بدأت الفرقة تعزف الفالس، وكأن الرقصة قد انطلقت وحدها دون الحاجة إلى أن تضع جويا يدها في يد الماركيز. ومع موافقة الإمبراطور نفسه، من ذا الذي يجرؤ على الرفض؟ اضطرت جويا، على مضض، إلى أن تضع يدها في يد الماركيز.
اختبأ اضطرابها خلف ملامحها الهادئة. ومع الوقت، بدأ الصمت الذي خيّم على قاعة الرقص يتبدّد أمام نغمات خفيفة وأحاديث متناثرة.
على الرغم من توترها الخفيف، بدت خطوات جويا طبيعية، رغم أنها لم ترقص منذ سنوات طويلة.
كان ذراع قوي يطوق خصرها، يجرّها إلى قربه أكثر. وحين جذبها الرجل إليه، كادت تدخل في حضنه، أخذت جويا نفسًا قصيرًا محتجزًا.
ثبّت الماركيز أنظاره الرمادية عليها دون أن يرمش، وقال بصوت منخفض اختلط بأنفاسه، حتى شعرت به يتغلغل في أعماق جسدها:
“من المؤسف أن يكون أول لقاء بيننا هكذا. أنا آنيس بيتيلجيوس.”
كان صوته أعمق وأخفض مما تذكره، حتى إن صوت تيريو، مقارنةً به، بدا خفيفًا كنسيم.
“…لهذا لم تتردد؟ أنا جويا روبييت.”
“لا تبدين متفاجئة، آنسة جويا.”
“وكيف لا أتفاجأ؟.”
أجابته بصدق. فالمفاجأة لا تعفي أحدًا مهما كان الحدث صغيرًا.
ربما بسبب ارتباكها، أو بسبب استعجالها، شعرت بثقل النظرة في عينيه. وبينما كانت تتحرك مع الموسيقى، قاومت رغبتها في تجنّب عينيه قدر ما تستطيع.
وسخرًا من محاولتها، ضاقت نظرته الطويلة قليلًا، وكأن فيه ابتسامة خفية.
“كنتُ أودّ الحديث معكِ على انفراد، لكن الشرفة مكشوفة أكثر مما ينبغي.”
“فاخترتَ الحديث أمام الجميع؟.”
“أليس هذا المكان أفضل مخبأ للكلمات؟.”
حقًّا، فلو همست هي والماركيز في وسط قاعة الرقص، لما أصغى إليهما أحد. وحتى إن سمعهم أحد، لظنّها همسات عابرة.
لكنّ سؤالًا ظلّ يدور في رأس جويا:
‘لماذا طلب المركيز الرقص معها الآن، خلافًا لما حدث في الماضي؟.’
ربما لأنّ جويا حضرت الحفل هذه المرة، ولأن خطبتها مع تيريو قد انتهت. هكذا يبدو الأمر ببساطة.
لكن…
هل سيحدث الشيء نفسه هذه المرة أيضًا؟.
هل سيطلب يدها كما فعل في حياتها السابقة؟.
كانت قد افترضت ذلك تلقائيًا. فبعد أن قطعت خطبتها مع تيريو، بدا الطريق مفتوحًا… أسهل من قبل.
لكنّ آنيس بيتيلجيوس رجل لا يمكن التنبؤ به.
ربما، في الماضي، تقدّم لخطبتها فقط لأنها كانت مخطوبة لتيريو… ربما أراد استفزاز روبييت أو ألتي.
بماذا يفكر هذا الرجل؟.
ومهما كان السبب… ماذا ستفعل إن تغيّر كل شيء؟.
شعرت جويا بالإرهاق، وخفق رأسها. فقررت قطع أفكارها وسألته بصراحة:
“ما الذي تريد قوله يا ماركيز؟.”
“سمعتُ أنّكِ فسختِ خطوبتكِ مع السيد ألتي، آنسة روبييت.”
‘يا له من رجل وقح.’
دون أن تتمكن جويا من إنهاء عبارتها، اقترب أكثر وسأل بصوت أوضح:
“هل تحبينه؟.”
شحبت شفاه جويا تحت طبقة أحمر الشفاه، لكنها أجبرت نفسها على الإجابة:
“…كنتُ أحبه.”
“إذن، تقولين أنّكِ لا تفعلين الآن.”
“يبدو أنّك تستمتع بالتلاعب بالكلمات، يا ماركيز.”
“أوه؟ وهل يزعجكِ ذلك، يا آنسة؟.”
دفع الماركيز يد جويا قليلًا، ليعود فيمسكها من جديد.
كانت الأغنية توشك على نهايتها. وباتباع خطواته، وضعت جويا يدها على كتفه.
“هل جئتَ بي إلى وسط القاعة فقط لتتبادل معي بضع كلمات؟.”
“إذًا ماذا تظنين سبب قدومي بكِ إلى هنا، آنسة؟.”
“ماركيز…”
دارت دورتها الأخيرة، فانفرشت تنورتها في دائرة واسعة قبل أن تعود تلتف حول ساقيها.
تراجعت خطوة، ثم عادت لتضع يدها فوق كتفه، ونظرت إليه بعينيها الداكنتين مباشرة.
“أنا أعرف أكثر مما تعتقد.:
“آنسة؟.”
“و…”
وقبل أن تكتمل كلماتها، توقفت الألحان وتوقفت معها الموسيقى. تبعتها تصفيقات خفيفة ملأت الصمت.
‘على أي حال… انتهى الأمر.’
تنفست جويا بعمق، دون أن تعرف هل شعرت بالراحة… أم بالأسى.
“لقد انتهت الرقصة.”
“انتظري لحظة…”
لكنها استدارت، تاركة بيتيلجيوس دون إجابة.
راقبها المركيز وهي تختفي بين الحشود، ثم رفع كتفيه بلا مبالاة.
“لقد فرت.”
—
انفتح باب الشرفة. وبما أنّ الحفل كان في بدايته بعد، كانت الشرفة شبه خالية، وهذا ما أراح جويا.
“هاه…”
تسللت نسمة باردة خففت من خفقان رأسها. أسندت جويا ظهرها إلى الباب، ووضعت يدها على جبينها.
لقد انشغلت كثيرًا بفكرة إنهاء علاقتها بتيريو ألتي، حتى إنها لم تفكر بغير ذلك.
ومهما كان ما حدث، حلمًا كان أم شيئًا آخر… فقد أصبح شديد الواقعية.
لو كان حلمًا لما طال إلى هذا الحد، ولو كان جحيمًا لما استطاعت فسخ خطبتها من تيريو.
كانت الفكرة التي قاومتها… فكرة أنها عادت إلى الماضي… تصبح أكثر واقعية كل لحظة.
أما عن الماركيز…
بماذا كان يفكر؟.
لم يتبادلا سوى كلمات قليلة، وكان بإمكانه أن يطلب ما طلبه في الماضي. فلماذا إذًا جذب الأنظار بطلبه الرقص معها؟.
ربما مجرد نزوة.
أغمضت عينيها باستسلام.
“هل ينبغي أن أعود؟.”
مهما كانت نواياه، فإن مصير روبييت لم يكن ليتغيّر.
بعد عام… كان آنيس بيتيلجيوس سيُسقط روبييت، لأسباب سياسية أو لضغينة شخصية… لا فرق.
إذا كانت النهاية نفسها، فما أهمية الطريق؟.
بتنهيدة طويلة، قررت جويا ترك الأمور تجري كما تشاء.
وتمامًا حين عادت لتقرر العودة إلى القصر… فُتح باب الشرفة مجددًا.
لم تهتم بمن دخل، فهي سترحل على أي حال. عدلت فستانها، فسمعت صوتًا تعرفه.
“هل أنتِ بخير يا جويا؟.”
“…تيريو.”
نظر إليها تيريو ألتي بعيون قلقة.
عاد الإرهاق ليغمرها. رمشت بعينيها المثقلتين وقالت:
“لا… ليس تمامًا.”
“لماذا طلبكِ الماركيز بيتيلجيوس للرقص؟ ماذا قال لكِ حتى بدوتِ هكذا؟.”
“حديث تافه… لا تشغل بالك.”
“لا يمكن أن يكون مجرد حديث تافه.”
ابتلعت كلمات كانت ستقولها بحدة، وبدّلت الموضوع:
“لماذا أتيت؟ أين ميليسي؟.”
“ميليسي؟ الدوق يرافقها… وأنا شريككِ.”
“لم أكن أعلم أن الشريك أهم من الخطيبة.”
“لا تقولي ذلك يا جويا.”
لم تبذل جويا جهدًا في إخفاء سخرية كادت تنفلت من شفتيها، لكنها كظمتها بدافع الإرهاق.
وبينما تلزم الصمت، تجهّمت ملامح تيريو، وهو أمر نادر منذ عودتها في الزمن.
“تصرفاتكِ غريبة مؤخرًا.”
“غريبة؟.”
“نعم، هناك مسافة… وكأنكِ تبتعدين فجأة.”
“هذا ليس غريبًا… إنه فقط مختلف. أرجوك، لست في مزاج للحديث. أريد أن أرتاح… هلّا تبتعد؟ لا، سأذهب أنا… فقط تنحَّ جانبًا.”
وعندما حاولت المرور، استوقفها تيريو مجددًا، ناظرًا إليها بنبرة أشدّ.
“ما الذي تغيّر؟.”
عند هذه النقطة، لم تستطع جويا كبت غضبها.
كيف يجرؤ أن يسألها؟ وهي نفسها من أنهت خطبتهما وساعدته على الارتباط بميليسي!.
ألا يجدر به أن يكون معها الآن بدلًا من اللحاق بجويا وملاحقتها حتى الشرفة؟.
أجابته بغضب كانت تخبئه منذ سنوات:
“هل ظننتَ أنني سأظلّ المرأة نفسها… تلك التي أحبّتكَ؟ ألا يمكن أن تتغيّر المرأة التي لم تعد تحبك؟.”
“جويا…!.”
“تنحَّ قبل أن أستدعي أحدًا. هذه آخر مرة أقول فيها.”
وعندما حاولت دفعه مرة أخرى، قبض على كتفها، وعيناه مليئتان بالحيرة.
“حتى لو لم نكن عاشقين… نحن أصدقاء! لأكثر من عشر سنوات! لماذا أصبحتِ هكذا فجأة؟.”
‘فجأة؟.’
اشتعلت عينَا جويا كاللهب الأزرق.
سبع سنوات كاملة أمضتها في علاقة انهارت من الداخل… سنوات استنزفت روحها وهي تكبت حبًّا مات ولم يبقَ منه سوى عبء ثقيل. سبع سنوات من الصمت والتظاهر والقهر.
حين فقدت قلبها، بقيت فقط لأنها ظنّت أنه ‘واجب’. ثم تلاشى كل ذلك حين وجد تيريو امرأة أخرى.
والآن… بعد أن عاشت مرارة النهاية، ثم ماتت.
هل كان يظن أن موتها جاء ‘فجأة’؟.
هل اعتقد أنها حصلت على ما تستحقه؟.
غمرها غضبًا هائلًا… غضبًا لم تشعر به منذ زمن بعيد. لكن قبل أن تصرخ، امتدت يد لتزيل يد تيريو عن كتفها.
لم تكن تعلم أن أحدًا دخل الشرفة بسبب ارتفاع أصواتهما. حدّقت بدهشة.
وانطفأت عاصفتها فجأة… كما ينفجر بالونٌ بوخزة إبرة.
“هل أسديتُ لكِ عونًا؟.”
كان آنيس بيتيلجيوس هو من وقف بينهما.
شعرت جويا بلسانها يتحرك تلقائيًا:
“…قلتَ إنك تخشى نظرات الناس… ويبدو أنك غيّرت رأيك سريعًا.”
“ما زلت أخشاها. لكنني تغلّبت على خوفي… فقط لأساعدكِ يا آنسة.”
قالها، ثم هزّ كتفيه بخفة:
“أو ربما جئت لأُفسد قصة حبكما.”
“دعابة رديئة.”
“مؤسف… فلو كنتِ من الشرق، لضحكتِ عليها كثيرًا.”
:من ذا الذي يضحك على نكات سفّاح الحروب؟.”
رغم حدّة كلامها، ضحك الماركيز. بدا أنّه يستمتع بهذا النوع من المزاح، كما لاحظت جويا.
“ماركيز، جويا وأنا نتحدث. إن كان لديك شأن، فانتظر بعد ذلك.”
“آه… أنت السيد ألتي، أليس كذلك؟.”
“نعم، تيريو ألتي.”
قالها بصرامة، بينما يزيح يد المركيز عن ذراعه بنفور ظاهر.
تيريو كان غاضبًا… لكن الماركيز اكتفى بابتسامة كسولة.
“أتسمّي ملاحقة امرأة لا تريد سماعك… حديثًا؟.”
“ماركيز.”
رفع الماركيز إصبعه مشيرًا إلى باب الشرفة.
“يبدو أنّ مَن يحتاج إلى المغادرة… هو أنت.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"