1
“هل ستتأخر قليلًا اليوم؟.”
“ولِمَ تسألين؟.”
‘فقط…’
يقولون إنك لا تستطيع أن تبصق في وجهٍ باسِم، لكن حين ترى وجهًا متجهمًا، يبدو أن تلك المقولة لا تصدق دائمًا.
أدخل تيريو ذراعه في المعطف الذي كان قد توقّف عن ارتدائه، ولكن تلك اللامبالاة التي كانت تميّزه تحوّلت إلى انزعاجٍ واضح، وكأن المعطف نفسه يفضح مزاج صاحبه المتكدّر.
“قلتُ لكِ يا جويا…”
نظر إليّ بعد أن فرغ من استعداداته، بوجهٍ خالٍ من التعابير، وأضاف:
“لا تتوقّعي شيئًا منّي.”
‘بالتأكيد…’
ابتسمتُ وقلتُ: “اعتنِ بنفسك”، لكنه لم يرد. خرج من القصر، ولحق به الخدم بنظراتٍ مقتضبة قبل أن يعودوا إلى الداخل، تاركِين إياي وحدي.
حدّقتُ طويلاً في المكان الذي اختفى فيه، ثم رفعت رأسي ببطء. قالوا إن عاصفةً ستضرب اليوم، لكن السماء كانت صافية على نحوٍ منعش.
يا له من يومٍ غريب.
—
مرّ وقتٌ طويل منذ تعرّفتُ على تيريو ألتي، زوجي.
في سماء سولاريس، وتحت عرش الإمبراطور، وُجدت أسرتان دوقيتان: آل ألتي وآل روبييت.
كان تيريو ابن ألتي، وكنتُ أنا ابنة روبييت.
كانت العائلتان على علاقة طيبة، وأعمارنا متقاربة، فكان من الطبيعي أن أتقرّب من تيريو. ومن هنا بدأ كل شيء.
عرفنا بعضنا منذ الطفولة، وكنا أعزّ صديقين. كنا قريبين إلى حدّ أننا كنا نقول بثقة إننا نعرف كل شيء عن بعضنا، الأذواق، الطباع، وحتى الأحلام المستقبلية.
كان بيننا، قبل كل شيء، صداقةٌ عميقة، وكنّا نظنّها أبدية.
إلى أن اعترف تيريو لي بمشاعره.
في البداية، شعرتُ بالارتباك، ثم أنكرت، غضبت، وفي النهاية… أحببته.
تقلّبت مشاعري خلال عامٍ واحدٍ بين النقيضين، وكان وعدُ الطفولة بالأبدية هشًّا وساذجًا. لكن ما كان أكثر سذاجةً من ذلك هو قلبي نفسه.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا كي تذوب الصداقة التي لم أشكّ فيها قط، وتتحوّل إلى حبٍّ لا يُقاوَم.
«أحبك، يا تيريو».
حين استسلمتُ لتلك الحقيقة، رغم خوفي من خسارة المستقبل الذي رسمته لنفسي، بكى هو… وابتسمتُ أنا.
قلتُ له: «لا بأس، لم يتغيّر شيء.»، فقد خسرنا الصداقة الأبدية، لكننا ربحنا الحبّ الأبدي.
وهكذا، آمنتُ أنا، جويا روبييت، بالأبدية مرةً أخرى… بحماقة.
بعد ذلك، بدا كل شيء يسير بسلاسة. نما حبّنا مع الزمن، واستبدلنا رعشة البداية بسكونٍ مريح.
بلغنا سنّ الرشد، وتحوّل وعدنا القديم إلى خطوبةٍ رسمية.
كان ذلك بعد ثلاث سنواتٍ بالضبط من تغيّر علاقتنا، وفي اليوم نفسه الذي تحدّث فيه تيريو لأول مرة إلى ميليسي.
ميليسي روبييت… أختي غير الشقيقة التي تحمل اسم العائلة دون أن يجري في عروقها دمها.
كانت ابنة السيدة كازيل، التي أصبحت دوقةً بعد وفاة والدتي.
دخلت ميليسي إلى العائلة حين كنتُ في الثالثة عشرة من عمري، وكانت هي في العاشرة تقريبًا، لكن تيريو لم يُبدِ اهتمامًا بها آنذاك، فكان ذلك اليوم أول حديثٍ بينهما.
لم أكن أحب أختي الضعيفة الرقيقة كثيرًا، لكنني لم أكرهها أيضًا، لذا تركت لهما مجالاً للحديث.
لم أكن أعلم أن تلك اللحظة الصغيرة ستقلب قلب تيريو رأسًا على عقب.
لم أكن أعلم.
أو ربما لم أُرِد أن أعلم.
وربما تجنّبت الحقيقة دون وعي. لا أعرف أيّ تلك الأسباب كانت الأصدق… لكنني حقًا لم أكن أعلم.
تابعنا تحضيراتنا لحفل الخطوبة الرسمي، وحدّدنا يوم الزواج. ومع اقتراب الموعد، بات وجه تيريو أكثر اضطرابًا.
قال إنه متوتر، فأومأتُ، لكن قلبي لم يقتنع.
ومع ذلك، العروس قبل زفافها لا تملك رفاهية الغوص في الشكوك.
تقدّم اليوم الموعود بخطواتٍ بطيئة وثابتة.
وخلال تلك الفترة، جاءني عرض زواج.
كان الخاطب المركيز بيتيلجيوس، رجلًا صعد من عامة الشعب إلى مرتبة النبلاء بفضل بطولاته في الحرب.
كان من الوقاحة أن يتقدّم أحدهم لخطبة فتاة على وشك الزواج، لذلك توقّعت أن يرفض أبي العرض فورًا… لكن المفاجأة أنه عرضه عليّ.
قال إن لذلك سببين، أولهما سياسيًّا.
أما السبب الثاني فكان يخصّ ميليسي وتيريو.
لم أكمل سماع حديثه حتى هرعتُ من القصر متجهةً إلى تيريو.
كنت أريد أن أسأله إن كان ما يُقال صحيحًا…
هل تبدّل قلبه مرّة أخرى؟.
هل أحبّ أختي في ليلة زفافنا المنتظرة؟.
كنت أريد أن أسمع نفيه بنفسي.
لكن حين نظرتُ في عينيه، أدركت كل شيء.
أن تيريو ألتي لم يعد يحبّني.
أن قلبه أصبح ملكًا لغيري.
وأنني، رغم كل ذلك… لم أستطع التخلّي عنه.
حين سألني ما الأمر، اكتفيتُ بابتسامةٍ صامتة.
وعندما عدتُ إلى غرفتي، نظرتُ إلى وجهي في المرآة. كان مهيبًا، أنيقًا، بلا أثرٍ للعاصفة التي تمزّق داخلي.
ضحكتُ بمرارة.
‘حقًا، أنا نبيلة حتى في انكساري.’
وفي تلك الليلة، ولأول مرة منذ عشر سنوات، انسكب الماء من يدي على الوسادة.
قالت آني:
«نادراً ما تخطئ السيدة هكذا.»
فأجبتها مبتسمة: «حقاً.»
هو، تيريو ألتي، من جعلني على هذه الحال… إذن عليه أن يتحمّل العاقبة.
رفضتُ عرض الزواج، وواصلتُ الاستعداد لحفلي.
انتقل العرض المرفوض إلى ميليسي… فأصبحت خطيبة المركيز.
كنت الوحيدة التي ابتسمت. أما وجوه الجميع فازدادت كآبة، لكن ذلك لم يعنِ لي شيئًا.
وفي ليلة الزفاف، جاءني تيريو مخمورًا وقال:
«أريد أن أقول شيئًا…»
—
“إن احتجتِ شيئًا، سيدتي، فقط اقرعي الجرس.”
“نعم، شكرًا لكِ.”
أشرتُ لهنّ بالانصراف، فغادرن جميعًا الحمّام.
كانت تلك المرة الأولى التي أقول فيها إنني سأستحمّ وحدي، ولم تسألني إحداهنّ عن السبب، وهذا بحد ذاته كان مريحًا.
ضحكتُ بهدوءٍ على مدى اعتيادي لهذا البرود.
تمدّدت في حوض الاستحمام، أبتسم لنفسي بصمت. لم أحب يومًا العطور النفّاذة أو المظاهر المترفة، لذا كنتُ أكتفي عادةً ببضع بتلات صغيرة في الماء، لكن اليوم كان مختلفًا.
كان الحوض يغصّ بالورود الحمراء حتى كادت تخفي جسدي، وعبق الملح المعطّر يغمر المكان.
الضوء بجانب الحوض ألقى وهجًا بنفسجيًا ناعمًا، والموسيقى الكلاسيكية انسابت من الغرفة المجاورة.
كان هذا الحمّام المختلف أول طلبٍ أقدّمه للخادمات.
ظننتُ أنه سيساعدني على تحسين مزاجي، لكنه لم يناسبني… لم أستطع أن أحبه.
كانت الألوان والروائح والإضاءة قوية إلى حدّ الاختناق.
أغمضتُ عيني وسط أكوام الورد الأحمر.
—
بدأ الزفاف.
ارتديتُ فستانًا ناصع البياض، وارتدى هو بذلة سوداء.
لم يبتسم تيريو مرةً واحدة أثناء المراسم، لكن ذلك كان كافيًا بالنسبة لي.
من جويا روبييت إلى جويا ألتي، صرتُ زوجته، وصار زوجي. وكان ذلك كل ما أريده.
لكن حتى بعد الزواج، بقي تيريو غائب القلب.
كان هناك شخص آخر يحبه، وها هو متزوجٌ ممن لا يريد.
صار أبرد من ذي قبل، يتعامل معي رسميًا، ويبدو عليه الحزن والاضطراب.
غير أنه بعد زواج ميليسي من المركيز بيتيلجيوس، بدا وكأنه استسلم لقدره، وتغيّر سلوكه.
عاد زوجي إلى ما كان عليه سابقًا: كلمات لطيفة، ابتسامة هادئة، تصرفات رقيقة. أحيانًا كان يسرح بعينيه إلى مكانٍ بعيد، لكن حين أناديه، يلتفت إليّ مجددًا.
ظننتُ أن كل شيء عاد إلى نصابه.
ظننتُ أنني لن أبكي بعد اليوم، ولن أتظاهر بعدم رؤية جراحه، ولن أنطق بكلمةٍ باردة غيرةً من ميليسي.
لكن…
أُبيدت عائلة روبييت.
في البداية ظننتُ أنني سمعتُ خطأ.
أبي الذي لم يحبّني لكنه احترمني، السيدة كازيل التي كانت تشفق عليّ، وأخي غير الشقيق الذي لم يبلغ الحُلم بعد… جميعهم ماتوا.
اتهموا أبي بالخيانة… وأُعدم الجميع.
لم أستوعب ما حدث. صحيح أن حاكمًا جديدًا اعتلى العرش، ولم يكن والدي من أنصاره، لكنه لم يقف ضدّه أيضًا. لم يكن في حاجة إلى المغامرة، فأسرتنا كانت تملك ما يكفي. ومع ذلك، أصدر الإمبراطور أمر الإبادة دون تردّد.
الناجون الوحيدون كانوا أنا وميليسي واثنين آخرين من الأقارب الذين انتقلوا إلى عائلاتٍ أخرى.
لكن قبل أن أستشعر أي امتنان، وُجدت ميليسي ميتة في قصر بينيلجيوس.
قالوا إنها ماتت صدفة، لكن أحدًا لم يصدّقهم.
كان بيتيلجيوس نفسه من قاد عملية إبادة عائلتي.
في يومٍ واحد، فقدتُ كل شيء: عائلتي، ثروتي، أقاربي، بل وحتى من لم تربطني بهم صلة دم.
ظننتُ أن هذا يكفي… لكن كان هناك ما هو أقسى.
قال لي تيريو، مخمورًا كما في تلك الليلة:
«أنتِ السبب في موت ميليسي… لو لم ترفضي عرض الزواج من الماركيز… لو تركتِني وشأني… لكانت حية الآن.»
كلماته، التي انطلقت دون وعي، اخترقتني كطعنةٍ باردة.
وحين أدرك ما قاله، اعتذر مرتبكًا.
راقبتُ خطواته المتعثّرة نحو غرفته، بينما السؤال الذي أحرق حلقي ظلّ بلا صوت.
‘وماذا عني أنا؟.’
‘لو أنني تركتك، وتزوّجتُ بيثلجيوس… ماذا عني أنا؟ أتريدني أن أموت يا تيريو؟.’
ندمتُ طوال حياتي على أنني لم أجرؤ على سؤاله ذلك بصوتٍ عالٍ.
—
لم أمكث في الماء طويلاً، ومع ذلك التصق بي عبير الورد حتى كدت لا أتعرف على نفسي.
ارتجفتُ وأنا أرتدي رداء الحمّام فوق جسدي المبلّل، ثم خرجتُ إلى الغرفة، والموسيقى الكلاسيكية تعلو تدريجيًا.
خطوتُ حافيةً على السجادة حتى وصلتُ إلى الطاولة الزجاجية في منتصف الغرفة، تاركة خلفي آثار ماءٍ غامقة اللون.
على الطاولة زجاجة نبيذ وكأسٌ كما طلبتُ. سكبتُ النبيذ، وانساب السائل القرمزي، الذي كان أغمق من الدم، داخل الكأس.
“مرّ وقتٌ طويل…” همست.
كان نبيذ ‘فالوت الجبلي ٨٢’، نفس الزجاجة التي فتحتها ليلة الزفاف بعد أن غادر تيريو.
شعرتُ بوخزٍ خفيف من الذنب لأنني ألجأ دائمًا إلى النبيذ حين أحتقر نفسي، لكنني كنتُ دائمًا أنانية.
نظرتُ إلى الكأس نصف الممتلئة، ثم فتحتُ العلبة الصغيرة بجانبها.
في داخلها حبوبٌ فضية اللون، دواء القلب، سيلفربيل، الذي طلبتُه من كبير الخدم بنفسي.
سحقتُ حبةً منها فوق النبيذ، فتساقط المسحوق الأبيض كثلجٍ على السائل الأحمر، ثم ذاب ببطء.
دوّى الرعد، فرفعتُ نظري إلى النافذة. كانت السماء التي صَفت صباحًا قد اسودّت تمامًا، والمطر يهطل بغزارة.
“كنتُ أتمنى أن أرى النجوم الليلة.”
تمتمتُ، ثم رشفتُ من الكأس الممتزجة بالدواء.
لم يكن تيريو ينوي أن يعود قريبًا. قال إنها رحلة عمل، سواء كانت بأمر الإمبراطور أو بطلبٍ من عشيقةٍ سرّية، لم يعد يهمّني. كان الشكّ حريتي الضئيلة الوحيدة.
اتكأتُ على الكرسي الوثير، وأخذتُ رشفةً أخرى.
جسدٌ مبلّل تفوح منه رائحة الورد، رداءٌ يحتضنني، نبيذٌ بلون بتلاتٍ دامية، وكرسيٌّ ناعم يحتويني، في يومٍ تعصف فيه الريح وتبرق السماء.
يا له من يومٍ مثالي للموت.
بدأ بصري يتشوّش. رفعتُ الكأس وأفرغتُ ما تبقّى منها دفعةً واحدة، وكأنني في سباقٍ مع الوقت.
نعم، هكذا يليق بي… أن أموت وحيدة، على أنغام الموسيقى الكلاسيكية التي تختلط بصوت المطر، وبين يدي كأس نبيذٍ مرّ، تفوح منه رائحة الورود…
كم هو ملائمٌ موتي البائس لهذا اليوم المضطرب.
لقد اخترتُ اليوم المناسب تمامًا.
ثم… سقطت الكأس من يدي، وارتطم زجاجها بالأرض.
كان الصوت بعيدًا… بعيدًا جدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 1"