“يا آنسة، السيد ألتي قد وصل.”
“حقًا؟ سأخرج حالًا.”
“هل يمكنكِ إعداد بعض الشاي؟.”
غادرت آني الغرفة استجابةً للرجاء الرقيق.
وما إن دوّى صوت إغلاق الباب حتى أطلقت جويا زفرة طويلة. هي نفسها التي استدعت تيريو، لكنها لم تستطع أن تبقى هادئة كما أرادت.
وبحثًا عن أي نقص في مظهرها، حدّقت في المرآة.
كان شعرها الكستنائي المنسدل فوق صدرها ممشطًا بعناية، وفستانها المخملي الأسود، رغم بساطته، بدا مُعتنىً به. أما زينتها، فقد أتقنتها يد خادمتها حتى بدت طبيعية بلا شوائب.
ظنّت جويا أنها مستعدة للخروج، ومع ذلك لم تستطع أن تنتزع عينيها عن المرآة. لم تكن هذه مشكلة اليوم فقط؛ فمنذ أن نهضت بعد مرضٍ ألزمها الفراش ثلاثة أيام، وجويا تواجه صعوبة في صرف نظرها عن انعكاسها. ربما كان ذلك بسبب بقايا التعلق.
جبين مستدير، حاجبان مستقيمان كثيفان، وملامح يغشاها مسحة حزن طفيفة، كلها بدت أكثر نضارة وشبابًا من ملامح امرأة تقارب الثلاثين.
لم تكن مجرد النضارة هي الغريبة؛ فالهالات التي لطالما جاورت عينيها بسبب الأرق الطويل اختفت، وكذلك شحوبها المزمن وخفوت وجنتيها.
الوجه المنعكس أمامها كان وجه الشابة التي لم تبلغ سوى أوائل العشرينات، جويا روبييت ذات الاثنين والعشرين، صورتها القديمة التي لم تتوقع رؤيتها مجددًا.
—
كان إيدن، كبير خدم آل ألتي المخلص، هو من جلب سيلفربيل.
كانت جويا بحاجة إلى دواء أقوى من ذاك الذي اعتادت تناوله لضبط ضغط دمها، وكان إيدن قد لبّى الطلب.
ظاهريًا، لم يكن في الأمر ما يثير الريبة. بالنسبة للجميع، لم تكن سيلفربيل سوى دواء فعّال… إلا أن جويا وحدها كانت تعلم أنه يمنحها السلام الذي تفتقده.
ابتلعت الدواء ممزوجًا بالنبيذ وأغمضت عينيها. كان الموت أكثر هدوءًا مما تخيلت.
لكنها أدركت أنه لم يكن النهاية عندما اشتعل جسدها نارًا. كان ألمًا يفوق الوصف.
كان أشد قسوة من الحمى التي لازمتها بعد وفاة أمها وهي في الثالثة عشرة، وأفظع من السعار الذي لزمها بعد إبادة أسرة روبييت. اشتعلت كل نقطة تسري فيها الدماء، وكأن جسدها كله يغلي.
تغرق في عرقٍ بارد، ودموع لا تجف.
لم تمت.
وفي كل مرة تستعيد وعيها قليلًا، كانت ترى سقفًا ضبابيًا وظلالًا بشرية حولها، لتدرك أن حياتها البائسة لم تنتهِ بعد.
لماذا؟ ربما عُثِر عليها باكرًا، أو أن فعالية الدواء لم تكن كما ظنت، أو أن الكاهن وصل قبل أن تفيض روحها…
صنعت في الظلام ألف فرضية، ثم توقفت عن التفكير.
ما أهمية السبب؟.
كل ما يهم هو أن محاولتها للانتحار فشلت، وأن جويا ألتي مضطرة للعيش مجددًا في هذه الحياة المرهقة.
وكان ذلك نوعًا اخر من العذاب.
خمسة أعوام مرّت على إبادة آل روبييت. خمسة أعوام أيضًا على انهيار علاقتها بتيريو بلا رجعة.
في البداية اعتقدت أنّ الزمن سيشفي. كما عاد إليها في الماضي بعد أن تخلى عن مشاعره تجاه ميليسي، ظنت أن كراهيته لها ستخفُّ بمرور الوقت.
لكنّ الأمل تحطّم بسهولة.
قدّم تيريو اعتذارًا عن كلماته القاسية، لكنه كان اعتذارًا شكليًا لا روح فيه. ثم صار أكثر جفاءً من زمهرير الشتاء، وصوته جافًا خشنًا. حتى لحظاتهم الحميمة، التي يؤديانها بدافع الواجب، صارت خالية من أي دفء.
تيريو ألتي، الذي عرفته جويا، دُفن مع ميليسي الراحلة.
غير أنها استسلمت حقًا بعد أن هدأ غضبه قليلًا.
بعد عام من وفاة ميليسي، بدأت حدّة تيريو تخبو. صار مهذبًا، لا لطيفًا ولا قاسيًا، يعاملها بما يكفي من الاحترام، كرجل صارم يؤدي واجبه فحسب.
وعندما رأت النور ينطفئ كلّيًا من عينيه الزرقاوين الداكنتين، أيقنت أن لا شيء يمكن إصلاحه.
جويا ألتي لم يعد لديها شيء. فقدت أسرتها، وحبيبها، وبيتها، وحتى أحلامها لم يكن لها وجود.
كانت تعيش أيامًا لا تبالي فيها إن توقف نفسها عن الخروج. والسبب الوحيد الذي منعها من تعليق نفسها بحبل أو القفز من النافذة هو تحمّلها لمسؤولية بقيّة من الواجب.
كانت تعرف أنها ليست المسؤولة عن زواجها بتيريو ولا عن موت ميليسي، لكن التكرار اليومي للاتهامات يقدر أن يزعزع أقوى القناعات.
أهل ألتي كرهوها.
نظراتهم الحادة، الأكثر وخزًا من جفاء تيريو نفسه، كانت تخبرها بأنها ساحرة شؤم تعذّب سيدهم. لم يقولوا شيئًا، لكن النظرات كانت كافية.
وحتى لو لم تكن مسؤولة مباشرة، فربما كان عليها ذنب غير مباشر… وإن لم يكن لها أي ذنب، فهل يحقّ لها أن ترحل بهذه البساطة؟.
تيريو خسر الكثير أيضًا، وإن لم يخسر بقدرها.
تزوج امرأة لا يريدها بسبب نزوة طفولية، والمرأة التي أحبها ماتت على يد زوجها.
استطاعت جويا أن تتخيل شيئًا من مشاعره.
مسؤولة أو لا، فقد شعرت بالمسؤولية. هي إحدى الشخصيات الرئيسية في مأساة تيريو ألتي، ولا يجوز لها الهروب فقط لأنها متعبة.
كان زواجها منه اختيارها هي. وكان عليها تحمّل نَتائج ما أصرت عليه، رغم رفض الجميع.
كل آل روبييت ماتوا، وكان واضحًا أن جويا نجت بفضل ألتي.
كانت تتمتم دائمًا:
«حتى يأتي اليوم… اليوم الذي يجد فيه تيريو ألتي حبًا آخر.»
ولحسن الحظ، لم يتأخر ربيع تيريو الجديد.
عادت الحيوية شيئًا فشيئًا إلى وجهه الذي كان يبدو شمعًا متجمّدًا، وصار يعود إلى القصر متأخرًا.
من حديث الخدم عن عشيقته السرية، أدركت جويا أن اللحظة التي انتظرتها قد جاءت.
وكانت فرحةً تهشّم ما تبقى من قلبها المحطّم.
بدافع الحدّ الأدنى من الاعتبار للغائبين، لم تختَر الشنق أو القفز.
اختارت طريقة أكثر جمالًا، بلا فوضى ولا فضيحة. موتًا يبدو كحادث مؤسف، يسمح للناس بالحزن عليها بينما يستقبل القصر دوقة جديدة بسهولة.
تمامًا كما حدث لوالدها والسيدة كازيل.
«آنسة! هل أنتِ مستيقظة؟!.»
ذلك كان كل ما تمنّته جويا. لكن العالم لم يتحلَّ باللطف.
وحين انفتحت جفونها الثقيلة، ورأت الظلال تتضح تدريجيًا، حملقت في الواقف أمامها.
«آني…؟.»
«يا للمسكينة! انظري كيف تشقق صوتكِ! تفضلي… اشربي بعض الماء أولًا.»
ألم تكن آني قد ماتت؟ يوم أُبيدت أسرة روبييت، قيل إن كل من عمل في الدار قُطعت رؤوسهم.
الخيانة لا تُبقي أحدًا. حتى من لا صلة دم لهم، فقط لأنهم ربما رأوا شيئًا أو ساعدوا بشيء.
دعمتها آني بيدها حتى جلست بارتباك، ومرّ الماء الفاتر في حلقها الجافّ فأثار ألمًا مجهول المصدر.
وبعد سعال قصير، نظرت آني إليها بقلق يكاد يتفجر.
«هل أنتِ بخير يا آنسة؟.»
«…ما الذي يحدث هنا؟.»
هل ما زالت حيّة؟ وإن كانت كذلك، فلماذا آني هنا، في منزل روبييت؟.
تدافعت الأسئلة في رأسها بلا ترتيب، قبل أن يقطعها صوت فتح الباب.
وبرغم ارتباكها، عرفت وقع تلك الخطوات فورًا. رفعت رأسها، لتنعكس في عينيها البنيتين صورة وجه مات منذ زمن.
«لقد استيقظتِ.»
«…أبي.»
«قيل لي إنكِ كنتِ طريحة الفراش ثلاثة أيام. كيف حالكِ الآن؟.»
اهتمام رسمي لا يحمل دفئًا، تمامًا كما اعتادت.
الرجل ذو الملابس الأنيقة، في منتصف العمر، لم يكن سوى والدها، كولوروس روبييت.
كانت قد سمعت بموته. بل رأته بعينيها، رأت وجه الدوق شاحبًا، مفصولًا عن جسده، تحت ذريعة “الرحمة الأخيرة”. كان أكثر تجعّدًا وهزالًا مما يبدو الآن.
لم يكن هذا وحده الغريب؛ المكان كله مألوف.
هذه غرفتها، غرفة جويا روبييت قبل زواجها، تلك التي احترقت لاحقًا.
هل نجحت محاولة انتحارها؟ وإن كانت قد ماتت… فهل جويا ألتي ماتت ورجعت روحها إلى الماضي؟ وهل أصبح بإمكانها رؤية الموتى؟.
قبضت على الملاءة بيدها، وشعرت بقشعريرة حادة، الإحساس كان واقعيًا أكثر من اللازم.
كانت تؤمن أن الموت نهاية… فلماذا—
«جويا؟.»
تعلمت منذ صغرها إخفاء مشاعرها، ولم يكن إخفاء الحيرة أمرًا صعبًا عليها عادةً… إلا هذه المرة.
نادى الدوق ابنتَه حين رأى صمتها الغريب.
رفعت جويا رأسها بملامح هادئة وصوت مبحوح ثابت:
«حلقي يؤلمني قليلًا… أما غير ذلك فأنا بخير.»
«هذا مطمئن.»
«أين والتر؟.»
عاد الفضول لملامح والدها قبل أن يتلاشى.
«لعلكِ ستصابين بخيبة أمل، لكنه نائم. إنه طفل في السابعة، فلا عجب.»
«أعلم ذلك… أردت فقط الاطمئنان أن عدوى الحمى لم تصبه.»
«هو بخير تمامًا، فلا تقلقي.»
«حسنًا يا أبي.»
ابتلعت ريقها. لم تكن قلقة على والتر فعلًا؛ كانت تبحث عن أي جملة تمنح سؤالها القادم غطاءً طبيعيًا.
ثم، بثقل وصلابة، طرحت الاسم الأصعب في الحياة:
«وماذا عن… ميليسي؟ هل هي بخير؟.»
—
على الرغم من ثقل رأسها وكسل حواسها بسبب الحمى، بذلت جويا روبييت جهدها لتفكيك ما يجري بعقلانية.
تجنّبت الحديث الطويل، واستخدمت الحمى ذريعة للراحة، وجمعت ما استطاعت من معلومات عبر حديثها مع آني وجيفري.
وبعد ثلاثة أيام في هذا العالم المبهم بين الحلم والكابوس، توصّلت إلى حقائق ثلاث:
الأولى: التاريخ.
موت جية ألتي كان في سبتمبر من عام 151، بينما التقويم هنا يقول إن الوقت هو أكتوبر من عام 144.
سبعة أعوام بين انغلاق عيني جويا وافتتاحهما من جديد.
الثانية: الأشخاص.
كل من كان ميتًا، عاد حيًّا.
بدءًا من آني، والدها الدوق، السيدة كازيل، والتر الصغير، وحتى ميليسي.
الثالثة… والأكثر وضوحًا:
«هفف…»
لم تكن بحاجة إلى المزيد، ما لديها كافٍ لتعرف أنها ليست في الحاضر، بل في الماضي.
جويا لم تستوعب تمامًا فكرة العودة بالزمن، لكن إن كان ذلك صحيحًا، فهناك سبب واحد محتمل… وإن كان أشبه بالكابوس أو وهم الموت.
فتحت باب غرفة الاستقبال، واستقرت عيناها على الشخص الذي استُدعي.
“مرحبًا يا تيريو… مرّ وقت طويل، أليس كذلك؟.”
ومهما كان هذا المكان، حلمًا، جحيمًا، أو واقعًا، كان على جويا روبييت أن تفعل ما يجب عليها فعله.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 2"