⚠️لا تجعلوا قراءة الروايات تلهيكم عن الصلاة وعن ممارسة الشعائر الدينية😁
“لا.”
“إذن؟ لماذا انهرتِ فجأة؟”
عند هذا السؤال، تذكرت لورا الحقيقة الصادمة التي أدركتها تمامًا قبل أن تفقد وعيها. فكرت لبرهة، ثم التفتت إلى السيدة ستار التي كانت تقف خلفه.
“سيدتي، هل تسمحين لي أن أتحدث مع السيد دالتون على انفراد؟”
فهمت السيدة ستار مغزى كلامها، فغادرت الغرفة وهي تلقي نظرة حائرة عليهما.
وبقيا وحدهما في الغرفة.
“هل معلم الرسم في طفولة السيد دالتون هو لويس شيلدون؟”
“نعم.”
“أميركي؟ أشقر وذو عينين رماديتين؟”
“نعم. كيف عرفتِ يا آنسة بندلتون؟ آه… على ما أذكر، لقد انهرتِ أمام قبره. هل قابلتِه من قبل؟”
ظلت لورا صامتة. كانت إجابته دليلًا راسخًا على الحقيقة التي اكتشفتها للتو.
وبينما كان السيد دالتون حائرًا، سرعان ما أدرك شيئًا. نظر إلى لورا بنظرات مشوشة وقالت:
“إنه والدي.”
“…”
“اسمي الحقيقي هو لورا شيلدون. عشتُ تحت اسم والدتي، دولوريس بندلتون، لكن هذا هو اسمي منذ ولادتي.”
تجمد وجهه من الصدمة. وربما لسانه أيضًا.
جلست لورا في صمت، غارقة في الحقيقة التي انكشفت أمامها للتو.
تذكرت سنة الوفاة المكتوبة على شاهد القبر. كان ذلك بعد عامين من وضعها في رعاية عائلة بندلتون. يبدو أنه جاء إلى هنا مدرسًا للرسم يبحث عن عمل.
أربكها هذا الاكتشاف بشدة. فقد كانت تعتقد أن والدها عاد إلى أميركا بمجرد أن افترقا. لم يكن هناك بديل آخر، إذ لم يصلها أي خطاب أو برقية منذ رحيله. كانت تؤمن أنه تخلى عنها، لكنها منذ زمن طويل تخلّت عن مرارة ذلك. من الطبيعي أن يعجز فنان فقير مغمور عن تربية طفل بمفرده.
م.م: مستحيل أبوها يتركها، مسكين مات ومارجع عندها 😭😭😭
وكان والدها لا يزال شابًا. تتذكر وجهه البديع المشرق، وظنت أنه عاد إلى وطنه وتزوج بامرأة جديدة. وإن كان قد فشل كفنان في إنجلترا ولم يستطع أن يعول طفلة، فإن عودته كانت القرار الأصح.
وقد احترمت لورا خياره.
لقد تعلمت من إخفاقات والديها قيمة العقل، ودربت نفسها طويلًا على كبح المشاعر. وهكذا أصبحت إنسانة مستقلة، بعيدة عن عاطفة الطفولة الأنانية. تنظر إلى والديها بعين المحايد، وتفهم لماذا صارا على ما كانا عليه.
لكن فجأة، وفي مكان غير متوقع، تكتشف قبر والدها. وتدرك أنه ربما لم يتخلَّ عنها أبدًا.
كان الأمر أشبه بانقلاب السماء والأرض. لم تستطع أن تجعل عقلها وقلبها يلتقيان. لم تستوعب شيئًا.
“لا أصدق ذلك.”
رن صوت السيد دالتون المتهدج في الغرفة الهادئة:
“أنتِ ابنة السيد شيلدون…”
كان مشوشًا. ورغم أن سياقه مختلف عن لورا، إلا أنه شاركها ذات الصدمة.
“كيف لم تكتشفي حتى الآن أن قبر السيد شيلدون هنا؟ آه، بالطبع، كنتِ صغيرة وقتها، ربما في مدرسة داخلية. لكنه كان يكتب دائمًا رسائل. رسائل موجهة من وايتفيلد.”
“أبي كتبها؟”
“نعم. وبين تدريسه لي وانشغاله بلوحاته، كان يصنع إشارات كتب ويخط أبيات شعر على أوراق ليبعثها إليكِ. وكان يختم كل رسالة بقبلة طويلة، مشبعة بالحنين والحزن.”
صُدمت لورا. لكنها تقبّلت الحقيقة بعقلها فقط. تمتمت بصوت بلا مشاعر:
“لم يصلني أي خطاب. ولم أعلم حتى أنه توفي.”
“من المستحيل أن يخطئ رجل مثله في العنوان. لا بد أن الرسائل فُقدت عمدًا.”
تذكرت لورا خيطًا خفيًا: خالها، الإيرل جيرالد بندلتون. كان قاضي صلح في كورنوال، منصبًا فخريًا لرؤساء العائلات الكبرى. لم يكن عسيرًا عليه أن يستولي على بعض الرسائل من البريد.
وكان دالتون يشاركها نفس الشك. فاشتعلت نيران حقده على الإيرل أكثر، لكنه كتم ذلك.
“لو كان يعلم أن ابنته تحت رعاية عائلة بندلتون لما حدث هذا. لكنه كان متكتمًا بشأن العائلة التي ربتكِ. حتى والدي لم يعرف. أظنه لزم الصمت لأن عائلة بندلتون عريقة، وكان يريد تجنب القيل والقال.”
“أجل، هذا ما فكرتُ به أيضًا.”
هزّت لورا رأسها.
رغم انكشاف الحقيقة، والتي تكفي لإغراقها في دموع كالطوفان، بقي وجهها هادئًا. وهذا ما أقلق دالتون أكثر.
“لا بد أن الصدمة كانت عظيمة.”
“إلى حد ما.”
“لا بد أن الأمر مؤلم… أن تكتشفي أن والدكِ الذي كنتِ تظنينه حيًا قد مات دون أن تعرفي.”
هزت لورا رأسها.
“لو علمتُ في مراهقتي لكنتُ انهرت. كنت سأبكي أيامًا. لكنني نسيته منذ زمن. أحببته كطفلة، لكنني تركته منذ وقت طويل.”
“أيمكن حقًا أن تتخلي عن من تحبين؟”
لم يكن في صوته عتاب، بل دهشة صافية.
لقد كان هو تلميذ ذلك المعلم الراحل منذ عشرين عامًا، الذي ظل يضع الزهور على قبره كل شهر. كان طبيعيًا ألا يفهمها.
“والدي تركني على وعد، لكنه لم يرسل لي شيئًا. كتب، لكنني لم أتسلم شيئًا. حننت إليه وكرهته لسنوات. لكنني حين كبرتُ، تعلمت أن أضع نفسي مكان الآخرين. فآمنت أن حكمته كانت في أن يتركني، ويعود إلى وطنه ليبدأ من جديد.”
“لم يكن والدك هكذا.”
“حتى لو كان، فهذا لم يغيّر شيئًا. كان ذلك القرار الأصح والأكثر واقعية.”
أظلمت ملامحه، بل بدا عليه الغضب.
“لو عرفتِ كم أحبكِ، لما قلتِ هذا. لم يذكر اسمك قط، لكنه كان يتحدث دائمًا عن ابنته. رسم ليلًا ونهارًا ليكسب مالًا يعيدك به. مات صغيرًا لأنه أصيب بالسلّ من كثرة وقوفه في الشتاء القارس يرسم المناظر الطبيعية. كان يظن أن لوحاته ستباع، فيتمكن من إعادتك.”
شهقت لورا من الذهول.
“كيف تعيشين كابنة فنان عظيم كهذا وكأنكِ ثمرة زواج فاشل؟ إن السيد شيلدون، في قبره، لا بد أنه يبكي دمًا كلما خطرت له هذه الفكرة!”
ارتفع صوت السيد دالتون متأججًا، وكأنه يتحدث بلسان الميت لويس شيلدون.
“اهدأ، سيد دالتون.”
“لا أستطيع… متى بدأتِ تفكرين هكذا؟ ولماذا؟! لقد كنتِ إنسانة نبيلة، موهوبة بعطاء من الله، نقية كالملاك، لستِ ابنة زواج بائس، بل ابنة فنان عظيم.”
“…”
“حتى وهو طريح الفراش، لم يتوقف عن كتابة الرسائل إليكِ. قال الخادم الذي لازمه إن كلماته الأخيرة كانت: ‘أنا آسف’… ‘أنا آسف’… وكان يقصدكِ.”
“أنا آسف.” تلك الكلمات وجهها والدها إلى نفسه. لأنه تركها، ولأنه لم يستطع إعادتَها، ولأنه رحل عنها هكذا.
م.م: 💔😭😭😭😭 مسكين أبوها و الله ياخذ خالها 😔
خفق قلب لورا بقوة. أكان ما يعتمل في رأسها ينفذ إلى صدرها؟ أم أنه تأثير الخمر؟ أم وجه دالتون الذي بدا على وشك البكاء، يصف شوق أبيها لابنته؟
وضعت يدها على صدرها، تضغط على ألم مألوف. ذلك الحنين، وذلك الحب، وذلك الخذلان، كادت أن تثور من جديد. لكنها شدّت وثاق قلبها. فالمشاعر خطرة. إنها تقود إلى أخطاء جارحة.
هكذا آمنت دومًا. هكذا تعلمت من إخفاقات والديها، ومن حياتها التعيسة. لكن قبر أبيها هزّ هذا اليقين.
“سيد دالتون، اهدأ. أحتاج وقتًا لألملم أفكاري.”
لين صوتها قليلاً، فانكسرت حدة ملامحه.
“أعتذر. أعرف أن الآنسة بندلتون هي الأشد حيرة. لقد اندفعتُ أكثر مما يجب.”
هزت رأسها.
“هناك متعلقات لك في قصر وايتفيلد. والدك حزمها بنفسه ليُسلّمها لعائلتك حين يأتون. أظن أنني وجدت الآن صاحبتها.”
ثم نظر إليها بنظرة تحمل تعقيدًا شديدًا.
“بعد أن رحل معلمي، صليت كل ليلة بجوار سريري أن تصل أخباره إلى عائلته. ولم أعلم أن تلك العائلة هي الآنسة بندلتون. أكان هذا تدبيرًا إلهيًا؟ أم أن مصيرنا كان مكتوبًا منذ البداية؟”
التعليقات لهذا الفصل " 93"