* * *
“لماذا أنا؟”
أدارتْ إميلتا وجهها بعنف.
لكن عندما اقتربت إستيل بخطواتٍ صغيرة وأمسكت بمئزر إميلتا بيدها، انهار وجهها القاسي على الفور.
“آنستي، هل تستمتعين؟”
“أجل! إميلتا.”
كانتْ إستيل تجدُ متعةً في تذكّر أسماء كلّ من تقابلهم مؤخرًا و مناداتهم بها.
المشكلة الوحيدة هي أنّها كانتْ تنادي حتى كايروس باسمه بدلاً من “أبي”.
ومنَ المضحكِ أنّها كانت تنادي هايزل بـ”أمي” دائمًا.
ذات مرّة، عندما شعر كايروس أن زوجته تبذل مجهودًا زائدًا و حاولَ إقناعها بالتوقف، قالت هايزل كلمة “لا” ، فسارعتْ إستيل بخطواتها الصّغيرة و وقفتْ بحزمٍ أمام والدها.
“كايروس، لا. أمّي قالت إنّها تريدُ القيام بذلك.”
عندها، لم يستطع كايروس الحركة.
أدركتْ هايزل أنّ هذا كان فعالاً، وكانت تستخدمه أحيانًا مؤخرًا.
“تتذكرين اسمي أيضًا!”
“أجل، إميلتا.”
“نعم، صحيح، آنستي!”
على عكسِ النّبرة الباردة التي استخدمتها مع سِـد، كانت إميلتا الآن تنطق بنبرة عذبة كالعسل.
لم يستطع سِـد إخفاء دهشته وهوَ يرى إميلتا، التي كانت تحمل الآنسة بمهارةٍ على عكسه.
هل هي ذات شخصيّتين أم ماذا؟
بعد ترقيتها، أصبحت إميلتا تأتي إلى قصر الدوق كثيرًا.
بسبب تغيير مهامّها، كانت تأتي مباشرة لتقديم التقارير.
قالت ان العمل أصبحَ أسهل، وأن راتبها تضاعف، لذا لم يكن القدوم إلى قصر الدوق متعبًا على الإطلاق.
“على أي حال.”
عندما توسّلَ سِـد إلى إميلتا لإنقاذه، لم يكن يبالغ، بل كانَ جادًّا.
كانَ من المدهش أن تركضَ بتلك الأرجل القصيرة و القدمين الصغيرتين كالبرق، لكن الآنسة كانت صغيرة جدًا و لطيفةً لدرجة أنها تبدو و كأنها قد تنكسر إذا أسيء التّعامل معها.
لذلك، لم يستطع لمسها بسهولة.
“في اللّحظة التي تُصاب فيها شعرةٌ واحدة من الآنسة، سيُقطع رأسي.”
بعد ساعة تقريبًا، تعلّم كيفية التعامل مع الآنسة، لكن طاقته نفدت تمامًا.
“كنت واثقًا من لياقتي البدنية.”
بينما كانت إستيل في حضن إميلتا، استلقى سِـد على ظهره مرهقًا.
شعرَ وكأنّه سيفقد وعيه بمجرّد أنْ استلقى.
دونَ أن تعرف مشاعره، كانت الآنسة تبتسم بسعادةٍ وهي تنزلق من حضن إميلتا، مستعدّةً للركض إلى مكان ما.
يا إلهي، أرجوك.
استجمع سِـد قواه و قفزَ واقفًا مرة أخرى.
* * *
“آه!”
بينما كانَ سِـد يهمهم و هُو يزيل بذور الكرز، تلقى صفعة قويّةً على ظهره.
عبس وهو يحاول الوصول إلى ظهره بيده التي لا تصل.
رأى تلك الذراع الرّفيعة التي تحمل بمهارة الآنسة البالغة من العمر خمس سنوات، و فِي الوقت نفسه، يدًا أخرى قاسيةً جاهزةً لضربه في أي لحظة.
تراجع سِـد خطوةً إلى الوراء.
بعد جولة من اللّعب، حان وقت الوجبة الخفيفة.
كان سِـد يزيل بذور الكرز الحلو ويقدمها لإستيل عندما تلقّى الصّفعة على ظهره.
“لماذا ضربتِني فجأة؟”
“كيف تستمرّ في إعطاء الآنسة أشياء حلوة فقط؟ يجبُ أن تأكل بشكل متوازن.”
“لأن الآنسة تحبّ هذا أكثر.”
كانت هناك بسكويت الحبوب و الخيار على الطاولة، مقطعة إلى قطع صغيرة معَ وجبات خفيفة متنوّعة أخرى.
ومعَ ذلك، كانت إستيل تشير إلى الكرز فقط منذُ البداية.
كانَ سِـد يحاول كسبَ نقاطٍ باختيار ما تحبّه إستيل فقط، ثمّ يقطعه بعناية و يقدمه لفمها الصغير.
عندما قدّمَ لها شريحة جزر مقطعة بعناية، أدارت إستيل رأسها بعيدًا.
“هذا لسِـد.”
تمتمت إستيل بشفتيها الصّغيرتين بحزم.
ثم حدّقت في سلّة الكرز لفترة طويلة قبل أن تمد يدها.
“سِـد، أعطني ذلك.”
“السلة؟ سأزيل البذور لكِ، آنستي.”
هزّت رأسها رافضة.
أصرتّ إستيل وسحبت السلة إلى أمامها.
ثم بدأتْ بانتقاء الكرز اللامع، الكبير، الممتلئ، والغني باللون بعناية.
طلبت طبقًا، و عندما ملأته بالكرز حتّى أصبح ممتلئًا، ابتسمت إستيل برضا.
“هذا لأمي.”
رفعت إميلتا حاجبيها و نظرت إلى سِـد بعيون متفاجئة.
كان سِـد مندهشًا أيضًا.
كانَ من المذهل أن تختار، في عمر قد تأكل فيه الكرز الذي تحبه بِـنَهَم، أجمل و ألذّ الكرز وتفكّر في والدتها.
“كيف ظهرت هذه الملاك من سيّدنا؟”
فكّرَ سِـد و إميلتا في نفس الشيء.
ثم طلبت طبقًا ثانيًا و بدأت في تكرار نفس العملية.
بينما كان سِـد يزيل البذور و يقدمها لإستيل، كانت تضعها في فمها بسرعة.
حاولَ أن يقدم لها قطعة خيار صغيرة، لكنها بصقتها على الفور كما لو كانت تعرفها بالغريزة.
كان الأمر نفسه مع التفاح و البسكويت.
“هذا لأبي.”
أكملتْ يداها الصغيرتان جبلًا آخر من الكرز على الطّبق بحماس.
كانت تستخدم كلمة “أبي” ببراعة عندما لا يكون كايروس موجودًا.
“طبق آخر.”
“هل تريدين طبقًا آخر، آنستي؟”
سألت إميلتا بلطف، مغيّرة نبرتها مرة أخرى كما لو كانت ذات شخصيتين.
“نعم.”
أومأتْ إستيل برأسها.
“أحضِر طبقًا، سِـد.”
أمرت إميلتا سِـد بنبرة منخفضة على الفور.
“ها.”
شعر سِـد بالحيرة لكنه نهض من مكانه، متذمرًا أنه يفعل ذلك من أجل الآنسة فقط.
عندما عاد بالطبق، بدأت إستيل في تكرار نفس العملية مرة أخرى.
انتهت من طبق أمها.
وانتهت من طبق أبيها.
فمن ستعطيه هذا الآن؟
توقف سِـد عن نزع البذور عندما قالت إستيل إنها شبعت و لم تعدْ تريد الأكل، واستند على ذقنه منتظرًا.
“يجب أن أذهب الآن. هل يمكنكَ الاعتناء بالآنسة بمفردك؟”
“لماذا؟ ابقِ قليلاً.”
“تركتُ العمل وجئت فقط مع التقرير. يجب أن أعود لإنهائه.”
“آه… ابقِ قليلاً أكثر.”
كانَ الأمر مريحًا.
تذمر سِـد وهو يشعر بالأسف.
في النهاية، لم تستطع إميلتا البقاء لفترة أطول و عادت إلى عملها.
كانَ من المفترض أن تقدّن التّقرير في قصر الدوق و تعود، لكنها شعرت بالشفقة على سِـد فقررت تخصيص بعض الوقت.
بعد مغادرة إميلتا، استمر سِـد في مراقبة إستيل وهي لا تزال تبني أبراج الكرز.
أخيرًا، اكتمل أعلى برج كرز.
استغرقَ هذا البرج أطول وقت، لأنّها كانت قد اختارت بالفعل أفضل الكرز، ممّا جعل اختيار إستيل أكثر صعوبة مع الوقت.
“هذا لسِـد.”
“ماذا؟”
“لسِـد!”
اتسعت عينا سِـد بدهشة عند سماع ذلك.
“هل تقدّمينها إليّ؟”
“أجل.”
نظرت إليه بعينيها الحمراوين الكبيرتين المتجهمتين، مما جعل قلبه ينبض بقوة.
كيفَ فكّرت بهذه الطريقة بيديها الصغيرتين… وذلك العقل الصغير؟
لم يكن سِـد من النوع الذي يحب الأطفال عادةً.
بصراحة، كان يعامل الآنسة بحرص لأنها ابنة سيّده.
“ها، حقًا…”
مع الهدية غير المتوقعة، أمسك سِـد بقلبه الذي كان على وشك الانفجار من التأثر.
لهذا يحبّ الناس الأطفال!
كيف جاءت هذه الابنة من سيّدنا…
كانَ هذا شيئًا لم يكن ليحدث أبدًا إذا لم تكن السيدة هي زوجته.
تلقى سِـد الطبق، متأثرًا جدًا بكلامها أنّها أعدته له.
“سأقبله بامتنان، آنستي.”
آه، سأحتفظُ به إلى الأبد.
تعهّد سِـد في قرارة نفسه مرارًا وتكرارًا أن يحمي إستيل بحياته بسبب طبق الكرز هذا.
شعرَ و كأنّه سمع صوت إميلتا وهي تتذمر من مكان ما.
* * *
“تأخرنا أكثرَ ممّا كان متوقعًا.”
قبل العودة من العاصمة، قضيت وقتًا في موعد غرامي مع كايروس لأول مرة منذ فترة.
لم يكن سوى بضع ساعات.
خلال السنوات القليلة الماضية، كنا نكرّس كل قلبينا لإستيل، فلم يكن لدينا وقت أو طاقة لأنفسنا.
كانَ المشي جنبًا إلى جنب معه وقتًا سعيدًا.
“ربما تلعب في المكتبة.”
عند كلام السيدة تيني، هرعت للبحث عن إستيل فور وصولي.
على الرّغم من أن إستيل تبدو هادئة، إلا أنها كانت متقلبة و خجولة جدًا، ممّا يجعل من الصعب التعامل معها إلا من قبل الأشخاص المألوفين في قصر الدوق.
كانت تحب سِـد، لكن التّعامل مع طفلة مثلها لم يكن سهلاً على الأرجح.
عندما فتحت باب المكتبة بسرعة، توقفت في مكاني.
“يا إلهي.”
وضع كايروس يده على كتفي و هو يتبعني إلى الدّاخل.
استدرت بسرعة وأشرت إلى الأمام.
“انظر إلى هذا، كايروس.”
على سجادة المكتبة، كانت إستيل و سِـد نائمين جنبًا إلى جنب.
بدت حالة سِـد وكأنّه غفا أثناء العناية بإستيل، وكان شبه مكوّم.
حتّى شعره كان فوضويًا مع ربطة شعر مشدودة بشكل عشوائي، ممّا جعله يبدو وكأنه أصيب بالصاعقة.
في المقابل، كانتْ إستيل نائمة براحة تامة، مغطاة ببطانية صغيرة.
بجانبها، كانَ هناك، لسبب ما، طبقان من الكرز غير المأكول.
مع طبق فارغ واحد.
هل أكلتْ طبقًا و شبعت فتركت الباقي؟
على أيّ حال.
آه، إنها لطيفة جدًا.
حقًا، لطيفة جدًا.
حتّى لو كانتْ ابنتي، فقد كانت لطيفة جدًا حقًا.
أخذت كايروس وخرجت بهدوء مرة أخرى.
“لنعد بعد أن يستيقظ سِـد. يبدو أنه يمكننا الاعتماد عليه من الآن فصاعدًا.”
ثم أغلقت الباب بهدوء.
التعليقات لهذا الفصل " 156"