في اليوم الذي تحدّث فيه جويا وتيريو عن فسخ خطوبتهما، بقي تيريو في قصر روبييت بدلًا من العودة إلى ألتي. كان ينتظر دوق ودوقة روبييت وميليسي روبييت.
كادت جويا أن تضحك من أسئلته القلقة حول وقت عودتهم.
لكن حماسة تيريو ما لبثت أن تحولت إلى توتر عندما عاد الدوق والدوقة بصحبة ابنتهما.
فبما أن الأمر كان اتفاقًا بين ألتي وروبييت، لم يكن يسيرًا أن تُفسخ الخطوبة بكلمة واحدة.
فضلًا عن أنّ طلب تغيير الخطيبة من الأخت الكبرى إلى الصغرى ليس أمرًا يُتوقع قبوله بسهولة.
لكن الدوق، ولدهشة تيريو، سأل جويا ما إذا كانت بخير مع ذلك، ثم وافق على علاقة تيريو وميليسي.
ومن خلال ملامح ابنته السعيدة، فهمت جويا على الفور شعور الدوق… فضلًا عن الدوقة.
تم تحديد موعد خطوبة ميليسي وتيريو بعد الحفل الإمبراطوري. ذلك بسبب أن تيريو كان سيصطحب جويا في الحفل، فكان من غير اللائق إقامة الخطوبة قبله.
ورغم هذا، بدا أن خبر فسخ خطوبة جويا وتيريو قد انتشر سريعًا من القصر إلى العاصمة.
حتى هذه اللحظة، كانت عيون كثيرة تراقبهما من بعيد.
كانا يعلمان أن الأمر سينتشر في النهاية، لكن تيريو، الذي لم يظن أنه سينتشر بهذه السرعة، اعتذر بحذر:
“أنا آسف يا جويا… يبدو أنني كنت متسرعًا.”
“لا، كنت أتوقع ذلك.”
“ولكن…”
قاطعت غيويو اعتذاره المستمر، وسحبت يدها من يده.
كانت جويا قد قبلت مرافقة تيريو فقط بسبب الشرط المزعج الذي يمنع حضور الحفل الإمبراطوري بلا شريك.
وبمجرد دخولهما قاعة الرقص، لم يعد هناك أي داعٍ لأن تمسك بيد تيريو ألتي.
كانت القاعة مكتظة. فالحفل الإمبراطوري يُقام بعد انقطاع طويل، وقد تجمّع الناس كالزنابير، وعزف الأوركسترا يملأ المكان بضجيج راقٍ.
والطعام المكدّس على كل طاولة كان يكفي لإطعام نصف سكان العاصمة.
وعبر أضواء الثريات الصفراء، حاولت جويا أن تُخفي عبوسها.
منذ سقوط روبييت، نادرًا ما كانت جويا تطأ قاعات الحفلات. كانت تمكث في القصر غالبًا، إلا إن كان عيدًا ملكيًا، ثم لاحقًا توقفت حتى عن حضور تلك.
كان ذلك لأن تيريو كان يتحرج من مرافقتها، لكن بالنسبة لجويا، كان ذلك أفضل من الوجود بين ألسنة الهمس والفضول.
حتى الآن، كانت الألسن تُطلق الشائعات، لكن جويا لم تعد تُبالي بالعيون السوداء والألسنة السوداء التي تطالها.
لم يعد شيء قادرًا على اختراق قلبها الجاف. قلب جويا قد تمزق بما فيه الكفاية.
سمعت صوت تيريو يناديها من الخلف، لكنها لم تلقِ له بالًا.
وكان بعضهم يتعرف إليها من حين لآخر، فيسلّم على “ابنة روبييت”، محاولًا استدراجها للحديث عن حياتها الأخيرة… لكن جويا كانت تتهرب منهم بفظاظة وهي تمسح القاعة بعينيها.
قبل العودة بالزمن أو بعدها، لم يكن لجويا اهتمام بالرقصات. لكن اليوم… كان لها سبب لتكون هنا.
ولم يكن ليكون أمرًا كبيرًا لو لم يكن اليوم. فسيكون هناك حفل آخر، وإن لم تجده في الحفل المقبل، فسيأتي عرض الزواج قريبًا، وستضطر لرؤيته على أي حال.
لكن جويا كانت تبحث عنه الآن لأنها أرادت أن ترى وجهه مرة أخرى… قبل ذلك.
سواء بدافع الفضول… أو الحسم.
بعد دقائق من البحث، توقفت نظرات جويا عند مكان ما. وسط مجموعة من الناس، برز رجل بطولِه وهيبته.
“ماركيز بيتيلجيوس.”
وحين تحركت شفتا جويا، دوّى صوت الأبواق فجأة:
“شمس سولاريس الساطعة، جلالة الإمبراطور وصاحبة الجلالة الإمبراطورة يدخلان الآن!.”
بدت وكأن عينيه التقتا بعينيها. لكنها خفضت رأسها بسرعة فلم تستطع التأكد. بدا أنهما التقيا، لكنها لم تجزم.
استمر صوت الأبواق الصاخب دقيقة كاملة، وكأنهم يحاولون إخفاء نقص الهيبة الإمبراطورية.
ولمّا أكمل عقرب الساعة دورة كاملة، استطاع الجميع، ومنها جويا، أن يعتدلوا في وقوفهم.
وبعد أن خفّ صوت الأبواق، بدأ الإمبراطور الشاب، الذي كان في الثلاثينيات، خطابه. وبما أن السبب الرسمي للحفل هو الاحتفال بالنصر الذي تحقق قبل عام تقريبًا، فقد امتلأ خطابه بكلمات العزاء للفرسان الراحلين، وتمجيد قوة الإمبراطورية.
ورغم أن أقل من 10٪ من الحاضرين قد شعروا فعلًا بأثر الحرب مع أوبيل، إلا أن النبلاء ظلوا يهزون رؤوسهم بفخر.
‘يبدو أنهم سعداء بحصص الأرباح التي عادت إليهم…’ فكرت جويا ساخرًة.
“وبما أن هذا الحفل يقام احتفالًا بالنصر، فلا يمكن أن نتغافل عن أكبر المساهمين فيه. ماركيز بيتيلجيوس … تقدم وتلقَّ نخب الإمبراطور.”
‘بيثلجيوس؟.’
رفعت جويا رأسها. وتقدّم رجل بخطوات بطيئة، وكأنه يستمتع بكل نظرة تُوجَّه إليه.
كان شعره النادر، الأحمر المائل إلى الذهبي، يتموّج بوضوح، وملامحه الحادة يمكن رؤيتها من مسافة بعيدة.
وكان طويل القامة، لا يقل طولًا عن أفضل الفرسان، وفي مشيته أناقة خالصة يصعب تصديق أنها لرجلٍ وُلد من عامة الشعب.
آنيس بيتيلجيوس.
بات الآن ماركيز، لكنه كان في الأصل رجلًا من العامة ارتقى اسمه في الحرب بين سولاريس وأوبيل.
بدأ جنديًا عاديًا، ثم ترقى إلى قائد مئة بسرعة، وقاد كل معركة شارك فيها نحو النصر، صاعدًا في رتبته مع كل إنجاز.
ورغم أنّ ميزان القوة كان يميل لصالح سولاريس، إلا أنها لم تكن حربًا سهلة، ومن المتوقع أن تُمنى البلاد بخسائر… لكن بيتيلجيوس قلّص تلك الخسائر إلى أدنى حد.
انتصاراته المتتالية من مواقف كانت مستحيلة تقريبًا جعلت اسمه يُشبه الأسطورة، فارتفع من عامة الشعب إلى ماركيز في قفزة لم يسبق لها مثيل.
“إنه لشرف لي، يا جلالتك.”
تلقى الماركيز نخب الإمبراطور بثبات، دون أدنى توتر. كانت كل حركة منه مطابقة للاتيكيت بأناقة مذهلة.
ومع أنه حصل على لقبه منذ أقل من عام وجاء إلى العاصمة حديثًا، إلا أنه بدا أرستقراطيًا خالصًا.
ولهذا، وجد النبلاء، الذين كانوا يتوقون لاكتشاف عيب واحد في “القروي الجديد”، أنفسهم عاجزين، بينما الذين كانوا يحذرون من “المجنون المتعطش للحرب” صاروا تابعين له.
وقد قبلته فصائل النبلاء المعارضة للسلطة الإمبراطورية بلا اعتراض… بل ورفعته إلى صفوفهم.
نمَت سلطة بيتيلجيوس بسرعة وحشية، تكاد تكون مخيفة.
ربّت الإمبراطور على كتفه بابتسامة… لكن في الحركة ظلّ شيء من التردد.
“وجود موهبة مثلك في سولاريس نعمة من الآلهة. إن رغبت في شيء، فاطلبه الآن. ما دمتَ لا تطلب الإمبراطورية نفسها… سأمنحك إياه.”
ضجّت القاعة بالهمسات. بدا وكأن الأمر لم يكن مخططًا له، فالإمبراطورة والدوقان تجمّدت تعابيرهم.
كان منح لقب ماركيز لرجل من العامة سابقة في التاريخ، وبطولاته، وإن عظمت، لم تتجاوز حدود لقب ماركيز.
وحدها جويا روبييت لم تُظهر أي اضطراب. كانت تعرف ما سيقوله الإمبراطور… وتعرف السبب خلفه.
لم تحضر هذا الحفل في حياتها السابقة، لكن كلمات الإمبراطور انتشرت على ألسنة الجميع.
“يا صاحب الجلالة، إن إنجازات الماركيز قد نالَت اعترافًا رسميًا بالفعل بمنحه اللقب. فكيف يمكن…”
“ما فعله بيتيلجيوس ليس أمرًا عاديًا! لو لم يكن الحدّ الذي يستطيع رجلٌ من العامة بلوغه من قفزة واحدة هو منصب الماركيز، لكان جديرًا بدوقية كاملة. فإذا اكتفينا بتقديره بمنحه لقب ماركيز فحسب، فبأيّ وجه أظلّ أُسمّي نفسي إمبراطور سولاريس؟!.”
وبينما حاول دوق روبييت الاعتراض قليلًا، أسكته الإمبراطور بسهولة.
ثم التفت الإمبراطور إلى الماركيز مجددًا:
“تحدث بلا تردد، يا بيتيلجيوس. هل لك طلب؟.”
“إن كان لي أن أطلب… فلدي طلب واحد.”
ترقبت العيون ما سيقوله، نصفها قلق، ونصفها متشوق.
كانت جويا الوحيدة التي تظن أنها تعرف ما سيطلبه.
ولم يكن طلبه في حياتها السابقة إلا أن يُسمح لابن أحد الكونتات بالانضمام إلى اختبار دخول فيلق الفرسان الأول، طلب بسيط، يهدف إلى كسب ود النبلاء.
لكن الكلمات التي خرجت من فم الماركيز هذه المرة، لم تكن تلك.
“أطلب من جلالتكم منحي الرقصة الأولى في الحفل.”
‘الرقصة… الأولى؟.’
انعقد حاجبا جويا باضطراب. ظنت أنها أساءت السمع… لكنها سمعت كلمة “الرقصة” تتردد في الهمسات من حولها.
هل كانت ذاكرتها… مخطئة؟.
ربما كانت التي سمعتها آنذاك مجرد رواية محرفة…
عضّت جويا شفتها بقلق.
حتى الإمبراطور بدا مذهولًا للحظة قبل أن يقول ببطء:
“آه… الرقصة الأولى. لا يمكن أن تكون رغبتك في الرقص معي… إذن من هي السيدة التي أسرَت قلبك؟. حسنًا… ستفتتح الحفل.”
“إنه لشرفٌ لي، جلالتك.”
انحنى الماركيز بلباقة، ثم استدار.
كان الرجل بثيابه البيضاء يتقدم بين الحشد بخطوات ثابتة.
كانت ذيول معطفه تتأرجح برقي…
وكلما اقترب، اتضحت ملامحه لجويا شيئًا فشيئًا.
لم تره من مسافة قريبة إلا نادرًا… وحتى تلك الذكريات اندثرت في الزمن. لكن ما لم تنسه قط… هو أنه رجل خطير.
عينيه، رغم ابتسامته، كانتا تخفيان بردًا تحت الرموش.
وأنفه، الحاد كحد السكين، ازداد حدة كلما اقترب.
مظهره اللافت من بعيد… كان مذهلًا عن قرب.
وبينما تنظر إليه… عادت إلى ذهن جويا صور شجيرات الورد التي سقطت عليها قبل موتها.
متوحشة… شديدة السطوع في لونها وعطرها.
لم يكن هذا الرجل يناسبها أكثر مما كانت تلك الورود تناسبها.
من اختارته للنهاية مُسبقًا… بدا وكأنه يجسّد نهايتها بمجرد حضوره.
جفّ حلق جويا.
“الآنسة جويا روبييت.”
ارتجفت جويا قليلًا. لم تدرك أنها كانت تحدّق فيه مباشرة. توقعت أن يمرّ بجانبها، لكنه توقّف أمامها.
وكانت نيته واضحة. التقت عيناه بعينيها، هذه المرة بلا شك.
تحت رموشه الطويلة، انعكس وجه جويا بوضوح داخل رمادية عينيه الظليلتين.
انحنى الماركيز بخفة، ومد يده نحوها.
“هل تمنحيني هذه الرقصة؟.”
وجذب جويا، المشدوهة، إلى مركز كل الأنظار.
لكن وسط كل تلك النظرات، لم تشعر جويا إلا بنظرةٍ واحدة.
نظرة آنيس بيتيلجيوس.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"