116

حلَّ الليل.

بدّلتُ الثياب التي اختارها لي المساعد، وارتديت من جديد زِيَّ “مارون” الذي يحمل بصمات فاطمة، ثم بسطتُ جناحيَّ السوداوين وارتفعتُ في السماء.

رغم تأخر الوقت، لم تكن “مينيستري” نائمة.
المصابيح تضيء الشوارع واحداً تلو الآخر، وحول القلعة كانت الحراسة كأنها في وضح النهار.

ومن علوّ السماء بدت المشاعل المتلألئة كأنها نهرٌ من نجومٍ حمراءٍ تتدفق على الأرض.

حلّقتُ ببطءٍ في الليل الربيعيّ البديع، وحدي.
يا للترف، أن أطير وحدي في ليلةٍ كهذه.

منذ أن تعلمتُ كيف أتحكم بالطاقة المظلمة كما أشاء، ثم تجسّدت لي أجنحة حقيقية، صرتُ أُسلّم تدريجياً بأنني لم أعد بشراً تماماً.

وحتى لو لم أكن بشرية، فما المشكلة؟
ولو كنتُ كما يقولون، شيطانةً خالصة، فلن يغيّر ذلك شيئاً.
وجودي بحدّ ذاته خطأ في معادلة هذا العالم.

حين سكنتُ هذا الجسد أول مرة، راودني شعورٌ بالذنب تجاه هايلي الحقيقية.
كنت أظن أن عليّ يوماً ما أن أُعيد لها جسدها متى ظهرت فجأة من جديد.

لكن منذ أن رأيتها غارقةً في البحيرة السوداء، تراقبني وتدعمني بصمت، تغيّر كلّ شيء.
نشأ بداخلي حبّ لهذا الجسد الذي لم يكن لي، وارتبطتُ بالاسم الذي لم أملكه من قبل.

ربما لأنني “تجسيد”، مجرّد صورةٍ لروحها؟
إذن، هل يعني هذا أن هايلي هي منقذتي؟
هل لو طلبت منها ستزيد من قوتي، من “الطاقة المظلمة” التي أملكها؟

لفحَ وجهي هواءُ الليل البارد، وعبث بخصلات شعري، بينما الأجنحة التي أتحكم بها برغبتي تتحرك برشاقةٍ وجمال.
ومن فوق الغيوم، بدا لي البشر في مدينتهم كأنهم لوحة مضيئة من حياةٍ صغيرة.

“أتمنى أن تكوني أنتِ من يُحَبُّ بدلاً مني.”

لكن يا هايلي… لماذا اخترتِ النزول إلى القاع، لا الصعود إلى الأعلى؟

تمسكتِ حتى النهاية بتلك المشاعر السخيفة.
لو كنتُ مكانك، لكنتُ قتلتُ الجميع وانتهيتُ معهم،
أما أنتِ، فحتى بعد أن تآكلت روحك وبليت،… جعلتِني أعيش نيابةً عنك.

وقلتِ لي: كوني محبوبةً من أجلنا كلينا.

هايلي، لماذا أنا بالذات؟
هل رأيتِ نفسكِ فيّ؟ أم لأننا نقيضان تماماً؟

ميكيلان قال ذات يوم بثقةٍ عمياء إنكما تملكان روحين متشابهتين لدرجة أنكِ لن تستطيعي أذيته،
بل ستؤذين نفسك قبله لو اضطررتِ.

وكان محقاً.
لم أستطع أن أنكر ذلك.
فهي غرقت في البحيرة، حاملةً الذنب الذي ألصقه بها، دون أن تدافع عن نفسها.

هايلي كانت تعتقد أن الحب والاعتراف من الآخرين هو ما يمنح الإنسان وجوده.
ظنت أن كل البشر كذلك، وأن هذا طبيعي.

“لا، هايلي…”

كنتُ أختلف عنها.

“وحدتكِ القاتلة لم تكن بسببهم… بل بسببكِ.”

أنتِ من لم تعترفي بنفسك يوماً.

كنتِ عبقريةً بحق، لكنكِ لم تعرفي كيف تملئين فراغك الداخلي.
أحببتِ، واشتقتِ لأن تُحبي، لكنكِ بقيتِ جائعةً دائماً… ولهذا استغلّك ذلك الحقير.

ميكيلان.

توقفتُ أمام نافذة مكتبه.
من الداخل تسللت أنوارٌ خافتة، وكان صوته يصل بوضوح.

لم يكن أحد في القلعة ينام بهدوء، وهذا مفهوم،
فالملك محبوس في قفصٍ من الطاقة المظلمة،
وفي مملكةٍ كـ “هولت”، حيث يُعد الملك محور السلطة، فإن غيابه أشبه بكارثة وطنية.

هبطتُ بلا صوت على الشرفة،
وبدأت أستمع إلى حوارٍ حاد يدور في الداخل.

“يحفرون نفقاً؟ إلى أين؟ وإلى أي عمق؟ وكم سيستغرق هذا العبث؟”

“جلالتك، مع احترامي، لا يليق أن يرى الناس ملكهم وهو يخرج من باطن الأرض كفأرٍ! كيف يمكننا—”

“اخرس! أتظن أن المظاهر أهم الآن؟ الكرادلة يتصارعون في مجلس الكنيسة، والفرسان المقدسون الذين تلوثوا بالطاقة المظلمة ينتشرون في كل مكان. وإن علم الناس أن هايلي هي من حبستني داخل القلعة لتسخر مني…”

“جلالتك، وصلنا خبرٌ عاجل. سيريل فانديسيون من غرانديس تمرّد على عائلته وأعلن الحرب على الكنيسة نفسها! بل إن البابا أقرّ بأن للكنيسة جزءاً من الذنب.”

“سيريل فانديسيون؟!”

“ويقال إن ملك نيفي نفسه تحدّث علناً عن إعادة تأسيس بيت دوقية وينتر.”

قهقه ميكيلان وضرب الطاولة بقوة.

“إذا انسحبت قوات الكنيسة من غرانديس، فكيف سنهاجمها إذن؟ نيفي تزداد صلابة كلما صعدت شمالاً، يجب تفكيك غرانديس أولاً قبل أي شيء!”

“ألا يجدر بك لقاء البابا شخصياً في هذه الظروف؟”

“ذلك الرجل لا يظهر في أي مجلس يخسر فيه شيئاً. إن انسحابه من غرانديس لا بد أن يخفي وراءه صفقة أخرى.”

أوه… يبدو أن الوضع متأزم فعلاً.

ترى، هل من المناسب أن أدخل الآن؟

لأنهم كانوا يناقشون الأمور بجديةٍ مفرطة، بدأتُ أشعر أنني أبدو كمجنونةٍ جاءت فقط لتُزعج ميكيلان بلا سبب.

هل أنتظر حتى يخرجوا جميعًا ثم أظهر؟ كم سيستمر هذا الاجتماع الفارغ من أي فائدة؟ اللعنة، سواء في الواقع أو في القصص، هذه المنظمات لا تعرف إلا الاجتماعات التي لا تنتهي.

“جلالتك، أعمال الحفر في النفق تتقدم بسرعةٍ كبيرة، العمال يعملون بالتناوب حتى أثناء الليل.”

“قل لهم إنّ بإمكانهم أخذ ما يشاؤون من العملات الذهبية، المهم أن يسرعوا.”

“لكن جلالتك، على الأقل يجب أن نؤمّن الحد الأدنى من السلامة قبل التحرك…”

“الزحف كالكلاب أفضل من البقاء عالقين هنا.”

يا إلهي، بدأت أملّ.

في ليلةٍ ربيعيةٍ بهذا الجمال، كان يجدر بي أن أستمتع بالأجواء مع ماري الجميلة والمستشار الثرثار ونحن نتناول شيئًا لذيذًا، لا أن أضيع وقتي هنا وسط هذا الجفاف والملل.

لحسن الحظ، جاء بعض الخدم يحملون الطعام للفرسان الذين اجتمعوا مع ميكيلان طوال الليل، فتوقّف الاجتماع مؤقتًا. وبينما انشغل الفرسان في الغرفة المجاورة بتناول وجبتهم، جلس ميكيلان في مكتبه يحتسي الماء البارد بنهمٍ واضح.

اقترب دوريان من ميكيلان وهو يحمل حساءً دافئًا وقال بلطف:

“جلالتك، عليك أن تأكل ولو قليلًا. إن تدهورت صحتك، فستكون تلك مصيبةً أكبر.”

“وأنت، كيف حالك مؤخرًا؟”

“أنا بخير، جلالتك.”

“اللعنة على هؤلاء الكهنة، يتشدقون بإرادة الرب وهم عاجزون حتى عن إنقاذ إنسانٍ واحدٍ لوّثته الماجي!”

“أرجوك لا تقل ذلك يا جلالتك، إن انتقدت الكنيسة بسببي فسيُعدّ ذلك إساءةً إليك.”

“دوريان…”

اختفى الغضب من وجه ميكيلان تدريجيًا، وزفر بعمقٍ وهو يحدّق في صحن الحساء بين يديه.

“لن أموت إن فوتّ وجبة واحدة.”

“لكن جلالتك لست مجرد إنسانٍ عادي، يجب أن تكون حياتك اليومية كاملة بلا خلل.”

“والدي عاش حياته يفعل ما يشاء بلا قيد، أما أنا، حتى بعد أن ورثت مكانه، لا أستطيع أن أتحرك بحريةٍ ولو في أبسط الأمور.”

“أعتذر، جلالتك.”

“لم أكن أوبخك.”

كان صوته قد رقّ أكثر من ذي قبل حينها.

ثم التفت دوريان نحوي.

كان ذلك بمثابة إشارة. لم نتفق على شيءٍ من قبل، لكنّ نظرة واحدة منه كانت كافية لأفهم.
«إن كنتِ ستدخلين، فالآن هو الوقت المناسب».

يا له من ذكيّ. يبدو أن حياته كلها قائمة على قراءة الأجواء والتصرف بناءً على ملاحظاته. لكن كيف عرف أصلًا أنني هنا؟

لم أُضِع الفرصة، وتحركت فورًا.

فتحت نافذة الشرفة بخفةٍ ودخلت المكتب بخطوةٍ واثقة. وما إن رآني ميكيلان حتى اتّسعت عيناه دهشةً، وجمد في مكانه، كأنّ عقله رفض تصديق ما يراه.

كان مذهولًا، مضطربًا، ووجهه مليءٌ بالانفعال.

“يا إلهي، بدأتُ أدمن تلك النظرة منك.”

في كل مرةٍ يراني فيها أحدكم ويصدم بذلك الشكل، أشعر بمتعةٍ غريبة تتعدى حدود التسلية إلى نوعٍ من التطهير الداخلي. لم أكن أعلم أن لديّ ميولًا سادية كهذه.

“هايلي.”

وضع ميكيلان الطبق بعنفٍ وتقدم نحوي بخطواتٍ سريعة. لم يكن لديه ذرة خوف، وكأنه فقد صوابه تمامًا. لولا أن دوريان وقف بيننا، لكان أمسك بياقتي بلا تردد.

“جلالتك، احذر!”

واو، أداءٌ تمثيليّ متقن.

دوريان وقف حاجزًا بيننا وهو يحدّق بي بحذرٍ شديد.

قال ميكيلان بصوتٍ مفعمٍ بالغضب:
“حين أعلنت الممالك الثلاث أنكِ عدوة للبشرية، كان لديهم سببٌ وجيه. حتى لو لم يكن بسبب والدي، فكنتِ ستنالين العقاب نفسه لا محالة.”

“كفى.”

لم يكن عندي أدنى نيةٍ للاستماع لهذيانه. كنتُ قد مللت حتى النخاع، وكل ما أردته هو إنهاء ما جئتُ لأجله والرحيل.

“اسمع، إن كنت تريد الخروج من هنا، فافعل ما أطلبه منك حرفيًا.”

“ماذا؟”

“تواصل مع الكنيسة، واطلب منهم أن يُطهّروا الماجي التي تُحيط بالقصر.”

♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪ ─┄── ♡ ֪ ࣪

حسابي على الإنستا:@empressamy_1213

حسابي على الواتباد: @Toro1316

ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧