اختفى تيريو ألتي، وانتقل الماركيز إلى المقعد الذي كان تيريو يجلس فيه. ثم، وكأنّ شيئًا لم يحدث، سأل عن الحال.
“فهمت أنك أرسلت من يخبرني بطلب الزواج. هل جئت لأنّ هناك مشكلة؟.”
“لا شيء مهم. ثمّ إنّ لقاء المرء بخطيبته لا يحتاج إلى سبب رسمي، أليس كذلك؟.”
إنّ فكرة أن يأتي الماركيز دون سبب إلى أيّ مكان كانت حكاية لا يصدقها حتى والتر روبييت، شقيق جويا البالغ سبعة أعوام.
ضحك الماركيز بخفة وهو يرى الشكّ الصريح يلمع في عيني جويا.
“ربما فقط للتخلّص من بعض الخردة، لا أكثر.”
خردة… تيريو ألتي، ربما؟.
أن يصف ماركيزٌ وريثَ دوقية ألتي القادم بـ”الخردة” جعل شفتي جويا ترتجفان. الكلمة، رغم فجاحتها، بدت مناسبة صادمة الوضوح.
تكبح ضحكةً كادت تفلت.
“أتقصد أنّ تيريو هو تلك الخردة؟.”
“ألا تظنين أنني أعنيه بالفعل، يا جويا؟.”
جويا. ما إن سمعت اسمها يُنادى مرة أخرى حتى ارتجفت كتفاها. لم تكن قد تخيّلت الأمر؛ لقد ناداها باسمها حقًّا.
“هل… هل ناديتني باسمي؟.”
“وهل في ذلك مشكلة؟.”
“لا… بما أننا مخطوبان، فلا بأس في ذلك.”
“جيد. وفي هذه الحال، يمكنك مناداتي باسمي كذلك.”
“عفوًا؟.”
“سيبدو الأمر وحيدًا إن كان أحدنا يُنادى باسمه والآخر لا. أنا آنيس بيتيلجيوس. قولي فقط، آنيس.”
ارتبكت جويا قليلًا، ثم سرعان ما تمالكت نفسها وهي تستعيد في ذهنها الهدف من زواجه منها.
لم يكن السبب الحقيقي وراء تقدّم آنيس بيتيلجيوس لخطبتها واضحًا.
لكنها تتذكّر جيدًا كيف أعلن زواجه من ميليسي أمام الملأ قبل عودتها بالزمن، وكان من الواضح أنّ أحد دوافعه هو الظهور بمظهر القريب من أسرة روبييت.
سواء كان ذلك لصرف الشبهات عنه، أم لجرّها إلى الفخ، كان السبب التفصيلي مسألة ثانوية.
“آنيس.”
هكذا نادته بهدوء. واهتزّت يد خارج مجال رؤيتها ارتعاشة طفيفة.
“على أي حال، أشكرك على ما فعلته قبل قليل، يا آنيس. كان الموقف صعبًا.”
“قد يصبح أصعب، لكني سأتقبّل شكرك.”
“أصعب… هل تقصد المكان الذي أرسلتَ إليه تيريو؟.”
لم تكن جويا تفكّر في وجهة تيريو ألتي بقدر ما اندهشت من اختفائه المفاجئ. لكن القلق انتابها متأخرًا.
لم يلمسه لكنه نقله، ومنطقيًا لن يكون قد أرسله بعيدًا، لكن هل آنيس من النوع المنطقي أصلًا؟.
تصفه الشائعات الغريبة، التي طالته في ساحة المعركة، بأنّه أشبه بملك شياطين أسطوري، لا لسوء طبعه، بل لقدراته.
فقيل إنّ آنيس يؤدي تعويذات تُلزم حكماء برج السحر ثلاثين دقيقة لتنفيذها، وإنّه لم يخسر مبارزة واحدة قط.
ترّهات. لو كان يمتلك كل تلك القوة، لأطاح بالبلاد كلّها وحده بدل الاكتفاء بمنصب ماركيز.
“من يدري… ربما إلى الجحيم؟.”
“لا بدّ أنّ أحدًا شاهده يدخل بيت روبييت.”
“لا تقلقي. إن لم توجد أدلة، فمن سيعرف؟.”
“آني رأته.”
“لن أقتلها. هناك طريقة لمسح الذكريات.”
لم يكن عدد مستخدمي السحر العقلي كبيرًا، لكنه كان حقًّا وحشًا، وإن لم يكن بقدر ما تصفه الشائعات.
سألت جويا مجددًا:
“كفانا مزاحًا. إلى أين أرسلته حقًا؟.”
“ليس إلى الجحيم تمامًا. لنقل، إلى تلّ مرتفع قليلًا، جميل الشكل، تنوّعت فيه الكائنات الحيّة، ومكان قابل للعيش نسبيًا.”
سلسلة جبال أفالانش، المشهورة بقسوتها، كان يُعرِّفها بـ’تل مرتفع وجميل ومتنوّع الكائنات وقابل للعيش’.
لم تدرك جويا أنّه يقصد سلسلة الجبال عند أطراف سولاريس، فاكتفت بهزّ رأسها.
“إلى دوقية ألتي، أليس كذلك؟ فالمكان الوحيد الذي فيه جبال قريبة من العاصمة هو أراضي ألتي.”
“نعم، هذا صحيح. بالمناسبة، لماذا جاء هذه المرة؟.”
“إن لم ترغبي بالحديث، لستِ مضطرة لذلك.”
قالها بصوت خافت يشبه الهمس، لكن جويا هزّت رأسها.
هي لا تريد الإخفاء أصلًا، لكن المشكلة أنّه لا يوجد الكثير ليقال.
لم تفهم جويا لماذا يتدخل تيريو ألتي في شؤونها إلى هذا الحد.
“ربما تيريو…”
“ليس تيريو، بل ألتي.”
“عذرًا؟.”
“إن كنت تفضلين استخدام لقب، فقولي السيّد ألتي أو الدوق الشاب ألتي. رغم أنّي لا أحب ذلك. لكن أليس من الأفضل إبقاء مسافة بينكما؟.”
لا شيء يخلق مسافة كهذه الألقاب. ومع كلماته الإضافية، فهمت جويا ما يرمي إليه آنيس.
“وإن رغبتِ في الحديث بلهجة تعبّر عن مشاعرك، فلا بأس أيضًا. مثلًا: خرد–”
“السيد ألتي، فهمت.”
“ذكية.”
تابعت جويا حديثها متجاهلة تعقيبه الأدنى صوتًا.
“يبدو أنه يشعر بالمسؤولية عن فسخ الخطوبة. ربما يعارض الزواج السياسي لأنه يظن أن عليّ أن أكون سعيدة ليخفف شعوره بالذنب.”
“سمعتُ أن المسؤولية في فسخ الخطوبة تقع عليه. وللتوضيح، هذا ليس من ثرثرتي، لكن مساعدي يلتقط الإشاعات الرديئة بسهولة، فلم أستطع إلا سماعها. للأسف.”
رغم أنّ ملامحه بدت هادئة مطمئنة، إلّا أنّ كلماته جاءت بنبرة اعتذار غريبة. ولم يكن هناك ما يستدعي الاعتذار لمجرد سماع إشاعة.
“هذا صحيح. تير— أقصد، السيد ألتي، أحبّ شقيقتي الصغرى، وكان شعورها مماثلًا، ففسخنا الخطوبة في النهاية.”
“هذا خيانة. يفسخ خطوبته بسبب علاقة غرامية ثم يشعر بالمسؤولية؟.”
“هذا ما يبدو عليه الأمر. في الحقيقة، لا أفهم طريقة تفكيره، لكنه ليس أمرًا عليّ فهمه.”
“فأنا لن أراه ثانية على أي حال.”
وما إن رأى آنيس ملامحها الهادئة حتى أومأ ببطء. الغضب الذي كان يجتاح وجهها قبل تدخله قد اختفى.
هل كانت بارعة في ضبط مشاعرها، أم بارعة في إخفائها؟ لا يمكن أن تكون غير متأثرة إطلاقًا.
شعر آنيس ببعض الانزعاج، فتنفّس ببطء.
“أرى أنكِ لم تشربي شايكِ. هل أتناوله؟.”
“شايٌ بارد؟ لحظة، سأحضّر شايًا جديدًا–”
“لا حاجة. لست أستمتع كثيرًا بالشاي الساخن.”
وبما أنه لا يمانع، لم يكن لدى جويا ما يجبرها على الاعتراض. فهما مخطوبان منذ يومين فقط.
وبينما لم تكن تهتم عادة بالآخرين، شعرت أنها أدّت ما يكفي من واجبها كخطيبة. فزواجهما ذو هدف رسمي واضح.
وكالعادة، أخفى آنيس مشاعره الضئيلة خلف قناعه النبيل.
وما إن رفع فنجان الشاي برشاقة حتى انكسر المقبض. وتناثر الشاي في كل اتجاه.
‘ما الذي يحدث؟.’
حدّق آنسي بيده المبتلة بدهشة صامتة.
“…”
“آه… الآن تذكرت. تيريو كان يمسك المقبض بقوة قبل قليل.”
“فهمت.”
“يبدو أنه كان مكسورًا أصلًا.”
“خزف ألبرخت ليس رخيصًا. يجدر بكِ تقديم شكوى.”
“شكرًا على النصيحة.”
—
غادر آنيس بيتيلجيوس. ومع مرور الوقت، تساءلت جويا عن سبب قدومه أساسًا، لكنها خمّنت أنه جاء ليمنع إلغاء الزواج بسبب تيريو ألتي.
ولمّا غادر الاثنان، استطاعت أخيرًا أن تسترخي على الأريكة. وما إن أغمضت عينيها قليلًا حتى اقتربت منها آني.
“آنسة، حان وقت الغداء. ماذا تحبين أن تتناولي؟.”
“شيئًا خفيفًا، فقط.”
“سأخبر الطاهي.”
لكن صوتًا مفاجئًا قطع كلامها عند دخول أحدهم إلى غرفة الاستقبال.
كانت ميليسي روبييت، بشعرها الأشقر المتألّق وعينيها الزرقاوين المستديرتين.
وقد بدا عليها الارتباك عندما رأت جويا بدلًا من تيريو.
“مرحبًا يا جويا… أختي.”
قالتها بنبرة خافتة.
“أين تيريو؟ سمعت أنه كان هنا.”
“طرأ أمرٌ عاجل فعاد إلى ألتي.”
عاجل لدرجة أنّ الماركيز أرسله دون أن يسمح له حتى بالوداع. لكن جويا لم ترغب في إزعاج ميليسي بالمعلومات.
“فهمت… يبدو أنني جئت متأخرة.”
“كان توقيتكِ سيئًا فقط. بالمناسبة، أين السيدة كازيل؟ ألم تخرجا معًا؟.”
ارتجفت ميليسي قليلًا، واهتزّ شعرها الذهبي معها.
“آه… والدتي ذهبت إلى العاصمة لبعض الوقت. تتناول الغداء مع أبي هناك.”
“هل تناولتِ طعامك؟.”
“ليس بعد. لكن معدتي تؤلمني قليلًا، لذا لن آكل.”
حرّكت ميليسي عينيها بخفة، متفحّصةً ردّ فعل جويا.
كانت جويا تعرف أنّ ميليسي، رغم مرحها أمام بقية العائلة، تصبح خجولة وقلقة أمامها تحديدًا. واليوم كانت أكثر حذرًا في مراقبة جويا من المعتاد.
ربما لأنها مخطوبة الآن للرجل الذي كانت جويا مخطوبة له سابقًا، وكان الأمر واضحًا.
“الاعتناء بالقوام جيد، لكن لا تبالغي. حفلة الخطوبة ستطول أكثر مما تظنين.”
“ح- حسنًا… أختي.”
ثم قالت بصوت يكاد لا يُسمع:
“سأذهب إلى غرفتي الآن.”
وغادرت غرفة الاستقبال بسرعة.
حدّقت جويا في الباب الذي اختفت خلفه ميليسي، وتمتمت:
“هذا طبيعي.”
كيف كان يمكن لتيريو ألتي أن يتفوّه بكل تلك الكلمات بسهولة؟ كلمات عن رغبتها في السعادة، وعن ندمه على فسخ الخطوبة، كيف قالها بلا تردد؟.
دون وعي، تقلصت ملامح جويا في عبوس صغير.
ولاحظت آني التعب في وجه سيدتها، فسألت بحذر:
“آنسة، هل أنتِ بخير؟ هل تشعرين بوعكة؟.”
“لا، فقط… أشعر بالإرهاق قليلًا.”
التفكير في تيريو ألتي كان مرهقًا دائمًا.
“بالمناسبة يا آني… هلّا أرسلتِ قريبًا فاتورة إلى اسرة ألتي؟. فنجان الشاي في غرفة الاستقبال، السيد ألتي كسره. حتى لو كان مخطوبًا لميليسي، ينبغي أن يدفعوا التعويض.”
“سأفعل، آنستي.”
—
كانت الأشجار شاهقة تحجب السماء. وانسلت أشعة شاحبة من بين الأوراق الكثيفة.
لاح بردٍ خفيف على الجلد المكشوف كالرقبة والأصابع، وارتفع أزيز حشرات عجوزة من بين الأعشاب.
“أين أنا؟.”
رمش تيريو ألتي في ذهول.
من لحظة فقط، كان جالسًا في غرفة الاستقبال يتشاجر مع الماركيز. أغمض عينيه لثانية، فوجد نفسه في غابة.
غابة؟ لا، يبدو أنّه جبل.
ارتبك تيريو وتراجع إلى الخلف، فعثر على جذور شجرة كادت توقعه، لكنه توازن مستندًا إلى ما ظنه شجرة قريبة.
“ما هذا؟!.”
لم تكن شجرة.
كانت زهرة عملاقة متخفّية كجذع شجرة، فهاجمت تيريو فجأة.
ولولا أنه فارس ماهر للغاية، لكان طُعمًا لتلك النبتة.
قطعها بضربة واحدة، وارتسمت على وجهه قسوة الاشمئزاز من الرائحة الكريهة التي انبعثت من جسدها المشقوق.
أين بحق السماء…؟ آه، صحيح.
تذكّر فجأة ما يحمله دائمًا. وبلهفة، فتّش جيوبه.
كان حجر تحديد موقع وريث الدوقية ما يزال معه، لحسن الحظ.
فتح القطعة التي تشبه خريطة، وتفقّد موقعه.
سلسلة جبال أفالانش.
شحب وجه تيريو.
فمنذ أربع سنوات، حظر مرسومٌ إمبراطوري دخول هذا المكان الوحشي المليء بالوحوش، وها هو يجد نفسه فيه ضيفًا غير مرغوب.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"