“هاه…”
حاولت أن أبدو طبيعية قدر الإمكان أمام ريندل، وكأني أفهم كل شيء وأتجاوز الأمر بسهولة، لكن بداخلي لم يكن كذلك.
حتى بعد أن وعدني، فعلها مجددًا.
لكن ذلك كان يشبه كايروس كثيرًا، لدرجة أنني لم أعد أعرف كيف أتصرف أو أتحكم بتعابير وجهي.
و بما أنه يلاحظ حتى أدق تغييرات في وجهي، توقفت للحظة، تنهدت مجددًا، و رتبت أفكاري قبل أن أُسرع في المشي.
“سيدي، سأذهب لترتيب الأمور.”
انحنى سِـد لي حتى خصره أمامي ثم اختفى بسرعة.
ابتسمت و أومأت له بعيني، ثم وقفت أمام كايروس.
“سمعت أنكِ ذهبتِ لتتحدثي مع ريندل.”
“كيف عرفت؟”
“قال سِـد إنه رآك و أنتِ في طريقك.”
“آه… صحيح.”
أجبت بهذه الطريقة وأنا أراقب تعابير وجه كايروس.
شعرت أنها تغيرت قليلًا… أو ربما لا.
“ألن تسألني عمّا تحدثنا؟”
ضحك كايروس بخفة.
“عن ماذا تحدثتما؟”
إنه يتظاهر بالهدوء.
حدقت به طويلًا، ثم انحنى قليلًا و كأنه يحاول قراءة وجهي.
تنهدت وتكلمت.
“لم يكن حديثًا مهمًا… تحدثنا قليلًا بالسوء عنك.”
كنت أنوي أن ألقنه درسًا . لكن عندما قابلت وجه كايروس من هذا القرب ، ضعفت.
لو كنت أنا مكانه، لـربما فعلت الشيء نفسه.
لقد كانت لدي ثقة غريبة بأن هذا الأمر سوف ينجح، ولكن يبدو أنه كان يشعر بـالقلق الشديد.
رغم أنه لم يظهره لي.
مددت يدي و عدّلت من ملابسه دون سبب، ثم قلت ما أردت حقًا قوله.
“شكرًا لأنكَ حميتَني.”
ابتسمت بينما نظرت إلى عينيه الواسعتين.
⋆★⋆
كان الشمال قد بدأ يخرج من شتائه الطويل، و بدأ يترقب الربيع تدريجيًا.
وفي الوقت نفسه، انتهى تمامًا تنظيف التلوث.
ما عدا القرى الحرة التي دمرت بالكامل بسبب هجوم الوحوش، بدأت باقي المناطق بالتعافي بسرعة.
خصوصًا مقاطعة الدوق، التي عانت من هجمات الوحوش المتكررة، كانت تتعافى بأسرع وتيرة.
و ربما لهذا السبب، كان السكان بانتظار الربيع أكثر من أي وقت مضى.
وكان هناك أمر سار آخر.
منذ أن استيقظت مجددًا، لم أرَ أي أحلام.
تخلصت من الألم الذي كان يجعلني أرتجف، و الذي جعلني لا أفرق بين الواقع والحلم.
ويبدو أن آخر مرة فقدت فيها الوعي، كانت اللحظة الأخيرة التي رأيت فيها ذلك الماضي الطويل.
لكن لا زلت لا أعرف من أعاد الزمن، أو كيف كان ذلك ممكنًا.
فكرت أن سيد برج السحر قد يكون قادرًا على ذلك، فطلبت مقابلته، لكن الرد كان الرفض دائمًا.
و كان السبب أنه مشغول للغاية و لا يملك وقتًا للقاء.
طلبت اللقاء مجددًا عدة مرات، لكن الرد بقي كما هو.
و ريندل أخبرني أن تساؤلاتي مجرد خيال، و نصحني بالتوقف.
لذا، لم أستطع طلب الزيارة مجددًا بعد ذلك.
رغم أن الشمال كان ينعم بسلام على هذا النحو، لم يكن الحال كذلك في أماكن أخرى.
خلال الشهرين اللذين قضيناهما في إعادة ترتيب الشمال، لم أسمع سوى الأخبار حيث يقال ان العاصمة لا تزال صاخبة.
وبشكل أدق، القصر الإمبراطوري.
كان بالكاد غضب الشعـب في الإمبراطورية قد هدأ، لكن عندما اشتد الوضع بسبب الوحوش و الأتباع، تبيّن أن المعبد كان قد أوقـف توزيع أحجار التنقية، و أصبح يقدمها إلى القصر الإمبراطوري فقط، و هذا ما عرفه الجميع.
في الحقيقة، كنت أنوي الكشف عن ذلك بمجرد إسقاط المذبح العظيم بنجاح.
لكن لاحقًا غير جـاد رأيه، و لأن ليلي دعمتنا حتى على حساب حبيبها، قررت أن أدفن الأمر.
لكن أن يُكشف كل ذلك؟
لم يكن من الصعب معرفة أن من قدم هذه المعلومات هو كايروس.
“أنتَ من فعل هذا أليس كذلك؟”
“كان لا بد أن يُكشف الأمر على أي حال.”
“كنت أفكر فقط أنني قد أغفر لهم.”
“لحسن حظهم أن الأمر انتهى عند هذا الحد.”
وهكذا، واجه القصر الإمبراطوري إعصارًا جديدًا.
وفي نهاية المطاف، هذا الربيع.
تنازل الإمبراطور عن العرش بعار.
وبشكل طبيعي ، تراجع نفوذ العائلة الإمبراطورية أيضًا.
تولى جـاد العرش بسرعة بعده، لكن غضب الشعـب لم يهدأ بسهولة.
وبينما كنت أراقب ذلك، طلبت من كايروس أن ينشر القليل عن مشاركة ولي العهد جـاد، و خطيبته ليلي دايورث، في الحرب.
لأن تأثير الضربة على القصر الإمبراطوري كان أعظم مما توقعت، و قبل كل شيء، لأنني لم أرغب في القطيعة التامة مع ليلي.
لم أعد أرغب في الانشغال بالأمر أكثر.
وفوق ذلك، حمل الإمبراطور العار له ولعائلة إلكيوم الإمبراطورية، وسيُذكر ذلك في التاريخ، لذا قررنا أن نُنهي الأمر بذلك.
بعد كل ما حدث، تحمّل جـاد المسؤولية كاملة، وكان يعمل بسرعة لإعادة القصر الإمبراطوري إلى وضعه الطبيعي.
ولعل إخلاصه وصل بالفعل، إذ جاء الإمبراطور السابق، إيديوس بيرايد إلكيوم، إلى مقاطعة الدوقية ذات يوم.
وكان الأمر مفاجئًا بحد ذاته، لكنه اعتذر شخصيًا لي و لكايروس .
“لقد كان خطأي. أخطأت كثيرًا.”
“…وشكرًا لمساعدتكما.”
لم نتلقَّ أي أخبار عنه بعد ذلك. كان ذلك لأن جـاد كان شديد التكتم، قائلًا ان الإمبراطور و زوجته يعيشان في عزلة.
⋆★⋆
“هايزل.”
“نعم؟”
“متى ستقيمين حفل الزفاف إذًا؟”
رغم أن الصقيع لا يزال يتساقط في الصباح، فإن الجو في النهار دافئ بما يكفي ليُشعر بقدوم الربيع.
كانت النقابة تعود تدريجيًا إلى طبيعتها، وكنت أنا مشغولة بمراجعة الأوراق المتراكمة، عندما سألتني آني وهي تسند ذقنها بيدها.
منذ قدومها إلى الشمال، كانت آني تقيم في قصر الدوق.
قالت انها جنت ما يكفي من المال و تريد أن ترتاح الآن فعلًا أو شيء من هذا القبيل.
حتى هيزان كانت معها الآن، و أنا أيضًا تخلّيت عن فكرة الهروب بعد عام، لكنها بقيت تعمل كخادمتي.
مع ذلك، ما زالت آني تتظاهر بعدم معرفتها أمام الآخرين.
“الزفاف…”
كان من المفترض أن يقام الزفاف بعد تسليم كل المعلومات إلى العائلة الإمبراطورية، لكنه تأجل إلى أجل غير مسمى و لم نعد نخطط له من جديد.
كان يجب أن أبدأ التحضيرات عندما كنت مستعدة نفسيًا!
“إن بدأتِ من الآن، فربما يمكنك إقامته قبل نهاية الربيع، أليس كذلك؟”
“نعم، هذا صحيح، لكن لا أملك الحماس الآن كما كنت حينها… أشعر أن دوافعي خمدت بعض الشيء…”
تمتمت بذلك بينما كنت أضغط بذيل القلم على ذقني أثناء التوقيع على الأوراق.
“إذًا، هل هذا يعني أنكِ لن تقيمي الحفل؟”
ظهرت جينجر فجأة من خلف المكتبة.
“لا، سأقيمه، لكن…”
لم أتناقش مع كايروس بشأن هذا الموضوع منذ ذلك الحين. لقد نسيتُه تمامًا.
“أم أنكِ تفكرين في الهرب مجددًا؟ ما زلت أؤيد ذلك على أي حال. لدينا من يساعدنا هنا، لذا قولي لي، قد تكونين قد غيرتِ رأيك.”
“صحيح، بعد كل تلك المعاناة، قد تغيّرين رأيكِ بالفعل.”
قالت آني و هي تستلقي بنصف جسدها على الأريكة، و ملامح التسلية تملأ وجهها.
لا زال الاثنان يخشيان كايروس كثيرًا ، لكن ليس بوجودي.
يبدو أنهما كانا يثقان تمامًا بأني سأحميهما من كايروس مهما حصل.
“ما هذا… لن أهرب الآن.”
“أوه أوه.”
جينجر سخرت بجانبي.
“همم، على أي حال، سأُنجز الأمور العاجلة أولًا ثم أبدأ التفكير مجددًا. ستساعدينني، صحيح يا جينجر؟”
تنحنحتُ بلا داعٍ.
“بالطبع، سنقيمه في فيراريوم، صحيح؟”
“غالبًا، نعم.”
الزفاف.
هل يجب أن أتحدث إلى كايروس عنه اليوم؟
شعرت ببعض الحزن عند التفكير في أن بعض الضيوف قد يتغيرون.
لكن لا يمكن فعل شيء حيال ذلك.
عندما سكتُّ، استلقت آني مجددًا على الأريكة وهي تهذب أظافرها و تدندن بلحن ما، أما جينجر فخرجت في موعد مع إيدموند الذي ظهر في الوقت المناسب.
أما أنا، فعدت لأنزل نظري إلى الأوراق مجددًا كي أنجزها أولًا.
التعليقات لهذا الفصل "142"