ــ “كنت أفكر في مسابقة التزلج على سطح الماء مع الآنسة هايد. منظر الماء أعاد لي ذكرى تلك الهزيمة المذلة.”
قهقهت لورا برقة:
ــ “لقد كانت مسابقة مثيرة.”
ــ “وكيف حال الآنسة هايد؟”
ــ “يبدو أنها بخير. أرسلت لي رسالة تخبرني أنها تلقت مكافأة خاصة بعد إنهاء مخطوطة ماري لوتيس. وأهدتني بروشًا صغيرًا من اللؤلؤ.”
ــ “هذا رائع. حسناً، السيدة التي تستطيع أن ترمي حجرًا خلف الأفق يمكنها أن تفعل أي شيء.”
ــ “أتمنى ذلك. في الحقيقة، سمعت أن الناشرين يناقشون توظيفها كمحررة بدوام كامل بدلًا من عملها كناسخة. هناك معارضة من بعض المديرين، لأنّه لا يوجد سابقة لامرأة محررة، لكنني أظن أنها ستبرع. فهي ثاقبة البصيرة مثل أي رجل في مجال الكتابة.”
ــ “سواء أصبحت الآنسة هايد محررة أم لا، فهذا لا يعتمد على كفاءتها، بل على بصيرة الناشر. وإن لم يتم قبولها، فعليكِ أن تنصحيها بترك العمل. لا فائدة من البقاء في مكان لا ينصفك.”
ــ “أعتقد أن السيد فيرفاكس يوافقك الرأي. لديه بالفعل قائمة طويلة من دور النشر التي ينوي ترشيحها لها إن فشلت ترقيتها.”
ــ “دعك منه، فهو في النهاية طفل مشاكس.”
مدح السيد دالتون صديقته بنبرة ساخرة، فانفجرت لورا ضاحكة.
وفجأة دوّى صوت الرعد في السماء.
رفعت عينيها، فإذا بسحب داكنة تتجمع بسرعة في سماء كانت صافية تمامًا قبل لحظات.
تلاقت نظراتهما، وظهر خيط من الخيبة على وجهيهما.
بسرعة، نزع سترته ووضعها فوق رأس لورا.
كانت كبيرة بما يكفي لتغطي كامل جزعها العلوي.
وسرعان ما بدأت قطرات المطر تتساقط على سطح البحيرة.
شدّ هو طرف السترة المفتوحة، وسألها:
ــ “هل حذاؤك مناسب للركض؟”
أومأت لورا. فقد اعتادت ارتداء أحذية قوية ذات نعل مطاطي في نزهاتها.
وما لبث أن ظهر كوخ صغير. كان بيتًا متينًا من خشب البلوط، ذو سقف مثلثي. دخلا إليه.
نزعت لورا السترة عن رأسها وألقتها على كتفها، تتأمل المكان الذي بدا مهجورًا.
الداخل مظلم، بلا أثر لنار، الكراسي متناثرة، والمائدة يغطيها غبار كثيف.
قال:
ــ “هنا كانت تعيش أسرة حطّاب. مات الأب، وانتقلت زوجته للعمل خادمة في لندن. ومنذ ذلك الحين ظلّ مهجورًا. المكان متّسخ قليلًا، لكن لنمكث حتى ينتهي المطر.”
رفع أكمامه، حطم كرسيين خشبيين قديمين وألقاهما في الموقد.
ثم أخرج علبة كبريت من جيبه، وأشعل نارًا سرعان ما أضاءت العتمة.
حدّقت لورا فيه باندهاش.
كان مبللاً، قطرات الماء تنساب من شعره، وملامح جلده الشاحب تلمع تحت قميصه الرقيق المبتل.
كان الجو باردًا، أنفاسهما بخار أبيض في الهواء، ومع ذلك ظلّ مبتلًا بالكامل. شعرت لورا بقلق عميق على صحته.
أما هو، فبشيء من الانزعاج، خلع سترته الداخلية المبللة ووضعها على الطاولة.
جرّ كرسيًا، مسحه بمنديل من جيبه، فصار المنديل أسودَ كالفحم. ثم وضعه بدقة على الطاولة وجلس قبالة النار.
وأشار لها برفق:
ــ “اقتربي.”
اقتربت ببطء، فجلسها بجانب الموقد، وأزاح السترة الرطبة عن كتفيها.
تفحّصها بعينيه، فرأى أن ملابسها نجت تقريبًا من البلل، سوى طرف ثوبها الذي أصابه شيء من الماء.
ثم نهض ليكسر مزيدًا من الكراسي، ويغذّي النار. سرعان ما امتلأ الكوخ بدفء لطيف.
مدّت له لورا شالها الأسود.
ــ “جفف نفسك.”
هز رأسه:
ــ “لا أريد أن أفسد شال الآنسة بندلتون.”
قالت مبتسمة:
ــ “إنه شال رخيص ابتعته بخمسة بنسات من سوق البراغيث في لندن. لا بأس إن تخلصتُ منه الآن. الأهم أن لا يمرض صديقي العزيز.”
ابتسم برفق وقبله منها، وجفف وجهه وعنقه وذراعيه.
ثم قال:
ــ “لن ترغبي في ارتدائه بعد الآن. سأهتم به وأشتري لك غيره.”
وافقت لورا بصمت.
جلس على سترته التي وضعها أرضًا، بينما قطرات المطر تضرب جدران البيت الخشبي بعنف.
نظرت لورا من النافذة. السماء التي كانت مشرقة قبل نصف ساعة، صارت داكنة كالمساء. بدا أن المطر لن يتوقف قريبًا.
تنهدت:
ــ “ما كان عليّ أن أتجاهل إشارة يدي.”
بينما كانت تداعب يدها اليمنى المتألمة، جلس هو صامتًا يتأمل النار، وفي يده علبة سجائر فضية، يفتحها ويغلقها بلا توقف.
قرأت لورا نفاد صبره من حركته.
ــ “هل ترغب في التدخين؟”
ابتسم:
ــ “قليلًا.”
ــ “إذن دخّن.”
ــ “ليس أمام السيدات.”
ــ “لا بأس أمام صديقة.”
ــ “لا أريد أن ألوث الهواء الذي تتنفسينه.”
ومع ذلك ظل يعبث بالعلبة بعصبية. ثم قال متنهّدًا:
ــ “التدخين عادة سيئة في كل الأحوال. يضر صاحبه والآخرين. لو رزقت ابنًا يومًا، فلن أعلّمه التدخين أبدًا.”
ــ “هل كان والدك هو من علمك التدخين؟”
أومأ برأسه:
ــ “كنت في الخامسة عشرة. حين عدت في العطلة، استدعاني إلى مكتبه. بدلًا من أن يربت على رأسي كما اعتاد، صافحني وقدّم لي سيجارًا. منذ ذلك الحين، كنت أجلس معه كل عطلة، ندخن ونتحدث كرجال ناضجين عن شؤون العمل.”
قالت لورا بهدوء:
ــ “أظنه أراد أن يُدخلك إلى عالم الكبار.”
ــ “لابد أنه كذلك. في ذلك العمر بدأت أستعد جديًا لوراثة عائلة دالتون. مات والدي، لكن بقي السيجار والعائلة… وهذه العلبة.”
هزها برفق في يده.
ــ “كانت هدية والدي لي عند دخولي كامبريدج.”
ابتسمت لورا:
ــ “إنها رائعة.”
ــ “أجمل هدية تلقيتها منه. حملتها معي في كل مكان منذ أيامي في الجامعة. لكني لو كنت مكانه، لفضّلت أن أذهب للصيد معه بدلًا من التدخين.”
انفجر حطب النار وسط صمت المطر.
تمتمت لورا:
ــ “أحسدك على ما تركه لك والداك. أما أنا، فلم أرث منهم شيئًا… لا عادات، لا ذكريات، لا هدايا.”
أجابها برفق:
ــ “أنتِ نفسكِ ميراثهم الحقيقي.”
ابتسمت بمرارة:
ــ “لكن داخلي لا يحمل شيئًا منهم. فقط أشياء لا صلة لها بهم.”
بدت عيناه كأنهما تسألانها.
وربما دفء النار وصوت المطر أرخيا لسانها، فانطلقت كلمات لم تقلها لأحد من قبل:
ــ “لم أعد أظن أن حب والديّ كان حماقة. أتعاطف الآن مع رغبة أمي في الهروب من عائلة بندلتون. وأعلم أن والدي حاول أن يتحمل عواقب اختياره. لكن، حتى لو واجهتُ نفس المصير، فلن أختار مثلهم. ليس لأنهم أخطأوا… بل لأني لست ذلك النوع من الأشخاص.”
التعليقات لهذا الفصل " 96"