شاكرونَ لسعادتنا في اللّحظة الحالية
اليوم كانَ هناك تجمّعٌ لتناول الشاي مع السيدات.
اجتمعتْ السّيدات حولَ الطاولة بهدوءٍ وأناقة.
“الشاي عطريّ جدًا.”
“من الرّائع أن يعجبكن. لقد أرسلته جلالة الإمبراطورة خصيصًا للسّيدات.”
“يا إلهي.”
“بفضل الدوقة، يمكننا دائمًا تذوّقُ مثلِ هذا الشاي الثمين.”
على الرّغمِ من أنّ أرض الشّمال قاحلة، وعلى الرغم من الأيام الخطرة التي مررنا بها، كانَ هؤلاء الأشخاص هم مَن حافظوا على الإقليم بثباتٍ معًا.
بعد أن سادَ السّلام، كنتُ أقيمُ مِثل هذه التّجمعات من حينٍ لآخر للتّعبيرِ عن امتناني لهم.
علَى الرّغمِ من أنها كانت تُعقد مرّةً كل نصف شهر على الأكثر، إلا أن السّيدات كنَّ راضيات تمامًا.
في الأصل، معظمُ نبلاء الشّمال، بشكلٍ غريب، يشبهون كايروس في طباعهم، فهم لا يستمتعون كثيرًا بالحفلات أو تجمّعات الشاي.
لا حاجة للقاءات المتكرّرة، و حتى عندما نلتقي، نتبادلُ التّحيات مع كوب من الشاي وننهي الأمر بسرعة.
“لم يبقَ سوى القليل على موعد الهجرة، أليس كذلك؟”
“نعم، حوالي شهر واحد.”
قبلَ بضعة أسابيع،
الشّجار الزوجي الذي هزَّ قصر الدوق تمَّ حلّه بسلاسة بفضلِ تصرٌفِ الإمبراطور السّريع.
“هذه أيضًا مِن القصرِ الإمبراطوري، سيدتي!”
“قلنا انه لا داعي، لكنهم أرسلوا كلّ هذا.”
“أمي، هل يمكنني فتحها؟”
“بالطبع. هل نفتحها معًا؟”
“حسنًا!”
بسبب الهدايا الكثيرة التي أرسلتها ليلي بعد عودتها، قضتْ إستيل اليوم بأكمله في فتحِ الهدايا بسعادة.
كانتْ هناك 12 قبيلة من الأقليات كانت تسبّب مشكلةَ الهجرة.
من بينها، كانتْ قبيلة هوبسي هي الأكثر إشكالية، لكن فِي النّهاية، استقرّت جميع القبائل الـ12 في إلكيوم.
نقلتْ معظمَ القبائل القريبة من الحدود مواقعها، بينما وقّعتْ القبائل الأخرى فقط كمواطنين في إلكيوم.
بعد ذلك، قدّمتْ الإمبراطوريّة دعمًا كبيرًا لتغطية تكاليف الهجرة و تمكينهم من اختيار المناطق التي يريدون العيش فيها، مع التّحضير السّريع.
بما في ذلك قبيلة هوبسي، التي تمتلك عيون التنبؤ، فإن معظمَ الأقليات لديها قدرات كبيرة وصغيرة تنتقل عبر الدم.
لهذا السّبب، قدّمت دولٌ أخرى عروضًا مغرية للهجرة، لكن اختيارهم إلكيوم يستحقّ المكافأة.
حاليًا، الشّمال أيضًا مشغولٌ باستقبالِ المهاجرين.
“لقد تفاجأتُ حقًا عندما قرّرتْ قبيلة هوبسي الهجرة إلى الشّمال.”
“أنا أيضًا. أليس هذا بفضلِ جهود الدّوق و الدّقة؟”
يبدو أن سببَ تغيير هوبسي لقرارها بعدم القدوم إلى إلكيوم معروفٌ فقط للإمبراطور…
على أيّ حال، كانَ قرار هوبسي بنقل موطنها إلى الشّمال القاحل مفاجئًا بعض الشيء، لكن انضمام قبيلةٍ غامضة تمتلكُ عيون التنبؤ إلى الشّمال كانَ أمرًا يستحقُّ التّرحيب.
“شكرًا للجميع على موافقتهم بسخاء. جينجر، هل يمكنكِ إحضار ما أعددناه؟”
“نعم، سيدتي.”
شكرتُ النبلاء مَع الهدايا التي أعددتُها مسبقًا.
بعدَ كلّ شيء، كانَ هذا القرار ممكنًا بفضلهم.
نظرتُ إلى السّيدات السّعيدات و ارتشفت الشاي ببطء.
* * *
مرّتْ الأيّام بسرعة، وجاءَ الشتاء، رمز الشّمال.
خلالَ الصّيفِ الحارّ، اكتملت هجرة هوبسي إلى الشّمالِ بنجاح.
بعد أشهر من التّكيف، بدأوا في التفاعل مع سكان القرية، وأصبحت أنا و كايروس نقضي وقتًا أطول في العاصمةِ مرّةً أخرى.
ديلان، الذي كانَ يستخدم العكازات و الجبيرة في كلّ مرّةٍ نلتقي به بسببِ إصاباته المتكرّرة، تعافى أخيرًا.
على الرّغمِ من أنّني سألته مرارًا، تجنّبَ ديلان الإجابة حتّى التقيتُ بلوكس و جوش، وعرفتُ السّببَ أخيرًا.
لقد بدأ علاقةً عاطفيّة منذ وقتٍ قريب.
“لقد أُصيبَ و هو يحاولُ إنقاذ خطيبته.”
و كانتْ خطيبته من فرقة الفرسان الإمبراطورية.
مثلي أنَا ، مرّتْ سنواتٌ منذ أن تركَ ديلان فرقة الفرسان، لذا كنتُ متعجّبة، لكن بعد معرفة المزيد، اكتشفتُ أنّها من فرقة الفرسان العاشرة.
لم تكن حبيبته عندما حاولَ إنقاذها، لكن بعد إصابته الخطيرة و علاجها له، تطوّرتْ علاقتهما.
عندما تحدثّنا، قالَ انّه لم يكن متأكّدًا من العلاقة بعد.
بعد كشفِ كلّ الأسرار، احمرّ وجه ديلان بشكلٍ غير معتاد، و لمّحَ جوش إلى أن مقعد الماركيزة قد يُملأ قبلَ صيفِ العام القادم.
“و ماذا عنكما؟”
“نحن، الأخوين ، ما زلنا نريدُ الحريّة.”
“نعم، نعم. سنكون العمّين اللذين يشتريان الهدايا للأميرةِ إستيل الجميلة.”
هكذا أجابَ جوش و لوكس عندما سألتهما عنهما.
ومعَ ذلك، مرَّ الخريف بسرعة.
بسببِ الجدول المتضارب، لم أرَ أيّ شخص من قبيلة هوبسي حتّى جاءَ الشتاء.
‘كايروس هو مَن يقوم بمعظم تفقد الإقليم، و أنا أنضمّ أحيانًا فقط لاستنشاق بعض الهواء النقي.’
كنتُ فضولية بشأن عيونهم التي تَرى المستقبل، وجاءتْ الفرصة هذه المرّة..
في اليَوم الأخير مِن العام.
بعد إنهاء الأعمالِ في العاصمة، أقمنا حفلًا في الشّمال لإنهاء العام.
كانَ الحفل الأكبر، الذي يستمر حتى الأوّل من يناير، وقد دعونا هوبسي، و حضرَ الجميعُ دون استثناء.
مِن بينهم، كانَ هناك شخص بَرز بشكلٍ خاصّ.
ريمايد تيروسو.
قالَ إنه جاء لتحية قصر الدوق شخصيًا، لكنني لم أكن موجودة يومها، لذا رأيته لأوّل مرة اليوم مثل الآخرين.
الآن، أصبحوا مثلَ سكّان الإقليم، لكن ريمايد تيروسو، زعيمهم السّابق، كانَ رجلًا عجوزًا جدًا.
تشتهر قبيلة هوبسي بطولِ العمر، و كانَ ريمايد يزيد عن التسعين بكثير.
قالَ إنه توقّفَ عن عدِّ السّنوات بعد تجاوزه التسعين، لذا مِن المؤكد أنه أكبرُ من ذلكَ بكثير.
‘ظننتُ أنّ من يرى المستقبل سيكونُ مميزًا’
باستثناءِ قرط غريب في إحدى أذنيه، كانَ مثل الآخرين.
في وقتٍ متأخّر، بعد أن نامتْ إستيل، عدتُ للاستمتاع ببقيّة الحفل، عندما اقتربَ ريمايد تيروسو.
“نشكر كلا السّيدين على قبولنا.”
“نحنُ من نشكركم على اختيار هذا المكان. إذا كان هناك أي إزعاج، أخبرونا في أيّ وقت.”
“يقال إن الجشع المفرط يَجلب المصائب. حياتنا مستقرّة بما فيهِ الكفاية الآن.”
“هذا رائع حقًا.”
يقال إنّ من يرى المستقبل يتحدّث فقط عند الضرورة.
بعد إنهاء المحادثة القصيرة و استدارتي للمغادرة، تحدّثَ ريمايد بهدوءٍ وهو لا يزال واقفًا.
“دوقة، أنتِ من استحوذتِ على سعادتكِ بنفسكِ.”
“…ماذا؟ ماذا تعني؟”
استدرتُ أنا أيضًا.
“لم أرَ أي ظلال داكنةٍ في مستقبلكِ، مما أثارَ دهشتي، فواصلتُ مراقبتكِ. أعتذر عن وقاحتي.”
تحدّثَ ريمايد بكلامٍ غامض و انحنى.
“لا، ليس هذا… ماذا تعني؟”
“بعد معاناةٍ طويلة، استحوذتِ على سعادتك بنفسكِ، لذا أرى نورًا مشرقًا فقط. لم أدرك أنكِ شخصيّةٍ عظيمة.”
“……”
أليستْ عيونهم ترى المستقبل فقط؟
هل يمكنُ أن يشعر أيضًا بأنني عُدتُ إلى الماضي؟
“هل تعرفُ شيئًا عني؟”
“لا، ليستْ معرفة. إنها مجرّد موهبةٍ صغيرة .”
قال ريمايد إنه لا يرى لحظةً محددة، بل مستقبلًا مليئًا بالنّور دون ظلال.
عادةً، يحملُ النّاس أضواء ملوّنة أو ممزوجة بسُحبٍ داكنة بسبب التّحديات الكبيرة و الصغيرة، لكن أنا أحمل نورًا مشرقًا فقط.
انتهتْ المحادثة هناك، لكن كلماته ظلّت تتردّدُ في ذهني حتى استلقيتُ في السرير ليلاً.
“لقد تعبتِ اليوم أيضًا.”
“وأنتَ أيضًا.”
لامستْ شفتا كايروس جبهتي.
ابتسمتُ بهدوء و تعلّقتُ بحضنهِ أكثر.
‘حسنًا، لم تكنْ كلماتٍ سيئة.’
إذا كان يقولُ إن المستقبل سيكوُن مليئًا بالأمور الجيدة، فلأعتبره كلامًا جميلا.
شممتُ الرّائحة الدّافئة المفضلة لديّ في العالم و غفوتُ علَى الفور.
في تلكَ اللّيلة، حلمتُ حلمًا طويلًا جدًا.
منذ ولادة إستيل، توقّفتُ عن رؤية الكوابيس أو استرجاع الماضي.
لكن في ذلكَ الحلم، كنتُ أتجوّلُ في ذكريات لم أعرفها أبدًا.
“هذا…”
كنتُ أعتقد أنني أعرفُ كل ذكريات حياتي السابقة بعد العودة بالزّمن ، لكن يبدو أنني كنت مخطئة.
في الحلم، تم أخذي إلى المذبح مرّةً أخرى، لكنني نجوتُ بأمان.
لقد كانَ ذلكَ بعد أن ضحّى هو بنفسه، وتحمّل نصيبي من الموت، و أصبحَ هو التضحية بدلاً مني.
في حياتي السابقة، كانت نهايتي أنا و كايروس معًا في الموت . أو ربّما كانت تلك حياة متكررة متضمنة موتي أنا فقط.
لكن هذهِ المرة، كانت العكس.
في تلكَ الحياة، رأيتُ كايروس لأوّلِ مرّة، لكنني لم أفهم لماذا اختارَ التّضحية بنفسهِ من أجلي.
رجلٌ لم أره مِن قبل.
و معَ ذلك، أنقذني و حماني.
بعد النّجاة من الموت، بحثتُ عن طرقٍ لإنقاذ الرجل الذي اختارَ التّضحية من أجلي.
فبينما دفعني الجميع إلى الموت، كانَ هو الوحيد الذي وقف إلى جانبي و قامَ بِحمايتي.
بعد محاولاتٍ لا تُحصى، يبدو أنّني وجدتُ الطريقة.
مِن جيرمان بيلسون، الذي أصبح سيّد برج السحرة السابق، استخدمتُ تعويذة تعلّمتها و قدّمتُ كلَّ قوّتي و ذكرياتي.
وأخيرًا، نجحت.
تلكَ كانتْ أولّ عودة لي، حيثُ ضحّيت فيها بكلّ شيء.
ثم تتابعتْ العودات مرارًا، بدافعِ رغبتي في حمايته.
و ها أنا الآن أرتبطُ بتلك الذكرى، الذكرى الأولى، وكأنني أخرجُ آخر قطعةٍ من الذاكرة من أعماق روحي.
“أنا….مَنْ بدأ بالعودة.”
كأنني أستخرج آخر الذكريات الغارقةِ في الأعماق، حلمتُ هذا الحلم.
و في الصّباح،
تلاشتْ الذّكريات تمامًا عندما استيقظت، كأنها طارت إلى مكانٍ بعيد.
عندما فتحتُ عينيّ بسببِ لمسةٍ تداعبني ، كانت الشّمسُ تتسلّل عبرَ السّتائر الرّقيقة.
نظرتُ إليّ عينان بلون الياقوت الدافئ، خاليتان من النّعاس.
“هل حلمتِ حلمًا جميلًا؟”
“…نعم؟ لماذا؟”
“لا شيء، تبدينَ سعيدةً فقط.”
تعلّقتُ بصدرِ كايروس أكثر.
“حلمتُ بشيءٍ ما… لكنني لا أتذكّره. لكن عندما استيقظت، شعرتُ بالانتعاش و السّعادة.”
“حقًا؟”
ضحكتُ لأنني لم أعرفْ سببَ شعوري بالسّعادة، فضحكَ كايروس معِي و قبّلَ جبهتي و خديّ بِحماس.
“نعم. أعتقدُ أنّكَ كنتَ في الحلم… ربّما لهذا أنا سعيدة؟”
“هذا يجعلُ الأمور صعبةً من الصباح.”
عندها وضعَ شفتيه على رقبتي.
“…آه، سأنهض.”
“قليلاً فقط….”
كاذب!
على الرّغمِ من علمي بذلك، ضحكتُ بهدوء و عانقتُ رقبته.
“حسنًا، لا بأس.”
“كمَا تأمرينَ، سيّدتي.”
تفرّقتْ أنفاسه على رقبتي، و سرعانَ ما التهمت شفتاه شفتيّ بِشغف.
لمْ يَعدْ مهمًا إنْ لم أتذكّر.
لأنّني سعيدةٌ جدًّا الآن.
• ❅────────✧❅✦❅✧────────❅ •
<نهاية الفصول الجانبية>
التعليقات لهذا الفصل " 163"