حدّق تيريو ألتي في الصمت بذهول، كأنه سمع شيئًا يستحيل وقوعه.
وبمجرد أن رأت جويا ذلك التعبير على وجهه، أدركت متأخرة أنّ هذه كانت المرّة الأولى التي تُبعد فيها تيريو عنها.
لطالما كانت علاقتهما على هذا النحو:
هو من مدّ يده أولًا ليصبحا صديقين، وهو من اعترف برغبته في أن يصبحا حبيبين، وهو نفسه من صبّ عليها غضبه حين تبدّلت مشاعره.
وجويا، كانت تنجرف دائمًا خلف كلماته، تتبعه حيث يريد. بجسدها، قلبها، وحتى روحها.
فالقلبُ الوحيد، حين لا يجد حبًا يحميه، يصبح هشًّا. يتأثر بسهولة، ويتعاطف بسرعة مع مشاعر الآخرين.
وهكذا، كسبت جويا صديقًا ثم خسرته. كسبت حبيبًا ثم فقدته. نالت شيئًا من السعادة ثم ضاعت منها السعادة نفسها.
ذلك القلب الرقيق، الذي داسه عملاق عابر بخطوات لا تبالي، صار أرضًا يبابًا لا تنبت فيها نبتة واحدة. ولم يعد يملك سوى أمنية واحدة: أن ينتهي كل شيء سريعًا.
ولأجل ذلك فقط، استطاعت جويا أخيرًا أن تنطق كلمات الرفض. بعد أن تخلّت عن حياتها أصلًا، استطاعت للمرة الأولى أن ترفض الشخص الوحيد الذي ادّعى أنه يهتم بها.
كان ذلك خاتمة موجعة، لكنها مرحّبٌ بها.
كانت تظنّ أن تيريو سيغادر غرفة الجلوس فورًا. فهناك أمر واحد فقط يفعله فارسٌ معتزّ بنفسه بعد أن يسمع طلبًا بإنهاء العلاقة.
“…هل هو بسبب المركيز؟.”
“ماذا؟.”
غير أنّ ملامح تيريو بدت قاتمة لا جريحة، خافتة لا غاضبة. وبدلًا من أن يغادر بسرعة، أثار أمرًا لم يخطر لجويا ببال.
“آسف، لكنني رأيتُ قبل قليل رسالة الزواج من بيتيلجيوس. لم أقصد ذلك، حصل صدفة. هل قال لكِ المركيز أن تبتعدي عن ألتي؟ هل هدّدكِ؟ ماذا قال لكِ البارحة؟ ما الذي جعلكِ تتصرّفين هكذا فجأة؟ أخبريني، أرجوكِ!.”
“لا علاقة للمركيز بهذا. هذا قراري. وما شأن ذلك بسيد ألتي؟.”
“أرجوكِ يا جويا، لا تقولي إنكِ تفكّرين فعلًا بالزواج منه.”
قبض تيريو بقوة على فنجان الشاي الموضوع أمامه، فرأت جويا شرخًا يتسلّل إلى مقبضه. لم تعد تشعر بأي حاجة لإدارة ملامحها أمامه.
“استفيقي يا جويا. لا أعلم ماذا قال لكِ، لكنه لا يحبكِ. أتراكِ ستتزوجين من رجل لا يحبك؟.”
“…يجب أن أذهب. أرجوكَ غادر.”
“أنسيتِ ما قالته لكِ والدتكِ؟ لا يمكن أن تحصلي على السعادة في زواجٍ مدبّر!.”
حبست كلماتُه حركة جويا وهي تحاول النهوض. وبرودٌ حادّ تسلّل إلى عينيها البنيّتين.
“هذا ليس حلمكِ، يا جويا روبييت!.”
“وكيف عرفت ذلك؟.”
سألت بصوت احتقن داخليًا، كأن جزءًا هشًا منها قد كُشف للعالم فجأة، فتناسَت رسميّتها التي كانت تحفظ بها المسافة بينهما.
بدأ صوتها يرتجف.
“لم أخبرك بذلك يومًا.”
“جوبا، انتظري لحظة…”
“كيف عرفت ذلك!.”
اتّسعت عينا تيريو، لم يكن يتوقع منها صراخًا بسبب زلّة لسان بسيطة.
وحين ألحّت عليه بالسؤال، تردّد قليلًا ثم قال أخيرًا:
“هل تذكرين ذلك الشتاء حين كنّا في السادسة عشرة؟ اليوم الذي جلبتُ فيه نبيذ العنب وادّعيتُ أنه عصير عنب لأمازحكِ.”
“وماذا بشأنه؟.”
“قلتِ حينها إنكِ نمتِ فورًا… لكن الحقيقة أنكِ لم تنامي مباشرة.”
كان ذلك في شتاءٍ قاتم حين كانت جويا تبدو أكثر حزنًا من المعتاد، فقرّر تيريو أن يرفع معنوياتها بمزحة صغيرة.
تسلّل إلى قبو النبيذ، وجلب زجاجة نبيذ عنب، وملأ به كأسًا، بدلًا من عصير العنب، ثم انتظر أن تكتشف الأمر بنفسها.
لكن جويا، المُثقَلة بضيق صدرها، شربت الكأس دفعة واحدة. كانت تلك أول مرة لها مع الكحول، وكان النبيذ قويًا، فغمرها دفءٌ حادّ حتى ترنّحت.
فزع تيريو، وكاد يستدعي الكبار، لكنها أمسكته من ردائه.
“تيريو… لن تذهب، صحيح؟.”
وفي وجهٍ متوهّج، ومن دون أن تدرك ما شربت، نظرت إليه بقلق.
لم يستطع تركها، فجلس قربها. ومن هناك، بدأت الحكاية.
“أخبرتِني بكل شيء. عن اقتراب ذكرى وفاة والدتكِ… وعن أشياء أخرى… حتى أحلامك.”
“لم تخبرني.”
“لم أفعل. وحين استيقظتِ لم تتذكّري شيئًا، فظننتُ أنه الأفضل، لأنك كنتِ تتألمين وأنتِ تتحدثين يا جويا.”
اضطرب قلب جويا بعاصفة من المشاعر: غضب، خيانة، حنق، وحياء.
أشياء لم تُفضِ بها يومًا لأحد.
من جرح الأمّ الراحلة، إلى رغبتها المتواضعة حدّ الانكسار.
كونها نطقت بذلك بنفسها جعلها تشعر بأنها خانت ذاتها.
كل شيء بدا خطأً:
أن تترك تيريو، أن تحبه، أن تصبح صديقته، أن تتعرف إليه أصلًا… حتى لقاءاتهما كلها بدت خطأ.
وربما… ربما كان خطأها أنها وُلدت.
حتى حين آمنت أنها وصلت إلى القاع، اكتشفت أن للقاع قاعًا آخر.
سألت بصوت متهالك:
“هل شعرت بالشفقة علي؟.”
“لا! إطلاقًا! ظننتُ أنكِ ستكرهين معرفتي، آسف، كان خطأً في التقدير. لكن حين سمعتكِ، لم أشعر بالشفقة ولا رأيتكِ بائسة. في الحقيقة، حينها بدأت أحبك. لم أفكّر فيكِ بذلك الشكل…”
…ماذا؟.
“ماذا تقول؟! أحببتني لأنك سمعت ذلك؟.”
“أردتُ أن أحميكِ، أن أحقق أحلامكِ. لذلك…”
لكن جويا لم تكن بحاجة إلى سماع الباقي.
أكان يعني حلمها بعائلة سعيدة؟.
ذلك الذي بدّله لاحقًا إلى أختها الصغرى، ثم ظلّ صامتًا بجبن حتى قبيل الزواج، ثم اتهم جويا بموت ميليسّي بعد الزواج؟.
قبل العودة بالزمن وبعدها، لم يشعر تصرّفه يومًا بأنه يعرف سرّها.
ولو كان يعلم حقًّا…
لما صمت حتى آخر لحظة.
لكن، سواء كان متردّدًا في مشاعره، أم مثقلًا بعبء نقض الوعد بين العائلتين، أم خجِلًا من مواجهتها، كان عليه أن يتحدث.
على الأقل، قبل أن تُسعدها فكرة أنّ حلمها قد يتحقق.
تقبّلت جويا ادعاءه أنه لم يشفق عليها.
فلو كان فيه ذرة شفقة، لما كان قاسيًا إلى هذا الحد.
لم تحتمل، فرفعت يدها وصفعته.
كانت الصفعة ألين بكثير من غضبها.
“وهكذا أحببتَ ميليسّي أيضًا؟.”
“لا تكوني ساخرة، أنا فقط…”
“لا. كفاك أعذارًا. سأعيد صياغة ما قلتُه.”
عضّت على أسنانها بقوة، وصوتها حازم كالسيف. لم تكن تعرف أن بمقدورها أن تغضب إلى هذا الحد.
“ليس فقط سرًا، بل طوال حياتك، لا تظهر في وجهي.”
“جويا، أرجوكِ…! أدرك أنك غاضبة، أفهم ذلك! لكن هذا ليس وقت الانفعال! إن تزوجتِ الماركيز، ستكونين تعيسة!.”
تعيسة؟.
لقد بلغت التعاسة حدّ التخدير.
الزواج بالماركيز والموت لاحقًا لم يعد يبدو تعاسة.
“يبدو أنك تريدني تعيسة فعلًا! إذًا، إن لم يكن الماركيز، فمَن؟ من يناسب منزلتي وعمري؟ هل أتشبّث بأي رجل وأتوسّل إليه أن يحبني؟.”
“جويا! أريدكِ سعيدة! لا أريد لكِ زواجًا كهذا…”
“ولأجل راحتك أنت، هل عليّ أن أتسوّل الحب؟ أهذا ما ترضاه يا تيريو ألتي؟!.”
شحب وجه تيريو.
هل لأنه لم يتوقع وقع كلماته؟ أم لأنه لم يتوقع جرأتها؟.
ماذا يريد منها أصلًا؟.
لم يكن ينقصه أصدقاء، فلماذا يتسبّب بكل هذا الألم لها؟.
هل كان ذنبًا يشعر به تجاه فسخ الخطوبة؟ أم خوفًا من جرح مشاعر ميليسّي؟.
لا… لا حاجة للبحث عن أسباب.
فالماركيز بيتيلجيوس لم يرسل رسالة زواج فقط، بل حدّد التاريخ أيضًا.
لم يتبقَّ سوى أسابيع قليلة لديسمبر، وبعد ذلك، لن تضطر لرؤية تيريو ألتي مجددًا.
ربما قد يتقاطع طريقهما أحيانًا، لكن بعد عام، جويا ستكون…
حاولت تهدئة الغضب الذي أفرغ رأسها من التفكير.
ارتشفت من فنجان الشاي، وقبل أن تضعه، كان تيريو يواصل:
“لا داعي للتسرّع والزواج الآن.”
“عمري مناسب للزواج. وبصفتي من روبييت، يجب أن أتزوج. أم أنك ستتزوجني أنت؟. أتطمئن إن تزوجتُ الرجل الذي أقسم أن يحقق أحلامي؟.”
“جويا…”
رأت وجهه يلوى بحرج، فتنهدت.
“لا حاجة للتفكير يا تيريو. حتى لو أُعطيتُ مئة حياة، فلن أتزوجك مرة أخرى. الآن، اذهب.”
“جويا… الماركيز…”
“الماركيز، الماركيز، ألا تمل؟. حتى لو كان أسوأ رجل في الإمبراطورية، فهو أفضل منك بألف مرة!.”
هزّ تيريو رأسه بيأس.
وبعد نقاش طال أكثر من اللازم، أسندت جويا ظهرها المتشنّج إلى الأريكة وتنهدت.
ساد صمت قصير.
وحين همّت بطرده مرة أخيرة، ناداها فجأة.
وكان على وجهه ملامح قرار اتُّخذ.
“تزوجيني بدلًا من ذلك. سأتحدث مع ميليسي… كما قلتِ.”
“…ماذا؟.”
“الزواج… لننعكس الأدوار.”
أكان يمزح الآن؟.
حدقت فيه مذهولة، لكنه كان جادًا.
لم تعد حتى غاضبة.
كانت مذهولة فحسب، فضحكت ضحكة خاوية.
“لقد جننتَ…”
“ومن منحكَ الإذن؟.”
قطع صوتٌ مألوف كلماتها.
كان مشهدًا رأته سابقًا.
وقبل أن تستوعب، نهض تيريو واقفًا بجزع.
“وهل أحتاج إذن خطيبتي السابقة، وقد حصلت على إذن خطيبتي الحالية.”
“ماركيز بيتيلجيوس!.”
هبط طرف الأريكة قرب جويا فجأة.
لم يكن تيريو من جلس، بل الماركيز.
جلس بجوارها متكئًا بثقة، ساق فوق ساق، وذراعان معقودتان.
وجهه المائل كان يبتسم لتيريو ببرود، لكن عينيه اللتين تضحكان كانتا تمتلئان بالازدراء.
‘لماذا أتى بنفسه وقد أرسل طلب الزواج عبر غيره؟.’
نظرت جويا بينهما في حيرة.
“هل توجد في الإمبراطورية، يا جويا، قوانين سخيفة كهذه؟.”
“لا… لا توجد قوانين كهـ… كهذه؟.”
رمشت متعجّبة لسماع لقبها من فم المركيز مباشرة.
“يبدو أنه لا توجد. أعتذر لتكرار القول، لكن عليك المغادرة يا سيد ألتي. لدي الكثير لأناقشه مع خطيبتي.”
“كيف تجرؤ على الظهور فجأة والتصرف بقلة أدب كهذا! أيها المار…”
“وداعًا.”
مدّ يده بالكلمة فقط، وكان ذلك كافيًا.
اختفى تيريو كما لو لم يكن موجودًا.
حدّقت جويا في بقعة الشاي المسكوب بفعل ضربته للطاولة، وتساءلت للحظة.
هل كانت تحلم؟.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"