أستغفر الله العظيم واتوب اليه ⚠️لا تجعلوا قراءة الروايات تلهيكم عن الصلاة وعن ممارسة الشعائر الدينية😁
الجزء الثالث: باث
“حسنًا، وداعًا.”
انحنى موظف الاستقبال، الذي كان قد حمل صندوق لورا إلى المدخل، بانحناءة مهذّبة.
أومأت له لورا سريعًا وحوّلت نظرها إلى الشارع. كان الرصيف يعج بالسيدات والسادة ببدلات فاخرة مفصّلة بعناية، والعربات المزيّنة بشعارات عائلاتهم مصطفة على طول الطريق، بينما كانت درجات الغروب البرتقالية قد بدأت بالفعل تلوّن الأفق.
تنهدت.
“آه، ماذا عساي أن أفعل؟”
وصلت لورا إلى باث قرابة الظهر. قررت أولًا أن تفكّ أمتعتها، فاتجهت مباشرة إلى النزل الفخم الذي أوصت به السيدة فيرفاكس.
لكنها فوجئت بأن النزل قد تحوّل إلى متجر ضخم من أربع طوابق للألبسة المفصّلة. وبعد أن سألت المالك، علمت أن المبنى قد بيع في الربيع الماضي، وتغيرت ملامحه تمامًا.
وبشيء من الارتباك، طلبت لورا من إحدى العربات المأجورة أن توصلها إلى أي نزل محترم قريب.
غير أنها لم تجد مأوى. طرقت أبواب أربعة أو خمسة نزُل، لكنها جميعًا كانت ممتلئة.
عندها فقط بدأت لورا تحسب الأيام منذ وصولها إلى باث، ثم أطلقت تنهيدة على غبائها. لقد وصلت متأخرة كثيرًا، بعد انتهاء موسم لندن الاجتماعي، ذلك الوقت الذي يتدفق فيه الأرستقراطيون إلى المدينة الساحلية.
كان الذين لا يهوون الصيد يفضّلون باث عادة. كل ليلة كانت حافلة بالكرنفالات والمقامرة، حيث يُهدر المال بسعادة في المتاجر والمطاعم الراقية. كما أنها المكان الأمثل للعثور على زوج، أو ربما على عشيق سرّي.
غالبًا ما كان النبلاء قد وصلوا إلى باث قبل شهر أو شهرين، واستأجروا مساكن طويلة الأمد. أما لورا فقد تأخرت كثيرًا.
وعلى الرغم من أنها بلغت التاسعة والعشرين، إلا أنها شعرت بالضياع.
“هل هذا هو الحل الوحيد؟”
أخرجت لورا من جيبها ظرفًا ورقيًا. كانت الرسالة التي أرسلتها لها الآنسة هايد في وقت سابق.
“فندق لوريل.”
كانت قد أجّلت زيارة فندق الآنسة هايد لوقت لاحق. كانت تعلم أنها ستكون موضع ترحيب حتى لو ظهرت فجأة، لكن وجودها هناك كان لغرض العمل، وقد خشيت أن تسبّب إحراجًا لمضيفتها أو تعيق عملها.
لكنها الآن لم تجد خيارًا آخر. وإلا لوجدت نفسها مضطرة للنزول في نُزل متواضع من الدرجة الثالثة، حيث يختبئ عادة المجرمون الهاربون.
استأجرت عربة من جديد وطلبت التوجه إلى فندق “لوريل”. وبعد نصف ساعة، توقفت العربة أمام الفندق الواقع في قلب باث.
كان المبنى، الذي يعود تاريخه إلى خمسة قرون على الأقل، ذا مظهر غامض أشبه بقلعة منعزلة في رواية قوطية.
قادها البوّاب إلى الداخل. وعلى النقيض من واجهته، كان المبنى من الداخل عصريًا بشكل مدهش.
توجهت لورا إلى مكتب الاستقبال وسألت إن كانت “جاين هايد” بين النزلاء. مسح موظف الاستقبال العجوز، الذي بدا وكأنه يعمل هنا منذ خمسمائة عام، قائمة النزلاء وأومأ.
“ها هي. الآنسة جاين هايد. وهي تتقاسم الغرفة مع الآنسة ماري لوتيس.”
شعرت لورا بصدمة صغيرة. كانت قد خططت للبقاء مؤقتًا في غرفة الآنسة هايد حتى تجد مسكنًا جديدًا، لكن ذلك لن يكون ممكنًا إن كانت تشارك الغرفة مع ماري لوتيس.
على أمل أن تتمكن الآنسة هايد من إرشادها إلى مكان مناسب، كتبت لورا رسالة وطلبت إيصالها إلى غرفة الآنسة لوتيس.
بعد خمس دقائق، وبينما كانت لورا تتمشى بقلق في البهو حيث تنتصب نافورة حديثة، سمعت صوتًا مألوفًا يناديها من خلفها.
“الآنسة بندلتون!”
التفتت لورا لترى الآنسة هايد واقفة، ترتدي بدلة حريرية زرقاء فاتحة. لم تكن مبالغًا فيها، لكنها بدت أكثر أناقة بكثير من أزياء المكاتب اللندنية المعتادة.
اقتربت منها الآنسة هايد بخطوات سريعة واحتضنتها بحرارة.
“يا للمفاجأة! جئتِ فجأة وكأنها هدية غير متوقعة!”
بادلتها لورا العناق على استحياء. فاض قلبها فرحًا كما يفيض إناء ماء تُرك طويلًا فوق النار، لكن الحرج منعها من التعبير الكامل.
وكان السبب هو السيدة التي وقفت وراء الآنسة هايد.
شعرها الأسود منسدل بحرية، وفستانها الأزرق الداكن المفصّل على جسدها يليق بها تمامًا. وجهها الأسمر المشرق، ذو الملامح الإلهية تقريبًا، كان يفيض صحة وجاذبية. كانت تمسك بعصا سوداء في إحدى يديها.
لقد أضفت حضورًا طاغيًا، يكفي أن يقبض على أنفاس من حولها.
قالت المرأة ذات الحضور الاستثنائي:
“جاين، ألا تعرّفينني على صديقتك؟”
وعلى عكس انطباعها، كان صوتها هادئًا رقيقًا، بل بالغ الرقة حتى انعكس ذلك في نبراتها.
فكت الآنسة هايد عناقها وقالت:
“الآنسة بندلتون، هذه السيدة ماري لوتيس، الكاتبة الرحّالة التي أساعدها. والسيدة لوتيس، هذه الآنسة لورا بندلتون التي أخبرتك عنها.”
انحنت لورا قليلًا لتحيتها، فابتسمت السيدة لوتيس قائلة:
“أعذريني إن لم أردّ التحية بالطريقة التقليدية. ركبتيّ تؤلماني، وهذا النوع من الانحناء يؤذي حوضي.”
ومدّت يدها الصغيرة المغطاة بقفاز جلدي أسود. صافحتها لورا بهدوء مرتين أو ثلاثًا ثم أفلتتها.
قالت لوتيس بابتسامة: “لقد سمعت من جاين أنك علّمتِها الطباعة. أنا أسمّي من يمهّد الطريق أمام امرأة لتصبح مستقلة: المنقذة. ويسعدني أن ألتقي بك، يا منقذة جين.”
احمرّ وجه لورا قليلًا.
“لقد ساعدتها قليلًا فقط، أما الفضل فهو لها.”
ضحكت لوتيس وقالت: “لقد أخبرتني جاين بأنك متواضعة جدًا، لذا لن أصدّقك. آه، وسمعت أيضًا أنك خريجة مدرسة غرانت للبنات. وأنا كذلك من خريجاتها.”
ارتبكت لورا ثم قالت بدهشة: “حقًا؟”
“نعم. تلك المدرسة التي تُنتقد في إنجلترا كلها، لأنها تضيّع وقت الفتيات في اللاتينية واليونانية بدلًا من إرسالهن للجامعة، وتعلمهن التطريز وتنسيق الزهور بدلًا من مهارات الحياة الأساسية.”
قالت لورا مبتسمة: “إذن فأنتِ أقدم منّي في المدرسة. يشرفني اللقاء بك.”
ابتسمت لوتيس: “أخيرًا حييتني! أظن أن لدينا الكثير لنتحدث عنه. هيا نصعد إلى الغرف.”
بينما كانت لورا تتبعها، لاحظت عرجًا خفيفًا في مشية لوتيس. لقد كان عصاها السوداء دعامة لساقها اليسرى المصابة.
كان جناحهن في الطابق العلوي. وعندما فتح الباب، ظهر صالون واسع مؤثث بخشب الماهوغاني الفاخر وجدران مغطاة بورق جدران أخضر بزخارف ذهبية أنيقة.
جلسن على الأريكة يشربن الشاي، وتبادلن الأحاديث. كانت السيدة ماري لوتيس في الثانية والثلاثين، تكبر لورا بثلاث سنوات. ومع أنهما لم تتذكّرا بعضهما، إلا أنه كان واضحًا أنهما درستا معًا.
خلال ساعة واحدة من الحديث، شعرت لورا وكأنها تعرف لوتيس منذ سنوات، وبدت الأخيرة تشعر بالأمر نفسه.
وفي حين كانت هايد تراقبهما بسعادة، قالت فجأة: “كم يسعدني أن أراكما منسجمتين!”
“ولماذا يا آنسة هايد؟”
“لأنكما من أحب الناس إلى قلبي.”
ابتسمت لورا. كان واضحًا أن رئيسة هايد تعاملها معاملة جيدة.
لقد كانت لورا تتوقع من رسالة هايد أن تكون لوتيس شخصية متسلطة، من النوع الذي يقتحم دار النشر فجأة ويسحب الطابعة لتجعلها سكرتيرتها.
لكنها لم تُظهر شيئًا من ذلك. كانت لطيفة للغاية مع لورا، بل وأحيانًا رقيقة مع هايد. خصوصًا حين تناديها “جاين”…
“هناك حلاوة في نبرتها.”
ظنت لورا أن العلاقة بينهما أشبه بالأخوات. وذلك طمأنها.
قالت لوتيس: “الآنسة بندلتون، هل تمانعين مشاركتنا الغداء غدًا؟ لقد مللنا خدمة الغرف.”
أجابت لورا: “سيكون من دواعي سروري، يا سيدة لوتيس.”
قاطعتها هايد بحماس: “غدًا نحن ذاهبتان إلى المطعم الفرنسي المجاور للفندق. حجزت مقعدين، لكن من السهل إضافة ثالث. سأرسل عربة مأجورة وقت الغداء. أين تقيمين؟”
اضطرت لورا للاعتراف بخجل أنها لم تجد مكانًا للإقامة.
سألتها لوتيس مباشرة: “وأين أمتعتك الآن؟”
“تركتها في مكتب الاستقبال بالأسفل.”
رنّت لوتيس الجرس المثبّت على جدار الصالون. دخل خادم، فأمرته بجلب حقيبة الآنسة بندلتون من الاستقبال.
ولدهشة لورا، أوضحت لوتيس بهدوء: “الآنسة بندلتون، لا توجد أماكن شاغرة في باث الآن، خاصة لسيدة مثلك. هناك غرفة فارغة هنا، يمكنكِ الإقامة فيها.”
خفق قلب لورا من كرمها.
“هذا أكثر مما كنت أطمح إليه. لكن اسمحي لي أن أدفع ثلث أجرة الغرفة على الأقل.”
لوّحت لوتيس بيدها. “كل المصاريف على حساب دار النشر. لا تقلقي واعتبريه منزلك.”
احمرّت وجنتا لورا وشكرتها. ضحكت هايد، ثم شبكت ذراعها بذراع لوتيس وأسندت خدها على كتفها.
“أرأيتِ يا آنسة بندلتون! قلت لك إنها إنسانة طيبة.”
ابتسمت لورا وأومأت. بالفعل، لقد كانت ألطف بكثير مما توقعت.
‘أصدقاء قدامى وزميلات دراسة. ربما، بقضائي الوقت معهما، سأنسى السيد دالتون.’
كانت عازمة على الانغماس في حياة باث. فجزء كبير من سبب هروبها من يوركشاير كان نسيان السيد دالتون.
Sel للدعم : https://ko-fi.com/sel08 أستغفر الله العظيم واتوب اليه
التعليقات لهذا الفصل " 115"