⚠️لا تجعلوا قراءة الروايات تلهيكم عن الصلاة وعن ممارسة الشعائر الدينية😁
في اليوم التالي، زارت لورا قاعة وايتفيلد بمفردها. كانت هذه المرة الأولى التي تذهب فيها وحدها.
دخلت القصر بخطوات بطيئة. استقبلها كبير الخدم رامسويك، الذي كان في انتظارها، وأرشدها.
وبينما كانت تمر عبر الردهة اللامعة والسلالم الفخمة، وصلت أمام مكتبه. فتح رامسويك الباب، ودخلت لورا.
كان واقفًا بجانب النافذة، أنيقًا في بدلته الرمادية وربطة عنق كحلية.
قال بصوت متحفظ، بدا غريبًا بينهما:
“مرحبًا بك.”
انحنت لورا قليلًا أمامه.
“هل شعرتِ بالدوار أو أي شيء منذ عدتِ إلى المنزل؟”
“على الإطلاق.”
“لكن يبدو أنك لم تنامي جيدًا.”
ابتسمت لورا بخفة:
“لم أستطع النوم.”
أومأ برأسه متفهمًا.
“هل تودين الجلوس؟”
جلسا معًا على أريكة من جلد الجاموس الموضوعة في جانب المكتب. وبعد قليل، دخل خادم يحمل صينية فيها شاي وكعك وبسكويت. وبعد أن رتّبها وغادر، تناول هو إبريق الشاي وصب في كوب لورا. أضاف الحليب وملعقتين من السكر، وحرّكه بملعقة صغيرة.
وبينما كانت لورا ترتشف الشاي ببطء، وضع لها قطعة من الكعك وبعض البسكويت في طبقها. راحت تأكل بشهية، وهو يراقبها بصمت.
وحين انتهت من قطعة الكعك ومسحت فمها بمنديل، سألها:
“هل كان لذيذًا؟”
أومأت برأسها. ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه.
“يسعدني أنكِ استمتعتِ به. آنسة بندلتون… هل تفضلين أن أناديكِ آنسة شيلدون؟”
“السيد دالتون، نادني بما يناسبك.”
“لأكون مرتاحًا، يجب أن تكوني أنتِ مرتاحة.”
“إذن، أفضل آنسة بندلتون. هذا ما اعتاد السيد دالتون أن يناديني به.”
“حسنًا، آنسة بندلتون.”
نهض وسار نحو المكتب. كان فوقه صندوق كبير من الورق المقوّى. حمله وعاد ليضعه على الطاولة.
حدّقت لورا في الصندوق. كان اسم لويس شيلدون مكتوبًا عليه بوضوح، وفوقه ظرف ورقي صغير. ناولها الظرف.
وقال: “أريدكِ أن تتحققي من هذا أولًا. هذه كل تركة السيد لويس شيلدون.”
فتحت لورا الظرف ببطء وأخرجت محتواه. لم تكن تتوقع شيئًا مميزًا. فوالدها كان فنانًا فقيرًا طوال حياته، ولم يكن ليترك لها الكثير. كان مجرد بضع عشرات من الجنيهات في حساب بنكي وبعض الأوراق النقدية.
لكنها أخرجت إيصالًا مصرفيًا من الظرف، وعدّت الأرقام بعينيها.
“ألفا… جنيه…؟”
نظرت إلى السيد دالتون، الذي كان يحرّك شايه بالليمون بملعقة صغيرة.
“هل هذا مال والدي؟”
“نعم. وهو ملككِ الآن.”
“هذا غير معقول. والدي كان فقيرًا. لم يكن لديه عمل يدرّ هذا المبلغ…”
“حين جئتِ لأول مرة إلى وايتفيلد، كان قد بدأ يحقق شهرة كرسّام بورتريهات بين طبقة النبلاء. كما أن لوحاته الطبيعية التي رسمها في رحلاته بدأت تجذب أنظار تجار الفن المميزين.”
“لكنني كلما سألتُ أحد التجار عن اسمه، قالوا إنهم لا يعرفونه…”
“لقد مات قبل أن يشتهر. هناك آلاف الفنانين في إنجلترا، ومن يموت قبل شهرته يُنسى سريعًا. لكنني واثق أنه لو عاش، لعرفه الجميع في إنجلترا خلال عام أو عامين. لوحاته كانت جميلة، مثل روحه.”
كان صوته يحمل قناعة عميقة، لكن لورا لم تصدق إلا نصف ما قال. فالعاطفة القوية تُضعف النقد الموضوعي. وكأنه قرأ ما في نفسها، فتح صندوق المتعلقات وأعطاها ألبومًا.
فتحته لورا. كان مكدسًا برسومات مائية غير مكتملة لوالدها، لويس شيلدون. كلها مناظر طبيعية من وايتفيلد: شاطئ بحيرة عند الغروب، غابة في ليلة مرصعة بالنجوم، حقل قمح وحيد جاهز للحصاد. الألوان كانت زاهية وشفافة، نابضة بالحياة كأن الضوء والظلام قد صُهرا داخل اللوحة، لا مجرد طلاء. التقنية مثالية، والتميز واضح.
وافقت لورا، بنظرتها الفنية الحادة، على قناعة السيد دالتون: كان والدها فنانًا عظيمًا. ولو لم يمت شابًا، لكان من أعظم رسامي بريطانيا. ولأول مرة في حياتها، شعرت لورا بالفخر بوالدها.
م.م: افتخري لا نجيك ثاني!!! ❤️🩹😭
نظرت إلى صندوق متعلّقاته: منديل مهترئ. قميص قديم. لوحة ألوان ملطخة. علبة دهان. إنجيل. حقيبة جلدية بالية. أشياء رافقته في حياتها، مألوفة في ذاكرتها.
كانت متواضعة، كأغراض فنان مغمور لم يعرف الثراء، لكنها خالية من أي غبار أو عفن.
قالت: “كأنها استُعملت حتى البارحة.”
وأضاف: “والدي كان يعتني جيدًا بأشياء السيد شيلدون. كان ممتنًا له دائمًا. لقد أنقذني من أحزاني.”
ابتسمت لورا برفق.
“سمعت من السيدة ستار أن والدي كان معلمًا جيدًا للسيد دالتون.”
ابتسم ابتسامة ممزوجة بالحزن:
“أكثر من ذلك. كنت حساسًا وكثير الاكتئاب في طفولتي. وبعد أن تزوجت أختي ورحلت، أصبحت أكثر وحدة. السيد شيلدون علّمني كيف أتقبل نفسي. قال لي: المشاعر ليست سيئة. إن شعرت بالوحدة، فارسم وحدتك. إن افتقدت شيئًا، فارسمه. عندما تُخرج مشاعرك للخارج، يزول الألم ويبقى غنى المشاعر. وحتى الحزن، في غناه، يكون جميلًا.”
تذكرت لورا الرسومات المائية التي أهداها لها السيد دالتون. تلك اللوحات الجميلة وُلدت من تعاليم والدها.
قال: “بعد وفاته، تحطمتُ لفترة. لكن معلمي علّمني كيف أتجاوز الحزن قبل رحيله. فعلتُ كما أوصاني: رسمت من أجله، صليتُ له في السماء، وكتبت له رسائل كلما أردتُ قول شيء. وحين استطعت أن أحزن دون دموع، علمت أنني نضجت.”
كان صوته مخنوقًا بالحنين. ما زال يشتاق لمعلمه الذي رحل قبل أكثر من عشرين عامًا.
شعرت لورا برغبة في احتضانه بقوة، لتعزيته، ولتشكره لأنه لم ينسَ والدها.
لكنها كبتت اندفاعها، وفكرت بطريقة أخرى لمواساته.
قالت: “السيد دالتون، هل نتمشى قليلًا؟”
خرجا معًا إلى الخارج.
كان هواء أوائل الخريف منعشًا كبرودة وادٍ عميق. سارا في الحديقة على طريق ترابي هادئ تحفّه أشجار البتولا البيضاء. امتزجت أصوات الصراصير وزقزقة العصافير مع حفيف الأوراق في النسيم.
قالت لورا بعد فترة من الصمت:
“كنت أقول دائمًا إنني أحب أن أتنزه في وايتفيلد يومًا ما. وقد تحقق ذلك اليوم.”
“لطالما كان السيد دالتون يتفاخر بوايتفيلد في لندن. كنت أظن أنه لا بد أن يكون مكانًا عظيمًا ليُباهي به. لكنني حين رأيته، لم أصدق عينيّ. إنه حقًا رائع.”
“شكرًا لقولك ذلك، آنسة بندلتون.”
“أظن أن والدي شعر بالمثل. فجميع لوحاته كانت مناظر طبيعية لوايتفيلد.”
“منذ أن جاء إلى هنا، لم يرسم سوى هذا المكان.”
“أفهم ذلك. لا أجيد الرسم، لكن لو استطعت، لقضيت النهار كله هنا حاملة فرشاتي ولوحة ألواني ودفتر اسكتش.”
لم يعلّق. فنظرت إليه، فرأت ابتسامة خفيفة على طرف شفتيه. أزهرت سعادة في صدرها.
“السيد دالتون، هل سيكون من المقبول أن آتي هنا أحيانًا للتنزه؟”
التفت إليها، والتقت عيناهما.
“ألن تحتاجي إلى أوليفيا معكِ؟”
“بالطبع لا.”
أومأت لورا، ثم نظرت للأمام مجددًا.
“لقد فكرت في والدي طوال الليل. أنه لم يتخلَّ عني. بل حاول جاهدًا أن يعيدني، ومات بسبب ذلك. كنت مشوشة. لم أستطع أن أصدق. لم أرد أن أصدق. أنا ما أنا عليه اليوم، لأنني صدقت أنه تركني.”
توقعت أن يسألها ماذا تقصد، لكنه صمت، مستمعًا بانتباه، وهو يحدق للأمام. كانت بساطته في الإصغاء مشجعة.
قالت: “أتذكر عندما كنت في الخامسة عشرة. كان عيد ميلادي. أقامت المدرسة حفلة لي. طلبت المديرة كعكة ضخمة، وجاء كل الطلاب والمعلمين. ارتديت فستانًا من حرير الليلك، هدية من جدتي. كانت حفلة رائعة. نفخت الشموع، وقبّلني أصدقائي، وعانقت معلماتي العزيزات. ولهونا حتى وقت متأخر. وفي آخر الليل، دخلت غرفتي، وانكمشت تحت الغطاء، وأفرغت كل الدموع التي حبستها طوال اليوم.”
“…”
“الكعكة، الفستان، تهاني الجميع… لم تملأ قلبي. والدي لم يرسل حتى بطاقة بريدية. في كل عيد ميلاد كنت أشعر بخيبة أمل، لكن ذلك العام كان الأصعب. بكيت وبكيت طوال الليل. أظن أنني في ذلك اليوم قررت أن أعيش دون أن أسمح لمشاعري أن تتحكم بي مجددًا.”
أنهت كلامها وهي تتساءل لماذا باحت بماضٍ حزين كهذا. لماذا تثقل قلبه بذلك؟ خشيت أن يسيء فهمها. كيف ستبدو في نظره، وهي لم تذرف دمعة واحدة بعد معرفتها وفاة والدها؟ ستبدو قاسية القلب بلا شك.
أرادت أن تعتذر. أن تقول إن السبب لم يكن لأنها لم تحب والدها، بل لأن هناك سببًا جعل الدموع بعيدة عنها.
ظنّت أنه سيبحث عن كلمات لمواساتها. فأرادت أن تزيل عنه العبء. ابتسمت، وهمّت أن تقول له: “كل شيء بخير الآن.”
لكن حين التفتت نحوه، تلاشت ابتسامتها.
كان وجه السيد دالتون مبتلًا بالدموع.
م.م: لااااا إيااااان 💔🥺😭😭😭😭
توقفت مكانها وأمسكت بذراعه.
“السيد دالتون…”
أدار وجهه بسرعة. ارتجفت كتفاه العريضتان القويتان قليلًا. لم تخطئ.
تجمدت لورا، لا تدري ماذا تفعل. كانت هذه المرة الأولى التي ترى فيها رجلًا ناضجًا مثله يبكي.
أخرج منديلاً رماديًا مخططًا من جيبه ومسح وجهه سريعًا.
تشبثت لورا بذراعه:
“كل شيء بخير الآن. كل ذلك أصبح من الماضي، وأنا سعيدة اليوم.”
لكن كلماتها أثرت فيه عكس ما أرادت. غطى وجهه بالمنديل وبدأ ينتحب.
وبينما كانت تصغي لبكائه، أدركت لورا الحقيقة: كان يرثي ماضيها هي، ماضي لورا بندلتون. كان يبكي عنها، ويُخرج ألمها، ويشعر بالبؤس الذي مرّت به. تلك الفترة التي لم يعرفها سوى قلة قليلة، ولم يشفق عليها فيها إلا عدد محدود.
التعليقات لهذا الفصل " 94"