشكلٍ مبالغ فيه، وقد بدت أقرب إلى “دجاجة مرفوعة العُرف” أكثر من “كتكوت أصفر ناعم”.
وبينما هم يتبادلون نظرات الامتعاض، تقدّمت الشابة بانحناءة مهذبة وقالت:
“أظن أنكم من أقرب المساعدين إلى الدوقة؟ لعلكم سمعتم باسمي من قبل، لكن سأقدّم نفسي مجددًا. أنا هينزي دولومي.”
“… ن-نعم.”
في الواقع، لم يسمعوا بهذا الاسم من قبل، لكنهم أومأوا احترامًا.
كان في حركاتها الافتعالية لمسة مبالغة، حتى في هذا التعريف البسيط، ما جعلها أبعد ما تكون عن تلك “الكتكوتة الرقيقة” التي رسموها في خيالهم.
حين نتخيّل كتكوتًا، لا نفكر في واحدٍ يلتفّ بجسده ويتصنّع الإغراء… أبدًا…
لم يكن بين أفراد فرقة الأناقة الرباعية من يشك في ذلك.
لكن ثقة هينزي دولومي الزائدة بنفسها جعلتهم يترددون.
قالت، وهي تضع ذراعها على خصرها وتبتسم بثقة:
“هل انتهيتم من تذوّق الشاي؟ حسنًا، فلننتقل إذًا.”
“إلى أين، تقصدين؟”
“إلى أين؟ بالطبع إلى غرفة البودرة. ألم تأتوا من أجل حفل تقديمي؟ لقد جهزت الغرفة مسبقًا، يمكنكم العمل فيها من الآن.”
“…”
“ربما لم تنتهوا من شرب الشاي بعد؟ لا بأس، سأنتظركم حتى تنتهوا.”
فأخذ الأربعة يحتسون الشاي ببطء، محاولين كسب بعض الوقت.
كان حدسهم يقول إن هذه المرأة ليست “الكتكوتة” المقصودة، لكنهم لا يملكون طريقة للتحقق، لذا لم يكن أمامهم سوى انتظار من يعرف الحقيقة.
قالت هينزي، وقد ضاقت صبرًا:
“أنتم تأخذون وقتًا طويلًا في شرب الشاي. على كلٍ، استمروا. سأذهب لأنجز أمرًا ما وأعود لاحقًا.”
ثم غادرت غرفة الاستقبال وأغلقت الباب خلفها بقوة.
–طَرق…
دخل مارك بعد أن طرق الباب بخفة ودفعه بكل جرأة.
وفور دخول الباب، انقطعت جميع الأصوات داخل الغرفة، ولم يعد يُسمع سوى صوت ارتطام فناجين الشاي بالأطباق.
دخلت رِيدِين بحذر خلف مارك.
“…”
كانت هناك أربعة وجوه قد نهضت للتو وتنظر إليها بثباتٍ شديد.
من يكون هؤلاء؟.
نظرت إلى مارك بطرف عينها، متأملة أن يقدّمها نيابة عنها، لكنه اكتفى بابتسامة هادئة فقط.
… حسنًا. لا حاجة لأن أخاف مسبقًا.
تقدمت بخطى خفيفة، ثم انحنت قليلًا بابتسامة لطيفة:
“تشرفت بلقائكم. اسمي رِيدِين ماكري.”
ورغم أنها بادرت بالتحية، ساد الصمت التام.
‘هل قلتُ شيئًا خاطئًا؟.’
نظرت إلى مارك مجددًا برجاء، لكنه ما زال يكتفي بالابتسام الغامض.
عندها، فجأة، صاحت سيراوان وقد كانت تحدّق في رِيدِين بتركيز:
“فيل! الـ… الـ… دفتر الرسومات! بسرعة!”
“هاه؟”
سارع مساعدها فيل، وكأن هذا أمر متوقع، وأخرج من مكانٍ ما دفترًا كبيرًا وسلمه لها.
–خشخش، خشخش…!
أخذت سيراوان ترسم بلا توقف، وكأنّ وحيًا حلّ بها.
حتى مينولو، صانع الأحذية، والذي كان يقف كمن تاه عن الواقع، اندفع وسحب ورقة من الدفتر ليبدأ هو الآخر بالرسم، بأنفه يكاد يلامس الورقة.
أما تويفاني، مصممة المجوهرات، فقد ظلت تحدق في عيني رِيدِين بصمت.
فهي من النوع الذي لا يفرغ إلهامه مباشرة على الورق، بل كانت تراقب اللحظة وتحتفظ بها في ذاكرتها كما لو كانت تلتقط صورة.
حين نظرت في عيني رِيدِين، اللتين كانت تخفض نظرها بخجل، خطر ببالها حجر التوباز الأزرق الشفاف، ليس ذاك البارد والقاسي، بل الدافئ، الذي يشع وهجًا ناعمًا كما لو أنّه مشبع بضوء “الساعة الذهبية” قبيل الغروب.
لقد دخلت رِيدِين كأنها مكللة بذلك الضوء، ذلك الدفء الذي يسبق نهاية اليوم.
“لونٌ دافئ بحق…”
همست تويفاني بعدما نقشت تلك الصورة في ذهنها.
وفي هذه الأثناء، اندفعت سيراوان نحو رِيدِين وهي تصيح:
“أنتِ الآن ما كان يجب أن ترتدي هذا! كان عليك ارتداء الأبيض، فقط الأبيض! لا شيء آخر يليق بك الآن، ما عدا لونك الطبيعي! لماذا ترتدين هذا الزي؟!”
“ماذااا؟”
شهقت رِيدِين، وتراجعت خلف مارك، مذعورة.
لم تكن تدري ما يجري، وما بدا لها سوى أن هذه المرأة مجنونة تمامًا.
“هااه… طبعًا، ليس الجميع يفكر كما أفكر. لكنك فتاة متسامحة، أليس كذلك؟ أن تضحكي بهذا الزي الذي لا يُظهر أيًّا من جاذبيتك… أليس هذا أمرًا عظيمًا؟”
“ما الذي تعنينه؟ لا أفهم…!”
سحبت رِيدِين كُمّ مارك وهمست له برجاء:
“سيدي، هل تشرح لي ما الذي يحدث؟”
كانت مستاءة منه؛ لقد أتى بها إلى هنا، والآن يقف مكتفيًا بالصمت والابتسام.
عندها، رفعت فيل، مساعدة سيراوان، يدها وقالت:
“عذرًا، أليس هناك مسألة علينا التأكد منها أولًا؟”
فجأة، اجتمع انتباه الجميع إلى مارك.
سألته فيل:
“هل هذه… الكتكوتة؟”
تحولت نظرات مارك إلى رِيدِين، ثم ابتسم بخفة، وقبل أن ترتفع زاوية فمه أكثر، كبَحها وأجاب:
“الكتكوتة.”
ماذااا؟! كفوا عن تجاهلي! أشعر أنني مستبعدة من الحديث!
عبست رِيدِين وهي تراقبهم يتبادلون أحاديث لا تفهمها.
ثم فجأة…
–صرير…
دُفِعت الباب برفق، وعادت المرأة التي غادرت قبل قليل إلى الغرفة.
__________________________________________
•فضلاً ضع نجمه واكتب تعليق يشجعني على الإستمرار!!⭐•
حسابي على الإنستا:
@empressamy_1213
حسابي على الواتباد:
@Toro1312
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"