متى كان ذلك؟ أتذكّر أنّني رأيتُ خنازير تُساق إلى المسلخ محمولةً على شاحنة صغيرة فوق طريقٍ غمره الغروب.
عندما كانت الشاحنة تدور عند المنعطفات ، كانت الخنازير تتأرجح و تصرخ هنا و هناك.
على أردافها البيضاء كانت تُطبع أختام أرجوانية و حمراء. في ذلك الوقت ، كنتُ أعاني من الاكتئاب.
أوقفتُ السيّارة و بكيتُ بكاءً مرًّا.
ربما بكيت لأنّ الخنازير كانت مثيرةً للشفقة ، أو لأنّ الشريرة في الرواية التي كنتُ أقرأها كانت مثيرةً للشفقة أيضًا.
الشريرة هايلي.
أحزنني أنّها تشبهني. تتظاهر بالقوّة و تتصرّف و كأنّها لا تعاني من حرمانٍ عاطفي ، تمامًا كما أفعل أنا.
“… هه؟”
لكن هذه المرّة ، كنتُ أنا من حُبِسَ داخل قفص حديديّ على شكل حظيرة خنازير.
العربة ذات العجلات تهتزّ و هي تتحرّك.
لم أكُن قد استوعبتُ بعد ما يحدث ، حين بدأت الحجارة و النجاسات تنهال عليّ.
“أيتها الساحرة الشريرة! موتي ، موتي!”
“أنتِ من يجب أن يُمحى من هذا العالم إلى الأبد! أنتِ وحش بلا دم ولا دموع!”
كانوا جميعًا غاضبين. أخذوا يذكرون خطايا لم أرتكبها ، ثمّ لعنوني ، و احتقروني ، و كرّهوني.
ما هذا بحقّ الجحيم؟
“هايلي! احترقي في الجحيم إلى الأبد!”
و لماذا ينادونني بـ “هايلي”؟
“موتي في قلعة مارون ، أيتها الحقيرة!”
هايلي؟ هايلي مارون؟
لا يُعقل! لقد تخلّيتُ عن تلك الرواية منذ زمن!
بكيتُ بحرقة و أنا أقرأ الرواية الجانبيّة من منظور الشريرة ، ثمّ شعرتُ بالنفور من أبطال الرواية الرئيسيّين فحذفتُ كلّ ما يخصّها.
و لكن … لقد أصبحتُ تلك الشريرة.
***
السماء زرقاء. و الغيوم بيضاء.
“عفوًا. متى سنصل؟ أشعر أنّ أردافي ستُصاب بالكدمات”
“اصمتي”
“نحن الآن على حدود مملكة كاسناتورا ، صحيح؟ و اسمي هو هايلي مارون ، صحيح؟”
“توقّفي عن التظاهر بالجنون! أظننتِ أنّ شيئًا سيتغيّر؟”
مجرد سؤال طرحته ، و مع ذلك انطلق السوط باتجاهي.
لحسن الحظ كنتُ محبوسة داخل القفص المعدني الصلب ، فلم يُصِبني مباشرة.
“لمَ لا أستطيع حتى أن أسأل؟”
“قلتُ لكِ … اصمتي.”
“لا تتحدثوا إليها. ستنالون لعنة.”
الرجل الذي كان يلوّح بالسوط ارتجف كتفاه قليلًا عندما سمع تحذير زميله.
بصراحة ، كان الأمر مضحكًا.
“مضحك. لو كانت مجرّد محادثة تجلب اللعنة ، لكان فات الأوان منذ البداية. كم مرةً كلّمتكم يا جماعة؟ طلبتُ طعامًا ، توسّلتُ أن أذهب إلى الحمام ، ثم ….”
“هذه المجنونة بحقّ …”
كان الرجال فعلاً غاضبين ، لكنّهم لم يستطيعوا ضربي بسبب هذا القفص. لا أعلم ممّ صُنع ، لكنه كان قويًّا و واسعًا ، و هذا ما أعجبني.
“هايلي مارون ، اخرسي.”
قالها رجلٌ بدا و كأنّه القائد من الجهة الخلفيّة.
“و أنتم ، كفّوا عن ذلك. ركّزوا في أداء مهمّتكم”
نبرته تلك كانت نبرة “العجائز المتسلّطين”. بدا أنّه يحتلّ منصبًا رفيعًا ، لأنّ كلّ الرجال حول القفص التزموا الصمت حين تحدّث.
لكن أنا؟ لم أفكّر في التزام الصمت إطلاقًا.
“يا عم ، فقط أخبرني متى سنصل. إن كنتم لن تسمحوا لي بالذهاب إلى الحمام ، فلا داعي للطعام. فقط أودّ أن أنام قليلًا إن كانت الرحلة طويلة”
لحسن الحظ كان الجوّ دافئًا لأنّه أواخر الربيع. لو كان شتاءً باردًا ، لما احتملتُ ارتداء هذا الفستان الرقيق وحده.
لم يكن في القفص أيّ بطّانيّة أو جلد مفروش.
أردافي تؤلمانني. مجرد الجلوس على الأسفلت يؤلم ، فما بالك دون وسادة في طريقٍ غير ممهّد.
“يا عمّووو”
“…….”
قرروا تجاهلي تمامًا الآن. يبدو أنّهم حقًّا يخافون من “العجوز”.
لا بأس.
مددتُ يدي من بين قضبان القفص و سحبتُ عباءة أقرب رجلٍ إليّ.
“آآه! أتركيها! أتركيها حالًا!”
“أعطني إيّاها فقط لأنام فوقها.”
فقد الرجل توازنه فوق حصانه. و الرجل الذي بجانبه صاح و أخرج سيفه.
هدّدوني بقطع معصمي إن لم أتركها ، لكنّني لم أستسلم.
“إن لم تُعطني إيّاها ، فسألعنك”
قلتُ ذلك بصوتٍ مخيف كما في قصص الرعب، فصرخ الرجل وألقى بالعباءة بعيدًا.
“نَعم!”
كانت عباءةً جيّدة.
فستاني كان فخمًا لكن بلا أيّ فائدة عمليّة ، وهذا أحبطني.
أمّا هذه العباءة، فتنفع كغطاء، أو فرش، أو حتى تُرتدى.
سحبتُها من بين القضبان واحتضنتها وأنا أبتسم بخبث.
أه، الآن يمكنني الاحتمال قليلًا.
لففت العباءة حول جسدي وانكمشت مثل يرقة.
كلّما فكّرت في وضعي المزري، ضحكت.
التجسد داخل رواية؟ جيّد. التجسد في جسد شريرة؟ يمكنني التحمّل.
لكن أن تكون هذه الشريرة تحت حكمٍ بالإعدام القريب؟ أليس هذا كثيرًا؟
“اللعنة.”
كانت السماء زرقاء. و كانت الغيوم بيضاء. و كان الفصل أواخر الربيع.
و أنا ، كنتُ هايلي مارون.
قاتلةٌ أدّت سحرًا محظورًا و أوقعت أناسًا كُثُر في الشقاء. كانت تقوم بأيّ شرّ مقابل المال. عدوّة الممالك الثلاث.
و في النهاية ، تسبّبت بأذًى لشخصٍ من العائلة الملكيّة ، فحُكم عليها بالإعدام الشنيع.
“[رسلوها إلى قلعة مارون لتلقى حتفها هناك]
كانت الوجهة أرضًا مهجورة لا تنتمي إلى أيّ دولة.
قالوا إنّها ملوّثة بالسحر لدرجة أنّ البشر لا يستطيعون العيش فيها، وذلك منذ أكثر من مئة عام.
أرادت الممالك الثلاث أن تقطع رأس هايلي ، لكنّ الكنيسة عارضت.
قالوا إنّها تستخدم سحرًا محظورًا ، و إنّ مجرد قطع الرأس لن يُطمئنهم.
ولذا قرّروا إرسالها إلى قلعة “مارون”، وهي مكان ناءٍ تمامًا.
ما إن تُلقى هناك، ستموت من تلقاء نفسها.
في أرضٍ ملوّثة بالسحر، لا يمكن للبشر البقاء. ولا يمكنهم الخروج أيضًا.
ما إن يتنفس المرء الهواء هناك، ينسى من يكون، ويتحوّل إلى جثةٍ شاردة إلى الأبد.
ولهذا تستخدم الكنيسة ذلك المكان لرمي من لا يمكن قتلهم علنًا.
أمثالي ، يُضاف إلى اسمهم “مارون” ، ثم يُلقون هناك.
“يا عم ، اسمعني”
أخرجتُ رأسي من تحت العباءة، فتقابلت عيناي مع أحد الرجال، فبصق باتجاه القفص.
يا إلهي. أنا أكره هذا النوع من الناس.
دائمًا ما يبصق أمثالهم على الطرق أو على الناس. أتمنّى أن تعيش عبدًا تحت أقدام غيرك طوال عمرك.
نظرتُ إليه بلعنةٍ صامتة ، فتغيّر لون وجهه فجأة.
لو كان سيخاف بهذا الشكل ، فلماذا يحرص على مضايقتي أصلًا؟
“إن كنتِ تملكين أسئلة، فاسأليها لي.”
اقترب العجوز المتسلّط من القفص وتنهد.
عندما دقّقتُ فيه ، رأيتُ شعره الأبيض و لحيته البيضاء بشكلٍ أنيق.
“أخبرني فقط … مملكة ذات اسم من كلمتين ، هل ملكها مات؟ أم لم يمت بعد؟ إنّه ليس خطئي ، زوجته هي من دسّت له السمّ، أخبرهم بذلك من فضلك ، أظنّه سيشعر بالظلم”
“لن يُفيد خداعك هذا. نحن نحظى بحماية الكنيسة”
“إذن، على الأقل اتركوا لي بعض المال قبل أن تتركوني هناك. وشيئًا من الطعام. من يعلم؟ ربما أعيش ولا أموت.”
لو كان لديّ مال، قد أشتري خبزًا أو ملابس يومًا ما في قريةٍ قريبة.
نظر إليّ العجوز بوجهٍ لا يُمكن قراءة مشاعره.
“يقولون إنّكِ جمعتِ ما يكفي من المال لبناء مملكة على الشرّ. أين ذهب كلّ هذا؟”
“إشاعات فارغة.”
ربما كانت هايلي الحقيقيّة تملك الكثير من المال، لكنّي لستُ هي.
الكتاب لم يذكر أبدًا أين خبأت مالها. وعلى أيّ حال، ستموت بعد عامٍ فقط.
“تبًا…”
التففتُ من جديد داخل العباءة و استلقيتُ.
لا أمل في أن يعطوني مالًا، ولا طعامًا لذيذًا أيضًا.
يدي التي خرجت من تحت الفستان كانت ناعمة، ومعصمي نحيفٌ كأنّه سينكسر، وشعري الذي يشبه الورود ما زال يفوح بعطرٍ لطيف.
هايلي … لم عِشتِ حياتكِ هكذا؟
حتى إن كنتِ تفعلين ذلك من أجل الآخرين، ألا تعلمين أنّ فعل الشرّ سيقودكِ في النهاية إلى هنا؟
قتلتِ من أجل شخصٍ ما، لعنتِ من أجل شخصٍ ما، وارتديتِ وصمة العار من أجل شخصٍ ما.
لكن أولئك الـ “شخص ما” أصبحوا أبطال هذا العالم.
تخلّوا عنكِ.
أداروا ظهورهم لكِ.
قتلوكِ.
وصاروا هم الأبطال. “هاه ، يا لهذه الحياة ….”
العرق بدأ يتصبّب داخل العباءة.
شمس منتصف النهار كانت تُسخّن القفص المعدني.
ضممتُ نفسي بين ذراعيّ، واندفنتُ في الداخل، متكوّرةً بكلّ ما فيّ من قوّة.
رأيتُ حلمًا غريبًا.
جاءتني هايلي و هي تصرخ: “أعيدي إليّ ساقي!”
فأجبتها: “يجب أن تطلبي جسدكِ بالكامل ، لا ساقكِ فقك!”
عندها جلست على الأرض و بكت بحرقة.
“لقد وصلنا!” ما إن سمعتُ تلك الكلمات ، حتى جلستُ بسرعة.
لقد وصلنا حقًّا. كان هناك وادٍ أسفل منحدر.
الطريق إلى قلعة مارون.
بين ممرّات الوادي الضيّقة ، كان صوت الرياح يبدو وكأنّه صراخ أشباح.
ولولا أنّني أعلم أنّه بسبب الريح، لكنتُ قد أصبتُ بالقشعريرة.
“استعدّوا.” نظر إليّ العجوز ثم أمر أتباعه.
اعتقدتُ أنّهم سيخرجونني من هذا القفص الذي بدأتُ أتعلّق به.
رفعتُ أردافي و جلستُ باستعداد. لكنّهم لم يفتحوا القفص.
كانوا يفكّون الجزء الذي يربط العربات بالخيل.
“ألن تخرجوني الآن؟”
أحداث الرواية لم تبدأ بعد.
أنا أعلم سبب تخلّيهم عن هايلي ، لكن لا أعرف كيف فعلوا ذلك بالضبط.
و لذلك … لدي شعورٌ سيّء.
“أخرجوني! سأمشي بقدمي إلى الداخل!”
أنا جادّة. السحرة الذين يُسحب منهم المانا يُصبحون ضعفاء مثل ورقٍ خفيف.
لذا لن أستطيع المقاومة أصلًا.
“هايلي مارون.”
قال العجوز وهو ينظر إليّ بعمق: “تأمّلي خطاياكِ إلى أن تنتهي حياتكِ في الأرض الملعونة. الربّ يراقبكِ.”
كلاك! انفصل القفص و سقط.
تعلّقتُ بقضبانه بينما كنتُ أصرخ، ممسكةً بالعباءة بقوّة.
“لا! أيّها الأوغاد عديمو الرحمة! لن تلقوني هكذا، صحيح؟ إلقائي شيء، أمّا هذا … ليس عدلًا! أخرجوني! دعوني أمشي بنفسي على الأقل!”
“ارمِوها.” بدأ الرجال يدفعون القفص.
رغم وجود طريقٍ واضحٍ في الوادي ، إلا أنّهم قرّروا دفعه نحو الهاوية.
“واحد، اثنان، ثلاثة!”
“أيها الحثالةااااااااااا!”
كنتُ أصرخ بأعلى صوتي و أنا معلّقة في القفص. أطلقتُ كلّ الشتائم التي أعرفها.
لكنّ ذلك لم يُفد.
حتى النهاية، كلّ ما نالته هايلي كان الكراهية والاحتقار.
هؤلاء الذين يدّعون تنفيذ مشيئة الربّ غرقوا في نشوة “العدالة”، وظنّوا أنّ كلّما كانت نهاية هايلي أكثر مأساوية، صار هذا العالم أكثر سلامًا.
“موتي!”
“لا تعودي أبدًا، أيتها القاتلة النجسة!”
“كفّري عن ذنوبكِ في القاع إلى الأبد!”
مستحيل. أهكذا تمّ التخلّي عنها؟
كيف بقيَت على قيد الحياة لعامٍ كامل بعد هذا؟
حتى و أنا أسقط ، ظللتُ أُبدي إعجابي بهايلي.
يا لها من امرأة مذهلة. قُذفت و هي داخل قفص إلى قاع وادٍ … و مع ذلك عاشت.
وووو- الريح تهبّ.
كنتُ أطير في السماء.
وجوه أولئك الرجال الذين دفعوني اختفت بسرعة. و ظهرت سماءٌ زرقاء سخيفة و غيومٌ بيضاء.
***
ماتت هايلي.
منهم من شعر بالراحة حين سمع الخبر.
و منهم من مزّقه تأنيب الضمير.
و منهم من نسي وجودها أصلًا.
من صعد العرش بقوّتها ، و من نجح في الانتقام بفضلها ، و من غُفرت ذنوبه بتضحيتها … كلّهم ظنّوا أنّ هذه النهاية تعني نهايتها.
مجرّد ساحرةٍ أحبّت الجميع حبًّا شديدًا ، و أرادت أن تُحَبّ بالمقابل.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات