•الخط الزمني الاول•
“العاصفة شديدة للغاية… هل الأمر عاجل إلى هذا الحد؟ ألا يمكنك البقاء والنوم هنا؟.”
“آسف يا إيلي. ما أنا إلا رجل بائس، لا يقدر حتى على الإيفاء بوعوده لك.”
“لا تقل هذا يا دوق!.”
حين رآها تُجبِر شفتيها على العبوس، ضحك تيريو من قلبه.
كانت ذات شعرٍ ذهبيٍّ ناعم، وملامح تجمع بين اللطف والصلابة، وجسدٍ رشيقٍ ممتلئ، كل شيء فيها كان يشبه ميليسي روبييت حدّ الألم.
تيريو، المرتاح لما تركه من آثار على بشرتها أسفل الفستان الذي ينعكس عليه الضوء، انحنى ليقبّل جبينها.
حتى الإحساس على شفتيه كان مطابقًا للذكريات التي يحملها، لدرجة جعلته يشعر أحيانًا وكأن ميليسي قد عادت للحياة.
‘يا للأسف… لو أنّ عينيها زرقاوان.’
“سأدعك تذهب بما أنك مضطر، لكن عد بسرعة، حسنًا؟.”
عند توسّلها، ابتسم تيريو ألتي بحنان.
“سأعود يا إيلي.”
‘سأعود، يا ميليسي.’
—
سلّمت جويا الكأس، ثم سألتها. وبعد لحظة تردد، قالت آني:
“هناك عرض زواج من ماركيز بيتيلجيوس.”
رمشت جويا ببطء، وكتمت أنفاسها لوهلة.
“هل كنتِ تعلمين؟ البارحة رقصتما معًا…”
سألت آني بحذر، وكأنها تؤدي واجبًا أُمِرت به، إلا أنّ جويا لم تسمع شيئًا.
ليس غريبًا أن يكون حلمها مضطربًا تلك الليلة. إنه سريع بالفعل، خفق قلبها بمعنى مختلف عن السابق. سخرَت من توتّرها وضحكت بضعف.
«تزوّجي ممّن تحبين. فزواج المصلحة لا يجلب السعادة.»
لا، يا أمّي.
الزواج بمن أحببت كان الجحيم الأقسى الذي عرفته.
حتى لو كان الطريق الآخر يعني موتًا محتومًا، فلن أختاره مجددًا.
“لا، لم أكن أعلم.”
إذن، لم يبقَ لي إلا اختيار الموت الأقل ألمًا…
أليس كذلك، يا أمّي؟.
—
صرصر الباب وهو يُفتح. وانحنى أولئك الذين يقتاتون على ثروة آل ألتي بعمقٍ لتحية سيدهم.
ألقى تيريو نظرة باردة عليهم، ثم أومأ بإيجاز. عندها تقدّم كبير الخدم إيدن نحوه.
“هل كانت رحلتك جيدة، سيدي؟.”
لم يُبدِ الخادم الوفي أيّ استغراب، رغم أنّ تيريو زعم أنّه كان في رحلة عمل منذ الصباح، فذلك أمر مألوف لديه. ما لفت انتباه تيريو هو شحوب وجه إيدن غير المعتاد.
إنها ليلة عاصفة فقط، قال لنفسه بإقناع، لكن الثقل في صدره ازداد.
“تحطّمت جميع المناطيد الإمبراطورية. يحدث هذا دائمًا في ليالي اكتمال قمر الساحرة.”
“نعم، يا سيدي.”
“…حسنًا، سأخبرك فور إصلاح المنطاد المتجه إلى إيتيو، إيدن.”
رغم أن كل ما قاله كان صحيحًا، إلا أن تيريو شعر بأنه يختلق الأعذار.
بل كانت أعذارًا فعلًا، فمع علمه بأن جدول أعماله تأخّر، لم يعد تيريو ألتي فورًا إلى القصر.
ذهب مباشرة إلى عشيقته، تناول العشاء معها، وقضى معها ليلًا.
كانت سعادة جارحة، ومع ذلك، كلما ازداد فرحه، ازداد قلقه.
القلق الذي لازمَه طوال اليوم كان خانقًا، بحيث لم يستطع حتى الاستمتاع بوقته معها.
وفي النهاية، خالف وعده بقضاء الليلة بجوارها، وكذب ليعود إلى القصر.
لكن حتى عندما عاد إلى قصر الدوق، لم يتغيّر شيء. الباب يُفتح، الموظفون يستقبلونه، وإيدن يبادل التحية كعادته.
‘هل حدث شيء سيّء في القصر؟.’
رغم كل تلك التساؤلات، لم يهدأ القلق الذي يعصره… فالسبب الحقيقي كان واضحًا:
“هل ستتأخر قليلًا اليوم؟.”
منذ أن قالت جويا تلك الجملة.
كانت جويا روبييت، التي لا تُبدي رغبات كهذه، قد أوقفته عن الذهاب.
ورغم غضبه منها، لم يستطع تيريو تجاهل وقع كلماتها عليه.
وهي الآن… ليست هنا.
فوجئ باختفائها من بين الموظفين المعتادين على تحيته. لم يرَ وجهها النحيل الذي اعتاد أن يكون أول من يراه. فسأل:
“أين جويا؟.”
—
بمجرد أن صعد إلى الطابق الثاني، سمع الموسيقى.
ورغم العزل الصوتي، كان الصوت مرتفعًا بما يكفي ليخترق الباب، دليلًا على أن الموسيقى تُشغَّل بأعلى مستوى.
ارتبكت الخادمة من ملامحه المتجهّمة، فيما بقي إيدن صامتًا على غير عادته.
“سيدي… لم أستطع إيقاف الموسيقى. فقد طلبت السيدة جويا ألا يدخل أحد حتى تنادي.”
“كانت وحدها منذ أن أنهت استحمامها، أليس كذلك؟. إذًا فهي تشغّل الموسيقى بهذه القوة منذ ساعات؟.”
هل تحتج لأنني لم أصغِ لاقتراحها؟.
سخر تيريو في نفسه، واستصغر تصرّف جويا.
كلما اقترب من الباب، ازداد اهتزاز المقبض تحت وطأة الموسيقى.
“سأفتح الباب.”
“لا، اذهبا وواصلا عملكما.”
أشار لهما بالانصراف، ثم فتح الباب.
انفتح بسهولة، لكن تيريو شعر وكأنه يجرّ بابًا حديديًا صدئًا من الداخل.
ومع انفتاحه، تضاعف الصوت حتى كاد يؤذي أذنيه.
“لقد جُنَّت.”
زمجر بضيق وهو يطفئ الموسيقى. عندها فقط رفع رأسه يبحث عنها.
لم تكن بعيدة.
بمجرد أن رفع عينيه، رآها مُلقاة على الطاولة الداخلية.
السجادة مبللة، كأسٌ يتدحرج، وزجاجة نبيذ نصف فارغة.
البقعة الداكنة على السجادة كانت من النبيذ المنسكب.
جويا روبييت كانت جالسة بترهّل، رأسها مسند إلى الطاولة بإهمال لا يشبهها.
شَعرها الطويل، الساقط تحت الطاولة، كان مبللًا بالنبيذ، فبدا وكأنه ينزف دمًا أسود.
حبس تيريو أنفاسه.
القلق الذي التهم صدره طوال اليوم انفجر أخيرًا، ببرودة مزقت ضلوعه.
‘لا يوجد شيء… لا شيء. اهدأ.’
أجبر نفسه على الاقتراب.
كلما تقدّم، اشتدّت رائحة الورد التي تكرهها جويا.
“دوقة ألتي، في هذه الهيئة الملطخة بالخمر، ما الذي تفعلينه؟.”
“…”
“ولا حتى خرجتِ لتحيتي. ألم تكوني أنتِ من قال إنه يجب أن نظهر منسجمَين؟.”
“…”
“أهذا احتجاج لأنني لم ألبِّ اقتراحكِ؟.”
“…”
“كم مرة قلت لكِ؟ لا تتوقعي شيئًا. لن أتغيّر مهما فعلتِ.”
‘لا بد أنها شربت كثيرًا.’
قطّب تيريو حاجبيه.
هناك زجاجة واحدة فقط، حتى أنها نصف مسكوبة، فكيف وصلت لهذا الحد؟.
حاول أن يتذكر إن كانت ضعيفة أمام الخمر، لكنه لم يشرب معها منذ زمن بعيد.
مدّ يده ليلمس كتفها كي يوقظها، فشعر ببرودة رطبة، أشبه بالطحلب.
تسلّل إليه ذعرٌ باهت. تجاهله، وهزّ كتفها.
“استيقظي… استيقظي.”
“سيدي.”
“إيدن؟ ألم أقل لك أن ترحل؟.”
“سيدي…”
“لا بأس. فقد فقدت وعيها، انقلها إلى غرفة النوم. من المعيب أن تُرى الدوقة بهذه الصورة.”
“سيدي…”
“لا، لا بأس. سأحملها بنفسي. هذا مزعج فعلًا…”
لكن كلامه انقطع. يدٌ أمسكت بذراعه.
يد إيدن. شخص لا يجرؤ أصلًا على لمس سيده.
“لماذا؟.”
ارتفع الغضب داخله… من يجرؤ؟.
لكنه حين رفع عينيه، تبخّر كل غضبه.
“لقد كنتَ تكرهها.”
نظر إليه إيدن بوجه يملؤه الأسى.
“كنتَ تحمل لها الضغينة.”
“إيدن…؟”
“فعلت ذلك لأجلك يا سيدي…”
‘ماذا يقول؟.’
حاول تيريو التركيز على ملامح إيدن، لكنها بدت مشوشة.
ازدادت الضبابية… ثم اختفت معالم وجهه تمامًا.
“لماذا… لماذا تبكي إذن؟.”
“…هل أبكي؟.”
‘ماذا يعني؟.’
مسح تيريو وجهه… فشعر بالرطوبة الباردة تغمره.
حينها فقط أدرك سبب ضبابية رؤيته.
—
كان عزاء جويا روبييت، جويا ألتي، هادئًا بشكل موجع.
وفق تقاليد سولاريس، تُقام الجنازات بحضور الأقرباء فقط: الجدّان، الوالدان، الأبناء، الإخوة.
لكن جنازة جويا ألتي كانت خاوية.
فلم يبقَ أحد من عائلتها على قيد الحياة.
جويا ألتي.
حدّق تيريو في الاسم المنقوش على التابوت.
لم يتذكّر بدقة عدد السنوات منذ زواجهما، لكنه كان يعلم أنها لم تكن قليلة.
ومع ذلك… لم ينادِها بتلك الكنية ولو مرة واحدة.
كانت بالنسبة له دائمًا: جويا روبييت.
ولم يكن السبب مجرد عادة…
فقلبه كان مشغولًا بامرأة أخرى.
ولذلك لم يرد أن يُضيف اسمه إلى اسم جويا.
أنا فقط معتاد عليها، لسانُ الحال يسبقني…
كان يقول ذلك كلما انكسرت ملامحها بخيبة.
بعد إبادة أسرة روبييت، صار الاسم عنده رمزًا للحنق.
روبييت ماتوا… وأنتِ لم تموتي. ميليسي روبييت ماتت… لكن جويا روبييت بقيت.
لم يكن مهمًا إن كان غضبه مبرَّرًا أم لا.
لن أناديكِ أبدًا بـ’جويا ألتي’.
لكنه هو… هو من كتب اسمها على التابوت.
هو من شطر صدره ذلك الاسم.
تساقطت دموعه على الحروف.
جويا، بوجهٍ أشدّ شُحوبًا من المعتاد، أغمضت عينيها وتلقّت دموعه في صمت.
لم تكن هناك علامات خارجية للموت، فالسبب كان توقّف قلبها.
بدت وكأنها نائمة…
شاحبة، لكنها قد تفتح عينيها وتسأله: لماذا تبكي؟.
لكن الموتى لا يفتحون أعينهم.
“جويا… جويا…”
رغم يقينه أنها لن تجيب، ظل الاسم يخرج كأنما من جرح ينزف.
اختنق صوته، واشتدّ ضيق صدره، لكنه كان يمسح دموعه بلا توقف كي لا يحجب دمعُه وجهها عنه.
كان يخشى، وبشدة، أن تفنى حتى جثتها إن توقّف عن النظر إليها.
تجمّعت الدموع بسرعة جعلته يفرك عينيه بعنف مرارًا.
مدّ أصابعه المرتعشة نحو وجهها، ولم يستطع لمسه.
“جنازتكِ صامتة يا جويا. أمكِ، أبوكِ، إخوتكِ… لا أحد هنا. أنا وحدي.”
القاعة كبيرة، لكن لا أحد فيها غيره.
لا أحد يشاركه موتها.
«أنا من أحضر سيلفربيل للسيدة حين طلبته.»
كان الثقل قاتلًا، لكنه لا يجد أحدًا يقاسمه هذا الألم.
شعر وكأن قبضة عملاقة تعصر روحه.
لكن، هذه الوحدة، هذا الأسى، كانت جويا قد عاشتهما طوال حياتها.
بكى تيريو ألتي كطفلٍ فقد العالم.
«كنت أعلم ما سيحدث حين تأكل سيلفربيل. لكنني اعتقدتُ أن ذلك سيسعدك يا سيدي… لقد قتلتها. أرجوك… لذلك…»
لماذا لم أفهم…؟.
أنا فقدت محبوبًا واحدًا، أما جويا فقد فقدت كل شيء.
أبويها. إخوتها.
وآخر رجلٍ وثقت به.
كان أفضل لو دُقّ كل مسمار في نعشِك في قلبي أنا.
كان أفضل لو كنتُ أنا الممدّد هنا.
أفضل لو قتلتِني بدل أن تموتي يا جويا.
«هذا غير ممكن! أأكلت غويو سيلفربيل؟.»
«سيدي…؟.»
«إذن… هل يعقل…»
لماذا يا مسكينة؟.
لماذا اضطررتِ لقتل نفسك؟.
لماذا سرتِ على خُطى أمكِ، رغم أنكِ بكيتِ يومًا وقلتِ إنك لا تريدين الموت؟.
آه…
“إنه بسببي.”
صرخ رجلٌ أحمق، ظانًّا أن مأساته هي الأكبر في الدنيا.
تخلّى عن إنسانةٍ بلا سند.
ثم اكتشف أنه هو أيضًا بلا سند.
وكم ندم… لكن الموتى لا يعودون.
ولا غفران بعد الآن.
أبدًا.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"