⚠️لا تجعلوا قراءة الروايات تلهيكم عن الصلاة وعن ممارسة الشعائر الدينية😁
زارت لورا وايتفيلد مرة واحدة كل أسبوع بعد ذلك، غالبًا أيام الأحد. كانت تحضر الصلوات التي يقيمها القس ستار، ثم تتناول الغداء في بيت القس أو في قاعة وايتفيلد، وبعدها تتجول في الغابات والحقول وضفاف النهر في وايتفيلد. وكان ألبوم لوحات والدها لا يفارق يدها.
فهو المكان الذي قضى فيه والدها أيامه الأخيرة، وأكثر ما رسم فيه، وهو المكان الذي أحبه أكثر من غيره، حيث دُفن جسده الفتيّ في النهاية.
ومع هذا الرابط بوالدها، تغيّرت نظرة لورا إلى وايتفيلد. فبعد أن كان لا يعدو أن يكون مجرد ضيعة صديق عزيز وقرية ريفية حالمة الجمال، صار بالنسبة لها أقدس وأغلى مكان في العالم. وكأنها حاجّة تتبع خطى قديس عظيم، كانت تستشعر أنفاس والدها في أرجاء وايتفيلد، ماضيةً خلف أفكاره ومشاعره.
كان السيد دالتون دائمًا إلى جانبها، يخشى أن تضل الطريق، ولورا كانت تتقبل لطفه بسهولة.
كان يتبعها بصمت، كالظل أو كالهواء، وجوده محسوس وغير محسوس في آن. وحين كانت تحدد المشهد في اللوحة وتسأله إن كان هو، كان يجيب، وإذا استفسرت منه، شرح لها اللحظة التي كان يرسمها.
ومن خلال صوت إيان، كانت لورا تتصور أبًا لم تره من قبل: يجلس على جذع شجرة أو على صخرة أو على عشب أخضر، ساعات طويلة وهو يرسم. النسيم الأبيض في وايتفيلد يعبث بخصلات شعره الأشقر الناعم، وعنقه الرقيق يطل من فتحة قميصه منحنياً نحو دفتر الرسم، وأصابعه الدقيقة تنقل على الورق جزءًا من السماء أسرَهُ ببصره.
جمال شبابه، جمال يكاد يبكي العين.
كانت لورا تجلس على الجذوع أو الصخور التي جلس عليها والدها، تحدّق في المناظر ذاتها بعينيه، وتجد الجنة في كل مرة.
إن الطبيعة الساكنة الهادئة في وايتفيلد كانت عملًا فنيًا عظيمًا، صاغه الله بعناية وإبداع. كانت تستشعر عظمة الله في النسيم المعطَّر، وتسمع إبداعات خلقه في زقزقة الطيور البعيدة.
بالنسبة للورا، كان وقتها في وايتفيلد أشبه بلحظة من السماء.
وفيما كانت لورا تعيش سماءها، كان إيان يعيش سماءه هو الآخر. المشي منفردًا مع لورا في وايتفيلد… كم تمنى ذلك! وكم حلم بأن يرافقها بلا خوف من أن تُفضَح مشاعره الحقيقية! كان يظن أن الزواج وحده قادر على منحه تلك الفرصة، لكن الفرصة جاءت كهدية غير متوقعة.
وكان ممتنًا للملاك الذي حقق أمنيته، والملاك لم يكن سوى أستاذه، لويس شيلدون.
ذلك الأستاذ الذي صبّ كامل حبه على تلميذه اليتيم، فعلّمه كل ما يعرفه وفتح له قلبه، ربما لأنه كان يتألم لرؤية صبي، يقارب عمر ابنته، ينشأ بلا أم.
كبر إيان وهو يدرك عمق ذلك الحب. ولطالما أيقن أنه لولا شيلدون لكان أصبح منطويًا مكتئبًا.
لكن ابنته لم تكن إلا الآنسة بندلتون.
لم ينسَ لحظة إغماء لورا بين ذراعيه. في ذلك اليوم، لم يذهب إلى المقبرة إلا ليرى وجه لورا مرة أخرى وليجد عذرًا جديدًا لدعوتها إلى وايتفيلد. لكن الحادثة فجّرت الحقيقة.
في البداية صُدم، ثم تساءل: لماذا لم أدرك الأمر منذ وقت أبكر؟ ففي ذاكرته، كان السيد شيلدون دائمًا رقيقًا، حنونًا، حكيمًا. وقد ورثت الآنسة بندلتون ذلك منه.
كان إيان يؤمن دائمًا أن ارتباطه بلورا قدر. وأن لقاؤه بها وحبّه لها عناية إلهية. لقد كانت القفاز الذي صُنع ليده وحده. وكونه لم يلتفت إلى أي امرأة قبلها، لم يكن سوى ليصل إليها.
م.م: فعلا 😭😭😭😭
وبمجرد أن عرف أن لورا هي ابنة شيلدون، رسخ ذلك الاعتقاد في داخله كأنه نقش على حجر:
«هذه المرأة وحدها ستكون رفيقة عمري، وسيدتي الأبدية.»
كان يحدّق في لورا وهي جالسة على جذع شجرة، بهية كالملاك، تصغي للريح، ويقول في نفسه:
«أستاذي، الملاك، أهدى ابنته إليّ. اجعلها شريكتي الثمينة. سأردّ لك الدين بأن أجعلها أسعد النساء.»
كان حبه المتقد يتفجر أكثر فأكثر، حتى تجاوز حدود السيطرة البشرية.
لورا. لورا بندلتون. لورا شيلدون. المرأة الحبيبة التي لم يستطع إلا أن يعشقها. المرأة الوحيدة التي عرفها قلبه، والتي ربطه بها خيط القدر.
أراد أن يسقط عند قدميها، أن يمنحها كل شيء. كان سيبيع روحه لو وعدته أن تكون زوجته إلى الأبد.
لكنها لا تريده.
كان الأمر يثير جنونه. لو أحبته نصف ما يحبها، لكانا أسعد زوجين. لكنها لم تمنحه حتى ذرة من الحب.
وكان ذلك منطقيًا في نظره. إذ لم يلحظ عليها أي اضطراب عاطفي بوجوده. أحيانًا تحمرّ وجنتاها أو تتوتر حين يمازحها، لكنها سرعان ما تستعيد هدوءها وسكينتها.
ولو لمح منها مرة واحدة نظرة شوق، لكان تجرأ على البوح بمشاعره.
لكنها لم تمنحه أي دليل.
ولهذا كان يتقلب كل ليلة بلا نوم. فهي امرأة مستقلة، تملك رأس مال فكريًا غنيًا. وفوق ذلك، ورثت ثروة شيلدون، فغدت حرة تمامًا.
ولو تجرأ وطلب منها عاطفة، لتركته على الفور. من أجل صديقتها. ولئلا تكرر أخطاء والديها. ولأنها لا تريد أن تُقيَّد برجل لا تحبه.
والسبب الأخير كان الأشد إيلامًا.
كان يدرك أنه، في نظر العالم، زوج مثالي. أرض عائلته كانت من أكبر أملاك إنجلترا، وقد ضاعف ثروته أربع مرات في سنوات قليلة، مؤمّنًا مستقبل أسرته خلال الكساد العظيم.
بل وكان يعلم وإن لم يهتم بذلك يومًا أن النساء يجدنه رجلاً لائقًا.
لكن أمام لورا، بدا كل ذلك بلا قيمة.
وكان كل ليلة يحاول التغلب على ألمه برسم صورتها مرارًا. لكن الأمر كان يزداد سوءًا. فالحزن يخف بالحداد، لكن الحب يزداد اشتعالًا كلما استُدعيت صورته. وصورتها التي تتجسد أمام عينيه لم تكن إلا وقودًا لناره.
فكان يتلوّى بين الفراش الساخن.
ويقول لنفسه: «لأرتكبنّ أي ذنب لأربح حبها، ولو كان ذنبًا لا يغفره الله.»
م.م: 🥺❤️🔥❤️🔥❤️🔥
ذلك الذنب، بالطبع، هو مواصلة الكذبة. إخفاء مشاعره الحقيقية، والتظاهر بأنه مجرد صديق. كان مصممًا أن يجعلها تحبه.
وكان يهمس في صلاته لمعلّمه الملاك:
«إن جعلتها لي، سأجازيك بسعادة أعظم أضعافًا مضاعفة. فقط اجعلها أكثر اندفاعًا. أكثر غفلة. حتى أجد ثغرة أنفذ منها. أما الآن فهي منيعة لا أستطيع اختراقها. أرجوك يا أستاذي.»
“السيد دالتون، أظن أنها ستمطر.”
قالت لورا في ظهيرة أحد أيام الأحد الهادئة، وهي تسير بجانبه في الدرب المورق بأشجار البتولا في وايتفيلد، تحمل دفتر رسمها، ويداها تنقبضان وتنبسطان بقلق.
توقف دالتون بجوارها ورفع بصره نحو السماء. السماء الصافية من بين الأشجار لم يكن بها غيمة واحدة. التفتت لورا تنظر معه، ثم احمرّت خجلًا.
“آه… لا يبدو أنها ستمطر إطلاقًا.”
“ولماذا تظنين أنها ستمطر إذًا؟”
قبضت لورا يدها اليمنى بخجل.
“هذه اليد تصاب بالخدر كلما اقترب المطر.”
أجابت ببساطة، معتقدة أنه يجهل أمر تلك اليد. لكنها لم تدرك أنه يعرف عنها أكثر مما تظن.
تومضت ذكرى في ذهنه، فقبض أسنانه بغضب.
ذلك الوغد جيرالد بندلتون…
ارتجفت عضلات فكه.
لكنه تدارك انفعاله سريعًا، ثم قال وهو يتجه نحو القصر:
“فلنعد أدراجنا.”
“لا يا سيد دالتون، أظنها مجرد آلام بسيطة.”
“لا شيء أدق من إشارات الجسد.”
هزّت رأسها.
“هذه اليد تخدعني كثيرًا. عليّ أن أضع عليها كمّادة بين الحين والآخر، لكني أهملتها مؤخرًا، فبدأت تحتج. لم يمضِ نصف ساعة على خروجنا، وسيكون مؤسفًا أن نعود هكذا.”
نظر إليها بتردد، ثم ابتسم بخفة:
“إذن، إن أمطرت في الطريق، ستكونين مسؤولة يا آنسة بندلتون.”
“مسؤولة؟ عن ماذا؟”
“مسؤولة عن ابتلالي. وإن تلطخت الأرض بالطين، فعليك أن تحمليني حتى القصر. وإن أصبت بالبرد بسبب المطر، فعليك أن تمرضيّني. وإن أزعجني صوت المطر وجعلني أتذمر، فعليك أن تغني لي تهويدة.”
ضحكت لورا.
“هذا ما كان يفعله أبي، أليس كذلك؟”
“نعم.”
رفعت عينيها نحوه وقالت:
“هناك أشياء لا أستطيع أو لا أريد أن أفعلها لك. لكن هناك شيء واحد أستطيع فعله.”
“ما هو؟”
“إن ابتللت، سأعيرك ثوبي. تستطيع أن ترتديه وتعود.”
وانفجرا ضاحكين.
سارا ببطء نحو الغابة. وخطواتهما ثابتة بين أشجار البتولا البيضاء كالثلج، حتى وصلا إلى حقل من أوراق الصفصاف وأعشاب الذيل الذهبي تصل إلى الركبة. وبعد مسير طويل في العشب الذهبي تحت ضوء الشمس الصافي، بلغا بحيرة كبيرة تعكس زرقة السماء كالمِرآة.
أبهرت المنظر عيني لورا.
«لو كان رينوار هنا لرسم أجساد النساء العاريات الممتلئات بهذا المشهد خلفيةً.»
فتحت ألبوم الصور، وتقلبت بين صفحاته. حتى وجدت لوحة تطابق المشهد أمامها تمامًا.
لكن بدلًا من جسد امرأة عارية، كان والدها قد رسم صبيًا جالسًا على العشب، يضم ركبتيه بذراعيه، يراقب تموجات البحيرة بفعل الريح. كان ذلك إيان دالتون وهو في الثامنة.
التعليقات لهذا الفصل " 95"