⚠️لا تجعلوا قراءة الروايات تلهيكم عن الصلاة وعن ممارسة الشعائر الدينية😁
قريبًا، دخل السيد دالتون غرفة الاستقبال.
كان أنيقًا، مرتديًا معطفًا أخضر داكنًا خريفيًا فوق بذلة سوداء. في يديه الكبيرتين، المغلّفتين بقفازات جلدية بنية، حمل عدة باقات زهور بسيطة.
خلع قبعته وانحنى لمضيفته السيدة ستار. تلك المرأة التي تحولت من شخصية مرحة أشبه بجرو صغير، إلى سيدة كنسية رصينة، رحّبت به بابتسامة وقورة. سألها عن أحوالها، ثم التفت إلى لورا.
“الآنسة بندلتون هنا أيضًا.”
ابتسمت لورا له كعادتها. وما إن رأت وجهه، حتى تلاشت أحزانها السابقة، وارتفعت معنوياتها.
قالت مازحة:
“لقد دعتني السيدة ستار إلى العشاء مؤخرًا. وعدتني بأن تعرّفني على فطيرة التفاح، الطبق الذي يشتهر في كل يوركشاير. ألا تذكر؟ لقد كنت حاضرًا.”
أجاب بابتسامة خجولة:
“آسف… نسيت.”
فقالت السيدة ستار بنبرة عتاب لطيفة:
“كما توقعت، لا تهتم بالسيدات.”
ابتسم وأجابها:
“وأنتِ سيدة مميزة، أليس كذلك يا سيدة ستار؟”
أومأت برأسها بفخر.
انتقلت عينا لورا إلى الزهور بين يديه.
“تبدو مثل بائعة زهور في كوفنت غاردن. أليست هذه الزهور من بيت الزجاج في قاعة وايتفيلد؟ إلى من تأخذ كل هذه الباقات؟”
أجاب بهدوء:
“إلى أقاربي.”
تدخّلت السيدة ستار:
“إلى الراحلين. فخلف بيت القسيس هناك مقبرة.”
“آه.” قالت لورا وهي تهز رأسها.
ابتسم السيد دالتون بخفة وقال:
“كنت سأهديك باقة، لكن من غير المناسب أن تُقدّم زهور قُطفت للموتى إلى سيدة على قيد الحياة. في المرة القادمة التي تزورين فيها قاعة وايتفيلد، سأعدّ لكِ ولأوليفيا باقة خاصة.”
ثم انحنى قليلًا وغادر الغرفة.
ساد صمت، ثم مالت السيدة ستار برأسها متسائلة:
“هذا غريب.”
سألتها لورا:
“لماذا؟”
“لأن للسيد دالتون موعدًا محددًا لوضع الزهور على القبور، وهو الأحد الأخير من كل شهر. لا أفهم سبب قدومه اليوم.”
اقتربت السيدة ستار من النافذة، ولحقت بها لورا. تطلّعتا معًا إلى الفناء الخلفي المتواضع الذي يفصل بين بيت القسيس والمقبرة عبر سور حديدي.
كانت المقبرة واسعة، يابسة العشب، مليئة بشواهد قبور بأشكال مختلفة: صليب، مستطيل، مربع ذو سقف، وأخرى مقوسة.
ظهر السيد دالتون بين القبور. وقف أمام شاهدين متجاورين على شكل صليب، وضع باقة زهور بينهما، خلع قبعته، وانحنى رأسه في صلاة قصيرة.
ثم وضع باقة أخرى على شاهد قريب، وأخذ يصلي. وأخذت السيدة ستار تشرح للورا هوية أصحاب القبور: جداه توماس وإيلوشا دالتون، القس جينفيلد الذي خدم الكنيسة سنوات طويلة، السيدة مارشا مدبرة المنزل في طفولته، وميتشل دان المزارع الشاب وصديقه الذي مات صغيرًا.
وأخيرًا، وقف أمام شاهد رخامي مستطيل ووضع باقة من الزهور. أطال الصلاة أكثر هذه المرة.
قالت السيدة ستار:
“هذا قبر معلّمه في الرسم حين كان طفلًا… آه، لا أستطيع تذكر اسمه. كان اسمًا رائعًا…”
أضافت:
“لقد كان أكثر من مجرد معلم، كان بمثابة عائلة له. بعد أن تزوجت شقيقته، أصبح وحيدًا جدًا. استأجر والده رسام بورتريه ليعلّمه. علّمه ليس فقط الرسم، بل كيف يصبر على الحزن ويصبح رجلًا.”
انتهت صلاته، فانحنى على القبر وقبّله قبلة خفيفة. تابعت لورا ظهره بعينيها. لم ترَ وجهه، لكنها أحست بالحب في صلاته.
قالت السيدة ستار:
“يولي هذا القبر عناية خاصة. لطالما قال إن الأمر مؤلم لأنه دُفن بعيدًا عن موطنه في أمريكا. كأنه يعتبر نفسه وكيلًا عن عائلته.”
نهض السيد دالتون، وترك وراءه باقة جميلة من الليلك الأحمر.
عادت السيدتان إلى الداخل. أمسكت السيدة ستار بيد لورا وقالت:
“عزيزتي، ابقي للعشاء. أريد سماع قصصك عن مجتمع لندن.”
أجابت لورا بابتسامة حزينة:
“اليوم لا يمكنني. إنه عيد ميلاد دانيال، وسيكون هناك عشاء.”
تنهدت السيدة ستار بأسف، ثم قالت:
“إذن لا بأس. لدي الكثير من فطائر التفاح في الفرن. سأضع بعضها في سلة لتأخذيها إلى دنڤيل بارك.”
“نعم. يا له من اسم فني رائع. لو عاش طويلًا لكان اسمه معروفًا في أوروبا كلها. لقد كان عبقريًا…”
لكن لورا لم تسمع شيئًا بعد ذلك. الكلمات كأنها غابت. الذكرى الغابرة عادت فجأة. صورة والدها الشاب الوسيم، الذي بكى وهو يضع القلادة حول عنقها، والذي أقسم أن يجدها يومًا… ثم اختفى إلى الأبد.
م.م: مااات أبوها 😭💔
ركضت لورا خارج البيت بجنون. لم تسمع نداءات السيدة ستار، كان صوتها مجرد ريح عابرة. عبرت البوابة، ركضت فوق العشب اليابس، حتى توقفت أمام قبر رخامي تزيّنه أزهار الليلك.
“لويس شيلدون. 7 أغسطس 1844 – 1 فبراير 1876. موهبة لم تتفتح على الأرض، محفوظة في السماء.”
تتبعت بأصابعها حروف الاسم وتواريخ الميلاد والموت. كانت مطابقة تمامًا للذي تعرفه.
شهقت: “آه… آه…”
شعرت أن دمها كله ينسحب من جسدها. دوار عنيف اجتاحها، وكادت تسقط لولا يد كبيرة أمسكت بكتفها.
كان السيد دالتون.
“الآنسة بندلتون… ما بك؟”
التفتت إليه بنظرات شاحبة، بعينين غارقتين بين السواد والبياض.
همست كالمسحورة:
“…ربما يثقل الأمر عليك، لكن أرجوك… أمسك بي.”
ثم ارتمت إلى الوراء. احتواها بين ذراعيه القويتين، ضغطها إلى صدره الصلب، دافئًا وحاميًا. أغمضت عينيها، وشعرت بالأمان التام. ثم أغشي عليها.
حين فتحت عينيها، رأت سقفًا أبيض غريبًا. كان ذهنها ضبابيًا. سمعت أصواتًا خافتة: همس وآنات قلق.
كانت في غرفة الضيوف ببيت القسيس. عند قدمي السرير وقفت السيدة ستار والسيد دالتون يتحدثان. حين تلاقت عينا لورا مع عيني السيدة ستار، صاحت هذه الأخيرة:
“لقد استيقظتِ!”
أسرع السيد دالتون نحو السرير. تنفس بارتياح وهو يراها مفتوحة العينين. خلع قفازيه، ومد يده ليمسح جبينها.
للمرة الأولى، لامست بشرته بشرتها. أصابعه كانت دافئة، قوية، ورقيقة في آن. تلاشى إغراء النوم، وصحت من غشاوتها.
“هل يؤلمك شيء؟” سألها.
وقبل أن تجيب، طلب من السيدة ستار كأسًا من النبيذ. أسرعت وجلبت كأسًا نصف ممتلئ.
أسند السيد دالتون رأسها وسقى شفتيها. شربت بخضوع. سرت الحرارة في جسدها، وعاد إليها وعيها تدريجيًا.
ثم أجلسها وأسنَد وسادة خلف ظهرها. قال بلطف:
“سيأتي الطبيب قريبًا.”
أومأت برأسها.
ثم أضاف بابتسامة ممزوجة بالجدية:
“ألم تقولي إنك تأكلين جيدًا في دنڤيل بارك؟ وازددت وزنًا حتى اضطررتِ لتعديل ثيابك؟ تكذبين. هل لاحظت شقيقتي وزوجها ذلك على مائدة العشاء؟”
كان جادًا جدًا، حتى أن لورا لم تتمالك نفسها فضحكت.
التعليقات لهذا الفصل " 92"