خرج تيريو ألتي من الشرفة. كان وجهه مكفهرًّا على نحوٍ مؤلم، لكنّ سلوكه بدا على غير المتوقع هادئًا ولينًا.
خمّنت جويا أن السبب إمّا لأنّه لم يُرِد إثارة الأنظار بجدالٍ بين خطيبين سابقين، أو لأنّ وجوده أمام ماركيزٍ يثقله وهو نبيلٌ بلا لقب.
قالت باختصار، وقد رأت أنّها مدينة له بشيءٍ من الشكر:
“شكرًا لك.”
لم يُجب، بل اتّخذ ابتسامةً خفيفة وتقدّم نحو السور الحجري. ولأنّ المسافة اتّسعت بينهما بحيث لا تصلح للحديث، تبعته جويا بخطوات قليلة.
ارتفع بصر الماركيز نحو الأعلى. دون كثير تفكير، رفعت جويا نظرتها هي الأخرى، فرأت القمر.
قمرًا داكنًا مُحمَرًّا، أكثر عتمة من شعر الماركيز نفسه، معلّقًا في قلب الليل الأسود.
“الليلة هي ليلة قمر الساحرة. يقولون إنّ أمورًا غريبة تحدث في مثل هذه الليالي.”
قمر الساحرة.
عادةً ما يكون ضوء القمر أصفر باهتًا، لكنّه يظهر أحيانًا بلونٍ أحمر داكن.
حين يختلّ سريان المانا في الجوّ لسببٍ ما، تتكاثف طاقة المانا في الغلاف، فيبدو القمر مظلمًا متوهّجًا بذلك اللون.
وهكذا سمّى الناس القمر الذي يطلع في تلك الليالي: قمر الساحرة.
وسواء كانت المانا المشبعة سببًا أم لا، فإنّ أحداثًا غير مألوفة غالبًا ما تقع في الليالي التي يظهر فيها.
ظواهر عجيبة لا يمكن للبشر خلقها بسحرهم، تحدث دون انتظام.
يا له من قمرٍ يبعث على القشعريرة.
تجهّمت جويا. ففي ليلة ظهور قمر الساحرة أغمضت جويا ألتي عينيها للمرة الأخيرة. وفي ليلةٍ مماثلة، فتحت جويا روبييت عينيها من جديد.
وعلى الرغم من أنّ العودة بالزمن محرجة للعقل، فإنّ القمر الأحمر ساعدها قليلًا على تقبّل ما حدث وكأنه حقيقة.
قال المركيز:
“في الأيام العاصفة يتصرّف القمر بلؤم، أمّا في الأيام الصافية فيكون ميّالًا للخير. ولحسن الحظ… الليلة صافية.”
سألت جويا وقد أعادت الحديث إلى مساره:
“هل جئت لأن لديك ما تقوله لي؟.”
كان يبدو أنّ الماركيز بيتيلجيوس يستمتع بترك الحديث يسير حيث يشاء، لذلك أعادته جويا إلى النقطة التي تريدها.
عندها فقط حوّل نظره عن القمر إليها.
لم تكن عينا أنيس بيتيلجيوس ولا عينا جويا روبييت حمراوين بطبيعتهما، لكنّ انعكاس القمر جعلهما تبدوان بلونٍ محمَرّ.
تلاقت عينان متقاربتا الظلّ.
قال المركيز بصوت منخفض:
“جئت لأنّني ندمت على ترك حديثنا غير مكتمل…”
ثم لامست أطراف أصابعه جبين جويا لبرهة قبل أن يتراجع. تراجعت بدافع الغريزة خطوةً إلى الخلف حتى اصطدم ظهرها بالسور.
“لا تبدين بخير، لذلك سأؤجّله.”
“لليوم فقط.”
قالها مبتسمًا بهدوء قبل أن يستدير عنها.
أمرٌ غريب… أن يختفي عنها مرّتين بعد جملٍ مقتضبة؟.
قطّبت جويا حاجبيها. صحيحٌ أنّها قرّرت ترك الأمور تجري كما تشاء، لكن وقوف الماركيز أمامها في صمت كان مزعجًا.
وإن كان ينوي إثارة قلق جويا روبييت، فهو بارعٌ جدًا في ذلك.
وقبل أن يبتعد أكثر من خطوتين، نادته:
“سيّدي الماركيز.”
“نعم يا آنسة.”
“هل تنوي التقدّم لخطبتي؟.”
توقّفت قدماه. وحين استدار ببطء نحوها، لم تكن تلك الابتسامة الهادئة موجودة على وجهه بعد الآن.
ومع ذلك، أجاب بصوتٍ خفيض وكأنه يحدّث نفسه، بلا أيّ تعبير على وجهه:
“إن كنتِ تعلمين أنني أسعى إلى توثيق علاقتي بالطبقة النبيلة، فقد يكون ذلك أمرًا متوقَّعًا.”
قالت بثبات:
“لن أحضر الحفلات لفترة، ولن تُتاح لك فرصة للقائي. فإن كانت لديك نيّةٌ ما، فقلها الآن.”
“…إن كان الأمر كذلك، يا آنسة.”
تقدّم أنيس خطوةً واحدة. ووجدت جويا نفسها محاصرة بينه وبين السور الحجري. وضع يديه الكبيرتين على الجانبين، وكأنّه أحاطها بذراعيه دون أن يلمسها.
وصلت إليها رائحة قريبة… لم تدري أهي عطر أم رائحة جسد، لم تلحظها أثناء الرقص.
ربما غطّى ضجيج القاعة وروائحها تلك الرائحة.
لم تكن قويّة، لكنها كانت حادّة بما يكفي عن قرب. عضّت جويا شفتها من الانزعاج.
ثم انحنى الماركيز قليلًا، مائلًا رأسه بنيةٍ واضحة لإرباكها، وربما لإخافة قلبها.
“هل ستقبلين بخطبتي، يا آنسة؟.”
ارتجفت رموشها البنية قليلًا. كانت الرائحة قريبة إلى حدّ الإفراط، وصداعها لم يهدأ، والهواء البارد جعل جسدها يقشعرّ.
تصرفه بدا أشبه بالممازحة منه إلى الجديّة.
وكان المشهد بأكمله مزعجًا… أن يبدو وكأنّها هي من ترغب بزواجٍ منه وهي التي لفظت حياتها الأولى كاملة في زواجٍ بلا روح!.
وبين ارتباكها وازدياد ألم رأسها، مدّت يدها فجأة وأمسكت وجه المركيز. وقبل أن يتراجع، قربته منها و…
تراجع الماركيز مصعوقًا، لكنّ الأمر كان قد وقع.
للمرّة الأولى تلك الليلة، ظهر الارتباك على وجهه. رفع يده إلى فمه، وقد ارتجفت أطراف أصابعه من المفاجأة.
“أقبل بخطبتك يا سيّدي الماركيز، وبكل سرور.”
“يا… يا آنسة…؟.”
“أتمنى أن ترسل خطاب الخطبة دون تأخير.”
والآن… بعد أن حطّمت بروده المدروس. شعرت جويا بالرضا. مرّت بجانبه وغادرت الشرفة. لم يعد لديها ما تقوله له.
عادت إلى الدوقية، تاركةً أسرتها، وتيريو معهم، في الحفل، وألقت بنفسها على السرير.
ما ظنّته صداعًا بسيطًا من الإرهاق تحوّل إلى نزلة برد في طريق العودة.
وضعت يدها على جبينها الحار، وفهمت أخيرًا لماذا لامس الماركيز جبينها في الشرفة.
—
«أحبك يا تيريو.»
احتاج إلى عامٍ كامل ليسمع ردًّا على اعترافه… ومع ذلك ظلّ وجه تيريو ألتي بلا تعبير.
ارتجف قلب جويا المرهق. هل تغيّرت مشاعره؟ أيمكن أنّ عامًا كاملًا بدّل قلبه؟.
لكن قلقها لم يعش طويلًا. فقد سقطت دمعة من وجه تيريو الخالي من الملامح.
«تيريو…؟»
«جويا… شكرًا لكِ. سأكون جيّدًا… سأكون جيّدًا بحق… حقًا…»
«لا، وأنا سأحسن أيضًا. لا تبكِ.»
«لست أبكي… من قال إنني أبكي؟.»
ومع أنّ وجهه كان مبلّلًا بالدموع، أخرجت جويا منديلًا لتجفّفها، لكن تيريو أدار رأسه سريعًا كي لا تراه.
أصرّت، لكنه كان فارسًا بارعًا، يستحيل أن تمسّ وجهه إن أراد تجنّبها.
وفي النهاية، استسلمت جويا وضحكت، ضحكةً صافية متحرّرة.
نظر إليها تيريو، وبنظرة مفعمة بالمشاعر، عانقها فجأة.
«هاه! ما هذا الآن؟.»
«أحبك… وهذه المرّة حقًا. سأحبكِ إلى الأبد… لن أتغيّر… جويا… أحبك… أحبك…»
احمرّ وجه جويا كالجمر.
كيف يستطيع قول أشياء كهذه بلا توقّف؟ كلمة واحدة كادت تفتّت قلبها، فكيف بهذا السيل؟.
غمرتها الحلاوة، ولم تستطع مقاومة احتضان تيريو بقوّة.
حين اعترف لها، صديقها الوحيد، بالحب، شعرت بخيانة تهزّ العالم تحت قدميها.
كان من الصعب تصديق أنّه رآها بعينٍ مختلفة، ومن الأصعب الانتقال من صداقة ثابتة… إلى حبٍّ هش.
لكن جويا في النهاية، خسرت المعركة. قلبها، الذي تعهّد ألّا يرى تيريو إلا كصديق، خانها أولًا. فلم يعد بوسعها لومه على كسر عهد الصداقة الأبدية.
وربما… ربما لا بأس بذلك؟.
إن تزوّجت تيريو… وإن أنجبت أطفالًا… فقد تحقق حلمها الأكبر: عائلة دافئة.
وربما… سيرعاها تيريو بحبٍّ لا ينتهي.
كانت وعودًا من رجلٍ واقع في حبّها بصدق. نعم، خدعها مرة، لكنه خُدع بقلبٍ فاض عن طاقة الصداقة.
أغمضت جويا عينيها وهي بين ذراعيه. ومرت كلمات أمّها في ذهنها:
«جويا، تزوّجي ممّن تحبين. الزواج لأجل المصلحة لا يجلب السعادة. وأن تنجبي من رجلٍ لا تحبينه… فذلك ليس سعادة، بل مأساة. هناك يبدأ الجحيم.»
«أمّاه… لماذا تقولين هذا؟.»
«لأنكِ يجب أن تكوني سعيدة… حتى إن كنتُ أنا لست كذلك.»
نعم يا أمّي. لو أنني تزوّجت شخصًا لا أحبّه، لو قبلت بزواجٍ يناسب الشروط، لما عرفتُ هذا الشعور الجميل.
لقد وجدتُ الحب. وحين كان ألتي، لم يعد لأبي أيّ سبب ليرفض زواجنا.
وكنت أؤمن أن نهايتي ستكون سعيدة، على عكس نهاية أمّي البائسة.
ابتسمت… ولم تستطع حبس تلك السعادة المتصاعدة.
«وأنا أحبك يا تيريو. إن كان حبك أبديًّا… فحبي كذلك.»
‘أحبك.’
«أنتِ السبب في موت ميليسي…»
‘أحبك.’
«لو لم ترفضي عرض الزواج من الماركيز… لو تركتِني وشأني… لكانت حية الآن.»
‘أحبك.’
«طفل، لا يحمل قطرة واحدة من دماء روبييت، كان ليبكي الآن بين ذراعي.»
«تيريو…؟.»
دفعها الرجل الذي كان يعانقها أرضًا. نظر إليها ببرودٍ لا يُصدَّق.
«التي أحبها… ليست أنتِ.»
في لحظة واحدة، تهاوى الحلم الطويل، وانتهى الكابوس.
صحَت جويا وهي تلهث بعنف.
قلبها يتخبط في صدرها كوحش يريد الفرار.
تمكّنت بالكاد من الجلوس، وأسندت ظهرها إلى لوح السرير. كان جسدها مبلّلًا بالعرق البارد.
‘اللعنة عليك يا تيريو ألتي.’
خرجت الكلمات الخشنة من فمها بسهولة غير معتادة. أغمضت عينيها تحاول تهدئة نفسها، ثم فتحتهما وهي تمسح شعرها المبتل على جبينها.
لقد مرّ وقت طويل منذ رأت ذاك الكابوس.
وما إن قالت ذلك لنفسها، حتى فُتح الباب. دخلت آني، خادمتها، وحيّتها كالمعتاد، وإن بدا على وجهها شيء من التوتر.
“أنتِ مستيقظة يا آنسة؟ انتظري… لماذا وجهكِ شاحب هكذا؟!.”
“آني.”
“والعرق يغطيك! هل رأيتِ كابوسًا؟.”
“كان حلمًا مزعجًا فقط.”
لم يكن غريبًا على جويا أن ترى كوابيس. أومأت آني بتفهّم، وقدّمت لها كوب ماء.
وبينما الماء البارد ينساب في حلقها، شعرَت جويا ببعض الوضوح.
“هل تجاوزت الساعة التاسعة؟.”
“لا يا آنسة. إنها الثامنة والنصف فقط.”
“إذن لماذا جئتِ مبكّرًا؟ قلتُ لكِ أن توقظيني عند التاسعة بعد الحفل.”
ترددت آني قليلًا، ثم قالت بجدّية:
“هناك أمر عاجل يا آنسة…”
سألتها جويا وهي تعيد لها الكوب. وبعد لحظة صمت، قالت آني بوضوح:
“وصلك عرض زواج… من الماركيز بيتيلجيوس.”
رمشت جويا ببطءٍ شديد… وتوقّف نفسها لوهلة.
“أكنتِ تدرين؟. فالبارحة… رأيتكما ترقصان معًا…”
لكن جويا لم تسمع بقية الحديث.
ذلك يفسّر اضطراب نومها…
حقًا، إنه رجل سريع للغاية.
نبض قلبها هذه المرة كان بمعنى مختلف.
ضحكت جويا بخفوت، تضحك من نفسها ومن اضطرابها.
«تزوجي ممّن تحبين، فالزواج لأجل المصلحة لا يجلب السعادة.»
لا يا أمّي. الزواج بمن أحببتُ كان الجحيم الأكثر قسوة في حياتي.
حتى لو كان الطريق الآخر موتًا محتمًا، فلن أختاره مرة أخرى.
قالت بهدوء:
“لا، لم أكن أعلم.”
إذن… لم يبقَ لي سوى اختيار الموت الأقل ألمًا.
أليس كذلك… يا أمّي؟.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"