⚠️لا تجعلوا قراءة الروايات تلهيكم عن الصلاة وعن ممارسة الشعائر الدينية😁
كانت مُتفاجئة واقتربت أكثر من النافذة.
لم تستطع رؤية النهاية. ما بين الأشجار، لم يكن هناك سوى غابة من شجر البتولا الكثيف. أبيض… أبيض… أبيض.
كانت أوليفيا تتحدث بفخر، لكن لورا لم تسمع كلمة واحدة. لقد غابت تمامًا. لم يسبق لها أن رأت مشهدًا كهذا من قبل.
كانت غابة دنڤيل بارك مهيبة وأصيلة. أشجار شاهقة، شجيرات غنية، أزهار برية، وثمار متفرقة. لحظة دخولها إليها، غمرتها حيوية خضراء نابضة بالحياة. لقد شعرت بروح الطبيعة تتدفق في عروقها هناك.
لكن وايتفيلد التي انكشفت أمام عينيها الآن لم تكن كـ دنڤيل بارك. كانت حالمة، غامضة، كأنها عالم من الأحلام، أو ربما سحر خفي. التباين الواضح بين بياض جذوع الأشجار وعقدها السوداء، والقطع الذهبية من أشعة الشمس المتكسّرة التي تتلألأ من فوق، والأوراق الخضراء التي شكّلت مظلة كثيفة، ومن خلفها تطلّ سماء يوركشاير الزرقاء الفاتحة.
إن كانت غابة دنڤيل بارك ملعبًا صممه الله، فإن وايتفيلد كانت عملًا فنّيًا متقنًا صنعه بيديه.
لعشر دقائق، ظلّت تحدّق عبر النافذة بلا حراك بينما تندفع العربة على طريق البتولا. حتى مجرد غمضة عين قصيرة كان مؤلمًا، وكأنها ستفقد جزءًا من هذا الجمال إن غابت لحظة واحدة. أرادت أن تحتفظ به في عينيها طويلًا… للأبد، إن أمكن.
لكن كل شيء له نهاية. سرعان ما خرجت العربة من الغابة الطويلة وبدأت تعبر الجسر الممتد فوق جدول ماء.
عندها فقط، أدركت لورا أنها كانت مسحورة بوايتفيلد. وقلبها يخفق بقوة.
أخذت نفسًا عميقًا لتهدئ اضطرابها. لحسن الحظ، ساعدها منظر الأشجار المهذبة في الحديقة على استعادة هدوئها. عادت إلى طبيعتها، وعلى شفتيها ابتسامة خفيفة، لتتمكن أخيرًا من مجاملة أوليفيا ببضع كلمات عن الغابة البيضاء التي مروا بها للتو.
دخلت العربة الحديقة المشذّبة بعناية، وتوقفت أمام القصر. وحين فتح السائق الباب، نزلت السيدتان بخطوات متأنية إلى درجات المدخل.
رفعت لورا رأسها ببطء، لتقع عيناها على القصر. سرعان ما اجتاحها شعور بالرهبة مختلف تمامًا عن الانتشاء الضبابي الذي شعرت به في الغابة.
وايتفيلد هول كان قصرًا ضخمًا من خمسة طوابق، عريضًا من الجانبين. على الرغم من أن شكله العام زاوي، إلا أن انحناءات رقيقة بدت في بعض تفاصيله. خمس أعمدة يونانية وصلت درج الطابق الأول بشرفة الطابق الثاني، وتماثيل لآلهاتٍ يقفن على التراس، رافعات أيديهن نحو السماء.
م.م: كلمة “زاوي” تعني بشكل عام “منسوب إلى زاوية أو ركن”. كما تُستخدم لوصف “شكل ذو زاوية أو زوايا”، متشوقة لأراها في المانهوا.
كان ذلك بناءً يونانيًا نادرًا في إنجلترا. وقفت لورا للحظة مأخوذة بجماله البهي.
أفهم الآن فخر السيد دالتون، وحبّه العميق لهذا المكان. كل من يجعل منه منزله، سيحبه للأبد، ولن ينساه حتى لو ابتعد عنه.
“السيد رامسويك!”
نادَت أوليفيا الواقفة بجانب لورا نحو البوابة.
التفتت لورا بدهشة لترى رجلاً مسنًا قصير القامة، بشعر أبيض، يرتدي بذلة سوداء، يخرج مسرعًا من البوابة المفتوحة متجهاً نحوهما.
توقف أمام أوليفيا، وعلى وجهه ملامح ارتباك واضحة.
“صباح الخير يا آنسة. ما الذي جاء بكِ؟”
“زيارة بالطبع! مرّ ما يقارب العام منذ آخر مرة رأيتك فيها شتاء العام الماضي. هل ركبتك بخير؟”
“بخير، أشكرك يا آنسة.”
أشارت أوليفيا إلى لورا التي تقف بجانبها.
“سيدي، هذه المعلمة الجديدة لدينا. اسمها الآنسة لورا بندلتون.”
انحنى رامسويك على الفور احترامًا.
“صباح الخير. أنا رامسويك، كبير خدم قصر وايتفيلد.”
انحنت لورا بدورها وقالت بلطف:
“صباح الخير يا سيد رامسويك.”
قال: “سمعت أن لديكم معلمة جديدة في دنڤيل بارك. لقد كانت عونًا كبيرًا لكم خلال إقامتكم في لندن.”
أجابت أوليفيا بابتسامة: “لقد أخذتُ بقدر ما أعطيتُ.”
ثم سألت: “لكن أين خالي؟”
“إنه يجتمع مع محاميه الآن.”
“حقًا؟” رفعت أوليفيا رأسها باستغراب.
أعاد رامسويك نظره إلى لورا، ثم قال:
“لقد كنت أنتظر زيارتكما بفارغ الصبر. تفضلا بالدخول، سأقوم بجولة تعريفية لكِ في قصر وايتفيلد.”
ابتسمت أوليفيا وقالت:
“يا لها من فرصة نادرة. أليس القصر مشهورًا بأنه لا يستقبل زوّارًا؟”
“هذا صحيح. تفضلا من هنا.”
حينها أمسكت أوليفيا بذراع لورا برفق.
“سيدي، بينما تأخذها في جولة داخل القصر، سأذهب لرؤية الزهور في الحديقة. نلتقي لاحقًا في المكتبة.”
وركضت خلف المبنى وكأنها تعرفه جيدًا.
أما لورا، فدخلت مع رامسويك القصر. عبرت الممر في الطابق الأول، ثم فتح لها بابًا واسعًا. انكشف أمامها صالون طويل ممتد على الجانبين.
“إنه الـ لونغ غاليري.”
خطت لورا ببطء إلى الداخل. مئات اللوحات تزيّن الجدران على امتداد القاعة.
كانت تتابع رامسويك وتتأمل اللوحات الكبيرة والصغيرة، حتى لاحظت اختلافًا جوهريًا عن المعارض التقليدية في قصور النبلاء.
فالمعارض غالبًا ما تكتفي بصور الأجداد أو أفراد العائلة المالكة المرتبطين بالبيت. لكن لونغ غاليري في وايتفيلد هول كان مختلفًا: لوحات طبيعية، لوحات صامتة، مطبوعات… مزيج متنوع وغني.
قال رامسويك:
“عائلة دالتون عُرفت بعشقها للفن منذ نشأتها، وكان جمع اللوحات جزءًا مهمًا من حياتها. السيد الراحل كان مولعًا بالسفر إلى أوروبا لاقتناء التماثيل واللوحات.”
كانت لورا تنظر بعينٍ خبيرة. فهي نشأت في كنف جدتها المحبة للفن، وصارت تمتلك حسًا مميزًا في تذوقه. وسرعان ما أدركت أن هذه المجموعة فريدة. بعض اللوحات كان لفنانين فرنسيين وإيطاليين مرموقين.
انتقلت بعدها برفقته بين الصالون وغرفة الطعام في الطابق الثاني. كل جدار كان يزدان بلوحة، وكل زاوية تحتضن تمثالاً، والأثاث والنوافذ يعكسون ذوقًا رفيعًا، كأنها مقتنيات عُني بها لقرون.
وبعد نصف ساعة من الجولة، شعرت لورا بانتعاش غريب. كل ما يحيط بها كان جميلًا ومنسقًا بعناية. وايتفيلد هول كان أقرب إلى متحف حيّ.
“ليس غريبًا أن يكون السيد دالتون محبًا للفن.”
وأخيرًا، قادها رامسويك إلى المكتبة في الطابق الثاني.
فتح الأبواب الثقيلة، وفور أن دخلت لورا، انقطعت أنفاسها للحظة. كان الإحساس مختلفًا عن الانتعاش الذي شعرت به سابقًا. كان صادمًا، مبهرًا.
كانت مكتبة وايتفيلد أشبه بمكتبة جامعية. رفوف عالية تمتد حتى السقف، سلالم متحركة، وتصميم بطابقين يصل حتى الطابق الثالث. آلاف الكتب تملأ المكان حتى لم يبقَ ركن خالٍ.
لم ترَ لورا عددًا كهذا من الكتب إلا في مكتبة كبرى في لندن لكن تلك عامة، وهذه خاصة! لم تسمع من قبل بعائلة واحدة تمتلك مثل هذه الثروة الفكرية.
تسارعت دقات قلبها.
“معلمتي!”
التفتت لورا إلى صوت أوليفيا، فرأتها تلوّح لها من زاوية المكتبة حيث جلست إلى مكتب صغير، عليه بعض الكتب، وصينية شاي مع كعك موضوع في أوانٍ مزخرفة بورود.
اقتربت منها لورا وقالت:
“رأيتُ القصر بأكمله. إنه رائع بحق.”
ابتسمت أوليفيا: “أليس كذلك؟ يجب أن تزوري الحديقة أيضًا، فهي مليئة بالنباتات النادرة.”
قالت لورا بدهشة: “بالتأكيد، لكن ما أذهلني أكثر هو هذه المكتبة. كيف يمكن أن يجتمع هذا الكم الهائل من الكتب؟”
أجاب رامسويك القريب منهما:
“الأسلاف جمعوا عشرات الآلاف من الكتب عبر القرون. أما سيد القصر فقد كان يقول دائمًا: إن كثرة اللوحات والتماثيل تحتاج إلى توازن بالعلم والفكر.”
وأضاف: “كل هذه الكتب مشتركة مع مكتبة دنڤيل بارك. يمكنك استعارتها متى شئت.”
تلألأت عينا لورا بابتسامة فرح لم تخفِها.
“شكرًا لك.”
ثم أمسكت كتف أوليفيا وقالت:
“آنسة فيرفاكس، هل تسمحين لي بلحظة وحدي؟”
“بالطبع.”
فانطلقت لورا مسرعة بين الرفوف، تتصفح الكتب بلهفة.
حين ابتعدت، انحنت أوليفيا نحو رامسويك وهمست له:
“هل سمعت القصة من خالي؟”
“أي قصة يا آنسة؟”
تنهّدت أوليفيا بامتعاض وقالت:
“آه، حتى أنت لا تعلم! السيد رامسويك… الفتاة التي يُعجب بها خالي، هي تلك المعلمة.”
التفت رامسويك نحو المكان حيث تقف لورا تقلب كتابًا، فرأى خصلات شعرها الكستنائي اللامعة المربوطة بعناية، ورقبتها النحيلة. في تلك اللحظة، تذكّر صورة المرأة في دفتر الرسومات التي كان السيد إيان يطيل النظر إليها.
“آه… أشعر أنني رأيتها من قبل!”
وضعت أوليفيا إصبعها على شفتيها قائلة:
“ششش!”
أطبق رامسويك فمه بسرعة، وظل يراقب ظهر لورا وقلبه يخفق، خائفًا أن تكون قد سمعت شيئًا. لكن لورا كانت منهمكة تمامًا، رأسها منحنٍ على كتاب جلدي، غارقة في قراءته.
التعليقات لهذا الفصل " 85"