⚠️لا تجعلوا قراءة الروايات تلهيكم عن الصلاة وعن ممارسة الشعائر الدينية😁
كانت صراحته وتعبيره الانتقائي عن مشاعره صفات تفتقر إليها هي، ولهذا بالذات كانتا جذابتين للغاية. وفوق ذلك، فقد كان ذوقه وأسلوبه يحملان رقة مصقولة تجعل صحبته ممتعة وغير مثقلة. كان التواجد معه يُشعرها وكأن قلبيهما متوافقان تمامًا، مثل عجلات عربة تسير بتناغم.
الرجل الوحيد الذي استطاعت لورا أن تتواصل معه بهذا العمق وتنسجم معه بهذا القدر كان رجلًا ظهر للحظة عابرة ثم اختفى قبل اثني عشر عامًا.
وبينما كانت لورا تستمتع بصداقة السيد دالتون، كان الخريف قد حلّ في يوركشاير. هواء الخريف النقي تسلل إلى أجواء منتصف النهار، وبدأت أوراق الأشجار الخضراء تكتسب بقعًا صفراء وحمراء، أشبه بقماش مصبوغ رديء. أما الخدم، الذين ارتدوا سترات صوفية داخلية من الفلانيل تحت زيّهم، فقد بدا عليهم شيء من الامتلاء، فيما تقلّصت المسافة بين كرسي السيدة فيرفاكس الهزاز المريح والمدفأة إلى نصف شبر.
وفي تلك الأثناء، أصبحت لورا أيضًا على علاقة ودية مع القس وزوجته.
وكان ذلك بفضل هطول مفاجئ للمطر. ففي أحد أيام الخريف، بينما كانت لورا وأوليفيا تحضران شاي العصر في بيت القسيس، تحوّل الجو المشمس فجأة إلى غيوم داكنة، واندلع مطر غزير تصاحبه عواصف رعدية وبروق.
وبعد الشاي، استعار القرويون المجتمعون مظلات وزعتها السيدة ستار وغادروا، لكن لورا وأوليفيا لم يكن أمامهما خيار سوى البقاء في بيت القس. فبين البيت وحدائق دنڤيل بارك امتدت حقول وجداول كثيرة، والتي كانت تفيض بمجرد هطول المطر. ناهيك عن أن الحقول غير معتنى بها، فتمتص الوحل اللزج بسهولة. وأي محاولة متعجلة للمغادرة كانت ستنتهي بالتعثر في منتصف الطريق.
بعد ساعات من الانتظار دون جدوى، لم تحتمل السيدة ستار أكثر، فاقترحت أن تبيتا في بيت القس. كان هناك غرفة ضيوف جاهزة، وإعداد طعام إضافي لم يكن مشكلة، أما القس نفسه فسيكون شرفًا له أن تستضيفا ابنتي دنڤيل بارك. فقبلتا بلطف هذه الضيافة.
ذلك المساء بقي ذكرى دافئة في قلب لورا. لقد كان كرم ضيافة آل ستار دقيقًا، والطعام وغرف الضيوف بلا عيب. لكن ما أدفأ قلب لورا أكثر من أي شيء آخر هو الرابط العاطفي بين الزوجين.
حب الزوجين الشابين لبعضهما كان ظاهرًا حتى في حادثة القُبلة الفرنسية التي أشعلت فضول القرية الصغيرة. كانت السيدة ستار الحيوية تبدو متهللة مهما قال زوجها، فيما حاول القس الرزين أن يظهر وقارًا يليق بمقامه أمام الضيوف، لكنه بالكاد كان يخفي ابتسامته كلما تدللت زوجته عليه.
علمت لورا لاحقًا أن الاثنين كانا صديقين منذ الطفولة في الحي نفسه، وخُطبا لتسع سنوات قبل أن يتزوجا. وبعد وقت طويل، تحول العصفوران الصغيران إلى زوج سعيد يتقاسم العش الصغير المسمى بيت القس، ويعيشان دفء الأسرة مع ابنهما المحبوب، ثمرة حبهما.
في اليوم التالي، انقشعت السماء وأشرقت الشمس بقوة كافية لتجفف الطريق. عادت لورا إلى دنڤيل بارك برفقة أوليفيا، وقلبها مفعم بالسعادة بما رأته من ذلك الزوجين الجميلين.
وسرعان ما وصلتها دعوة من بيت القس لحضور عشاء رسمي في إحدى أمسيات الأسبوع. وقعت لورا في حيرة، إذ كانت تتوق للذهاب، لكن ظروفها لم تسمح لها بالحركة بحرية في المساء. غير أن أوليفيا، ما إن سمعت بالخبر، حتى أسرعت إلى والدتها وأخبرتها، فلم تلبث السيدة فيرفاكس أن استدعت لورا، أجلستها، وهمست لها:
“القس أوليفر ستار كان بمثابة ابن للقس جينفيلد منذ أيامه كمساعد. أنا لا أزوره كثيرًا بسبب حالتي الصحية، لكن سيكون شرفًا لي كبيرًا لو قضيتِ وقتًا مع آل ستار.”
وبهذا نالت لورا الإذن. كانت ممتنة لأوليفيا والسيدة فيرفاكس على تفهمهما، ولم تكن تعلم أن الأم وابنتها كانتا تتهامسان بشأن عدد المرات التي اعتاد إيان فيها حضور عشاء بيت القس.
المفاجئ أن لورا كانت الضيفة الوحيدة. وقد همست السيدة ستار، مبررةً الأمر للورا التي حاولت جهدها أن تخفي دهشتها:
“رجاءً تفهمي، يا سيدتي. فهو يتوتر إذا زاد عدد الحضور عن أربعة على المائدة، ويتحول إلى تمثال ورقي. ومع ذلك، يمكنه أن يعظ لساعات أمام مائة شخص في الكنيسة. ربما حين نصبح أكثر قربًا، سيتمكن من دعوة مزيد من الأصدقاء.”
بدت السيدة ستار آسفة لعدم دعوتها المزيد من الضيوف لإمتاع لورا. لكن لورا لم تكتفِ بالتفهم فقط، بل وجدت الأمر باعثًا على الراحة. فالاجتماعات الاجتماعية الصاخبة لم تكن تروق لها.
ومن خلال تلك الأمسية الحميمة، تعرفت لورا عليهما أكثر. فالقس ستار، رغم خجله، كان يمتلك ذكاءً وإرادة قويين. وُلد أصغر أبناء عائلة فلاحين فقراء، واعتمد على المنح الدراسية طوال مسيرته التعليمية، حتى تخرج في صدارة دفعته بجامعة كامبريدج وصار لاهوتيًا. أما السيدة ستار، فقد كانت تسخر من نفسها بقولها إن سبع سنوات في مدارس البنات لم تعلّمها سوى التطريز على الموسلين. ومع ذلك، رأت لورا أنها، وإن كانت تفتقر إلى الذكاء، إلا أن إرادتها لا تقل عن إرادة زوجها.
فهي ابنة تاجر منسوجات ثري، وبفضل شخصيتها الحيوية، كانت محط إعجاب الرجال. ومع ذلك، صبرت على رغبة والديها تسع سنوات، حتى تتمكن من الزواج من ذلك اللاهوتي الفقير. وسعادتهم اليوم ما كانت لتتحقق لولا وفاؤها.
بدأت لورا تحترمهما معًا وتحب صحبتهما أكثر. وبما أنهما شعرا بالمثل تجاهها، فقد استمرا في دعوتها على العشاء.
وكانت السيدة ستار، كلما زارتهم لورا، تحاول جاهدة إيجاد موضوع مشترك يستمتع به الجميع. فإذا تطرقت إلى تفاصيل الجوار، صمتت لورا؛ وإذا تحدثت عن طفلها هاري، صمت زوجها؛ وإذا دخلت في اللاهوت أو الأدب، صمتت هي. وبعد تفكير طويل، وجدت موضوعًا يصلح للجميع: السيد دالتون.
فقد كان السيد دالتون صديقًا مقربًا لآل ستار. إذ كان القس ستار زميله في جامعة كامبريدج، التقيا في سكن كلية الملك، حيث كانا بمثابة الأخ الأكبر والأصغر.
قالت السيدة ستار بمرح:
“عزيزي، عزيزي، أخبرنا عن أيام كامبريدج. أعتقد أن لورا ستستمتع بذلك.”
ابتسم القس بخفة، وبدأ يسرد:
“تعرفتُ على السيد دالتون في سنتي الأولى بكامبريدج. لكنني كنت أعرفه منذ البداية. في الواقع، كل كامبريدج كانت تعرفه. فقد كان رجلًا طيب المعشر، يجذب الانتباه منذ أن دخل السكن الجامعي. ومنذ سنته الأولى، كانت تصل رسائل الغرام من السيدات إلى غرفته كل يوم.”
“سيدات؟” سألت السيدة ستار، لتزيد دهشة لورا.
“نعم. في كل عام، تقام حفلة استقبال للطلاب الجدد. حضرها السيد دالتون مرة واحدة فقط، من باب المجاملة، ولم يبقَ أكثر من عشر دقائق. لكن جميع الفتيات المحليات وقعن في حبه. ويُقال إنه أعاد كل الرسائل دون أن يفتحها. قال إنه لا يثق في حب يولد من مجرد نظرة واحدة.”
ضحكت لورا، فهذا من طباعه فعلًا.
وبإلحاح من زوجته، تابع القس القصة:
“لكن كان هناك سبب آخر لشهرته في كامبريدج. فما إن التحق، حتى جاء مدرب التجديف في الجامعة يسأل لماذا لم يقدّم طلبه. فقد كان السيد دالتون قائد فريق التجديف لسنوات في إيتون.”
دهشت لورا:
“السيد دالتون… في التجديف؟”
“هكذا كانت وصية والده، على ما يبدو. حين كان قائدًا للفريق، ظل فريق إيتون يفوز بالبطولات الوطنية. كان يتمتع بقدرة بدنية تكفي لعمل ثلاثة رجال، وكانت قيادته ومهاراته الاستراتيجية مذهلة. أما كامبريدج، فكانت تخسر أمام أكسفورد في منافسة التجديف لسنوات. كانوا يعتبرونه ضرورة قصوى. لكن رغم توسلات المدرب وتهديداته، لم يُعرهم أي اهتمام.”
“ولماذا ترك التجديف؟”
“لأنه لم يكن يجد وقتًا شخصيًا يجمع بين الدراسة والرياضة. وكان قد وعد والده أن يكرّس نفسه لاهتماماته بعد دخوله الجامعة. حتى إن رئيس الجامعة تدخل بنفسه لإقناعه، ووعد بالتحدث إلى الأساتذة ومنحه منحة دراسية. لكنه رد قائلًا…”
“‘لقد جئت إلى هنا لأدرس، لا لأكسب سمعة للجامعة. الفوز على أكسفورد لا يعني لي شيئًا، ولا أريد أن أهدر دقيقة واحدة فيما لا قيمة له. وإذا كنتَ، يا سيدي الرئيس، ترى أن سمعة الجامعة تُقاس بمن يجدّف أسرع، فأقترح أن تعيد النظر في الأمر من البداية.'”
أصابت الدهشة لورا أمام هذا الثبات المذهل.
“وفي النهاية، رفع الجميع أيديهم استسلامًا، وأُعفي السيد دالتون. وخلال أربع سنوات، خسرت كامبريدج أمام أكسفورد في التجديف، وفي كل مرة كان طلاب الجامعة يرمقونه بنظرات الغضب. صار هدفًا لانتقادات العلن.”
ابتسم القس، ثم أردف:
“لكن رغم ذلك، عاش حياته الجامعية بهدوء، دون أن يهتز. كان دائمًا ما يقرأ الكتب ويرسم قرب البحيرة حيث يتدرب الفريق، كأنه يسخر من المدرب الذي ضايقه ذات يوم. ولم يفته قط أن يكون الأول على دفعته في كامبريدج طيلة أربع سنوات، وتخرج متفوقًا على الجميع.”
ساد صمت لبرهة. وبعد عشر ثوانٍ تقريبًا، انفجر الثلاثة بالضحك، كأنهم كانوا يكتمونه. فقد كان من يعرف إيان دالتون يدرك على الفور حقيقة واحدة:
هذا الرجل متسق إلى حد لا يُصدَّق.
م.م: متسق هو الشخص الذي يتمتع بصفات وسلوكيات ثابتة وموثوقة عبر الزمن والمواقف المختلفة.
مرحبا يا أحلى قراء، هنا نصل إلى نهاية قسم وايتفيلد بسبعة أقسام كاملة 🥰 أراكم في الدفعة القادمة 💜
التعليقات لهذا الفصل " 90"