لم يمضِ وقت طويل منذ آخر مرة رأت فيها جويا تيريو. فوفقًا للماضي، قد يبدو الأمر مختلفًا، لكن أسبوعًا واحدًا فحسب هو ما فصل بين موتها وذلك اليوم.
ومع ذلك، بدا وجه تيريو أمامها وكأن أعوامًا طويلة قد مرت… سبع سنوات، ربما؟ لم يسبق لوجهٍ أن جعلها تشعر بوقع الحقيقة بهذا الشكل.
سواء في الماضي أو بعده، لم يكن سن التاسعة والعشرين كبيرًا، ومع ذلك بدا الوجه الذي تراه الآن غريبًا عنها على نحو لا يُصدَّق.
ذاك الوجه الذي أصبح جامدًا كالشمع، كان أمامها مفعمًا بالحياة. صحيح أن ظلالًا خفيفة ارتسمت عليه، لكنها كانت ضمن حدود ما يمرّ به أي إنسان.
شعرت جويا بغصّة تخنقها للحظة. كان التغيّر الذي لحق بتيريو… جزء منه بسببها.
وعندما لاحظ تيريو شحوب وجهها، سألها بقلق:
“سمعتُ أنكِ كنتِ مريضة… هل تشعرين بتحسُّن؟.”
“لقد كان ذلك قبل أيام قليلة فحسب.”
“ومع ذلك…”
لكن جويا لم تُكمل الحديث. أطبقت شفتيها في صمت.
تنفّس تيريو بعمق وتقدّم نحوها. حاول أن يطبع قبلة اعتيادية على خدّ خطيبته، لكنه تراجع حين وضعت يدها على كتفه ودفعته قليلًا.
“جويا…؟.”
تمتم بعينين حائرتين، لكنها تجاهلت نظرته وجلسَت على الأريكة.
“أعتذر لأنني طلبتُ حضورك. كنتُ أرغب بالمجيء إليك، لكن الحمى لم تغادرني بعد.”
“لا بأس، المكان قريب.”
ارتشفت جويا رشفة صغيرة من الشاي، واستجمعت كلماتها.
“كان هناك شيء أردتُ قوله. أو بالأحرى… فكّرت أن عليّ قوله.”
لم يفتح تيريو قلبه يومًا لجويا قبل زفافهما. كان ظل الحزن يثقل ملامحه يومًا بعد يوم، وكانت ابتسامه تختفي تدريجيًّا.
حتى في الليلة التي عاد فيها مخمورًا ليكشف ما يختلج صدره، لم تنصت إليه جويا… لذا لم تخرج تلك المشاعر إلى العلن أبدًا. وفي النهاية، ماتت ميليسي روبييت، ووقعت الكارثة.
مأساة؟ حماقة؟ لا تعرف، لكنها شعرت اليوم بشيء يصعب وصفه.
ولم يكن ذلك حتى كبتًا منه. فقد حاول تيريو التحدث قبل الزفاف بيوم واحد… حين كان كل شيء قد تقرّر.
يا لغبائه، حاول الاعتراف بعد أن فات الأوان.
ربما كانت بقايا مشاعر… وربما كان يريد إلقاء اللوم عليها.
أي أفكار راودت تيريو وهو مقبل على زواجٍ لا يريده؟
مجرد تخيّل ذلك كان مؤلمًا لجويا… حتى بعد انتهاء كل شيء.
قالت بهدوء وهي تنظر إلى فنجانها:
“حفلة خطوبتنا الفعلية أصبحت قريبة. وسنتزوج العام المقبل.”
“صحيح.”
“تيريو، هل تذكر ما قلته حين كنا أصدقاء؟ قلتَ إننا سنبقى أصدقاء إلى الأبد.”
كانت تلك الكلمات تعني لها الكثير. كانت جويا، الخجولة المنغلقة، تتلقى تلك الجملة كضوء صغير في حياتها.
ابتسمت ابتسامة شاحبة. كان طعم المرارة يتسرّب إلى فمها.
“وانهار كل ذلك في اليوم الذي اعترفتَ لي فيه.”
“جويا…”
“وتذكر يوم قبلتُ اعترافك؟ بكيتَ كثيرًا حينها.”
كان رؤيته يبكي أمرًا أربكها. حاولت مواساته بخجل، وبالأخير ضحكت وهي ترى تيريو يحاول إخفاء دموعه كالأطفال.
في ذلك اليوم أيضًا قال لها:
«سأحبكِ إلى الأبد.»
تمنّت لو أنه لم يقل شيئًا.
“راقبتك طويلًا يا تيريو. أعرف تقلّبك… وأعرف أنك لا تُتقن الحفاظ على وعودك.”
عبس قليلًا وقال:
“لا أفهم ما تقصدين.”
“حقًا؟.”
مع أن ملامحه بدت مألوفة، إلا أنّ جويا، التي عاشت أكثر من عشر سنوات بجواره، رأت الاضطراب في عينيه فورًا.
رفعت يدها لتربّت على عينيه المرتجفتين، لكنها أعادتها. لم تعد ترغب في ذلك.
“حين تُعقد الخطوبة، لن يعود بالإمكان التراجع. إن بكيتَ، أو غضبتَ، أو أثرتَ صخبًا… لن يتغيّر شيء. إن لم تقل كل شيء الآن، فهذه ستكون غلطتك وحدك، تيريو.”
كان كلامها مباشرًا، لكنها فوجئت بصمته. ظلّ يحدّق بها بنفس النظرة.
هل كان حائرًا؟ لم يدرك مشاعره؟ أم خاف من كسر الوعد؟ أم تردّد في الهرب؟.
“ناديتك لأقول هذا فقط. سخيف، أليس كذلك؟.”
— “جويا…”
“أنا متعبة، تيريو. أرجوك عد اليوم.”
نهضت من مكانها، وما إن التفتت حتى أحاطها بذراعَيه بقوة، وسقطَ وجهه على كتفها الدافئ.
‘مرّ زمن طويل منذ آخر مرة احتضنني فيها.’
فكّرت جويا بلا مشاعر. كانت قد أحبّته حدّ الألم، واشتاقت لوجوده، ومع ذلك… لم يخفق قلبها. ربما دُفنَت مشاعرها مع موتها.
شعرت بقليل من الحزن لأجل حبّ لم يبقَ منه شيء.
“منذ متى… عرفتِ؟.”
“أعرفك منذ زمن طويل، تيريو.”
“أنا… آسف، جويا. دعينا… نُلغِ الخطوبة.”
“نعم، يا تيريو.”
وافقت دون أن يرفّ لها جفن.
انتهى الأمر.
لن تسمع كراهيته بعد الآن.
لن تموت ميليسي.
لن تُلام جويا.
لن تنتظر أن يحبّ امرأة أخرى.
ولن تعدّ أيام اقتراب موتها.
“أخبري الكبار بنفسكِ.”
“سأفعل.”
“وأمرٌ آخر… هناك شرط.”
رفعت رأسها بدهشة. ‘شرط؟.’
“ليس شيئًا كبيرًا. فقط… رافقيني إلى الحفل الملكي الشهر القادم. من المتعب البحث عن رفيقة جديدة.”
“لم أكن أعلم أنك تحب الحفلات.”
“لديّ أسبابي. يمكنكِ إخبار الكبار بما شئتِ قبل ذلك.”
لم يكن الطلب عسيرًا، فأومأ تيريو برأسه يشجّعها، فما كان منها إلا أن بادَلَته الإيماءة إقرارًا.
ابتسم لها شاكرًا.
ولم تعرف جويا… على ماذا يشكرها؟.
على تخلّيها عنه؟.
على تركه حرًّا؟.
على أنها أدركت مشاعره قبله؟.
أيُّ شكر هذا؟.
“لا حاجة للشكر… فقط كن سعيدًا.”
«أنتِ السبب في موت ميليسي… لو لم ترفضي عرض الزواج من الماركيز… لو تركتِني وشأني… لكانت حية الآن..»
تساءلت جويا:
ما الوجه الذي سيظهره تيريو لو كان الموت نصيبها هذه المرة؟.
هل كان سيلوم نفسه؟.
أم يلقي اللوم على امرأة أخرى؟.
«إن لم تقلها الآن… فستكون غلطتك، تيريو.»
وفي الحقيقة، حتى لو قالها، ستبقى غلطته.
فهو من غيّر قراره.
وهو من مزّق نفسه ندمًا.
تمتمت بهدوء:
“بما أنها كانت اختيارك… لا تندم هذه المرة.”
لم تعد تعرف إن كانت تتمنى له السعادة أم الشقاء.
لكنها كانت متأكدة من شيء واحد:
لا تيريو الذي أحبّ جويا موجود… ولا جويا التي أحبّت تيريو موجودة.
وكان ذلك، بحد ذاته… موجعًا.
—
بالنسبة للبعض، قد يكون الرجوع بالزمن نعمة، فرصة لاستعادة ما ضاع، مال، حبيب، أو حياة.
لكن بالنسبة لجويا… لم يتغيّر شيء.
كانت الابنة الكبرى لعائلة روبييت، تملك كل ما يحلم به الآخرون: المال، النفوذ، الجمال.
لكنها افتقدت أشياء أكثر أهمية.
كان زواج والديها سياسيًّا بحتًا. لم يحب أحدهما الآخر، ولم يحبّا أبناءهما.
المربية التي ربّتها بحنان توفيت وهي في الخامسة.
والأم التي لم تحبّها قط ماتت عندما بلغت الثالثة عشرة، فتزوّج والدها المرأة التي أحبّها سنوات طويلة.
بدا الجميع سعداء… إلا جويا.
حتى أختها غير الشقيقة، التي لا تحمل دم روبيتت.
لهذا، لم تتمنَّ جويا في حياتها سوى شيء واحد… عائلة سعيدة.
وعندما اعترف لها تيريو بحبه، وظنّت أنها ستبني أسرتها الخاصة، صدّقت أنها وجدت طريقها.
لكن لسوء الحظ…
من التاسعة والعشرين… عادت إلى الثانية والعشرين.
ومع ذلك، لم يتغيّر شيء.
خياراتها كما هي:
أن تتزوج تيريو ألتي وتكرر مأساة حياتها، أو أن تقبل زواج ماركيز بيتيلجيوس … لتختفي مع أسرتها من التاريخ.
وفي كلتا الحالتين… كان الدمار ينتظرها.
لم يكن الهروب خيارًا.
فهي الابنة الكبرى لبيتٍ نبيل، وتحمل مسؤولياته. وقد نالت ما نالته من امتيازات بفضله.
لم يكن بإمكانها التخلي عن كل شيء والهرب.
ولو اختارت زوجًا آخر، بشرط أن يكون من عائلة مقبولة، قد يسمح والدها بذلك.
وربما أحبّها ذلك الرجل بصدق.
لكن ذلك لن ينقذها.
لأن ماركيز بيتيلجيوس لن يترك آخر من تبقى من روبييت حيًّا.
كانت تعلم جيدًا أنها لم تعش إلا لأنها أصبحت سيدة آل ألتي. فحضن دوق ألتي، سيف الإمبراطور، كان آخر ملاذ عاشته حتى اختارت نهايتها.
ذات يوم، بعد سقوط روبييت، قابلت الماركيز في حفلة، فقال لها بابتسامة باردة:
«يا لحظكِ، السيدة ألتي.»
ضحكت في سرّها. أيّ حظ؟.
الحقيقة أنها بلا خيارات.
فلا أحد يُسمي طرق الموت المتعددة “اختيارات”.
ولهذا، اختارت جويا روبييت الطريق الأكثر يقينًا نحو النهاية.
كي لا تندلع فيها شرارة أمل أخرى فتمزّق ما تبقى من قلبها.
كي تنطفئ الفكرة الساذجة بأنها قد تسعد يومًا.
فالأسى أرحم من الأمل.
وهكذا…
قررت جويا روبييت أن تصبح جويا بيتيلجيوس.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 3"